صفحات الثقافة

“حوارات لقرن جديد”: عن الكتابة والأمان خلف القضبان/ أسامة فاروق

 

 

فعل القراءة يعنى أن يكون المرء في حالة تأهب مستمر ضد جميع أشكال القهر والاستبداد

“ذات مساء من شهر يناير لمحنا بقرة تتأمل الغسق من أعلى الشرفة الرئاسية، تخيلوا بقرة في شرفة الوطن”. غابرييل غارسيا ماركيز (خريف البطريرك).

اتصلت ماريا إلفيرا سومبير محررة مجلة “الكتاب”، مرات، بهاتف غابرييل غارسيا ماركيز، لتطلب مقابلة لمجلتها. وبعد محاولات عديدة، وافق الروائي الكولومبي الشهير أخيرا لكن بشرط واحد فقط “ألا نتكلم في السياسة”. وافقت ماريا على الشرط خاصة مع التوضيح المفحم لصاحبه بأنه توقف عن الحديث في السياسة “منذ اللحظة التي أدركت فيها أننا لا نعرف من يصدق كلامنا، ولا نعرف من يقول الحقيقة، ومن يتفوه بالأكاذيب”.

الحوار منشور بكامله في كتاب “الأدب بين التخييل الذاتي والتخييل التاريخي.. حوارات لقرن جديد”، الصادر مؤخراً عن “منشورات المتوسط” مع  حوارات أخرى لأورهان باموك، وأمين معلوف، وجيروم فيراري، وأمبرتو إيكو، داى سيغي، وأحمد كوروما، وماريو فارغاس يوسا.

عادة لا أميل لكتب التجميعات، حوارات أو مقالات، لكن هذه المرة الأمر مختلف، فالمجموعة منتقاة بعناية، والحوارات غالبيتها منشورة في مجلات ليست في المتناول هنا في العالم العربي، كما أن قراءة كل تلك الآراء المطروحة مرة واحدة عبر فترات زمنية متقاربة يكشف طبيعة التغيرات التي انتابت علاقة الإبداع بالواقع الذي تصدر عنه. ولعل الرابط بين هذه الحوارات، كما يشير المترجم محمد الجرطي، هو الكشف عن التغيرات التي يشهدها العالم من خلال الوعي الدائم بعملية التفاعل بين رؤية الكاتب واستراتيجيات الإبداع لديه ومختلف مكونات الإطار المرجعي الذي يتعامل معه.

الحوارات تعرض عوالم هؤلاء الكتّاب ورؤيتهم للكتابة وللحياة والمجتمع فتكشف عما وراء أعمالهم من معاناة ونضال من أجل الإبداع. لكن من بين النقاط العديدة التي يسلط عليها هذا الكتاب الضوء، ثمة نقطة جوهرية كامنة في جميع هذه الحوارات تتجسد في ظروف الكتابة التي عاشها كل روائي لحظة إبداعه وإنتاجه للنصوص الأدبية، وكيف أثرت الأوضاع الاجتماعية والسياسية بشكل خاص في بيئته على رؤيته للأدب والحياة.

سنجد مثلاً أن ما يأتي في روايات الكولومبي ماركيز، باعتباره خيالاً، يرويه الإيفواري أحمدو كوروما على أنه حقائق، ليس واقعية سحرية بل السحر الذي سيطر على الواقع، ففي إجابته على سؤال حول أبطال رواياته المستبدين والدمويين، وإن كان لذلك علاقة بالواقع يقول: “يعتقد الناس أن ما أحكيه في رواياتي ناجم عن خيال، بينما في الواقع يتعلق الأمر بوقائع حقيقية. حين أقول في مقابلاتي بأن جميع الرؤساء الأفارقة محاطون بالسحرة الذين يتمتعون أحيانا برتبة وزراء دولة، يقال لي بأن القادة السياسيين الفرنسيين أيضا لديهم سحرة.. في إفريقيا، ليس هناك زعيم واحد ليس لديه ساحر أو مرابط، السحر والسلطة السياسية هي كيانات متطابقة تقريبا”.

يستطرد كوروما مدعماً حديثه بالتفاصيل والأسماء، لكن اللافت أنه لم يتمكن من أن يفعل ذلك في إبداعه نفسه. ففي بداية الحوار، يسأله محرر “مجلة السياسة الإفريقية” عن روايته “في انتظار تصويت الحيوانات البرية” التي صدرت في منشورات “ساي” العام 1998، قال المحرر إنها رواية ملحمية تربط بشكل وثيق بين التخييل والواقع، مشيراً إلى أن بعض النقاد ألصقوا أسماء قادة أفارقه معاصرين منهم سيكوتوري، وهاوفاوت، وبوسكا، وموبوتو، بالشخصيات التي وظفها في روايته، فيعلق كوروما: “أردت أن أكتب هذه الرواية بتوظيف هذه الأسماء الحقيقية، لكن الناشر صرفني عن هذا الأمر. في نظره، توظيف هذه الأسماء الحقيقية قد يؤدي إلى نزاعات قانونية خطيرة. وأردت في محاولة أخرى أن أحتفظ ببعض الأسماء فقط، على غرار هلوفارت، وموبوتو، والحسن الثاني، وبوكاسا.. غير أني لم أنجح في الأمر. فوظفت الطواطم: النمر، والتمساح، والضبع.. وهكذا قمت بعملية تمويه في إشارة إلى قادة أفارقه حقيقيين”.

يقول كوروما بوضوح أنه يكتب عن وقائع حقيقية “لا أكتب لأدعم نظرية ما أو إيديولوجيا سياسية أو ثورة. أكتب عن الحقائق، ما أشعر به”.

الأمور قد تكون أكثر فجاجة في أماكن أخرى. مثلاً، يقول التركي أورهان باموق: “كنت أقرأ وأحلم. والآن، بعد مرور 25 سنة، أدرك أني، في ذلك الوقت، لو أني ارتكبت خطأ وكتبت روايات سياسية، فكان سيقضي على، كان النظام سيدمرني”.

في 2005 قال باموق لصحيفة سويسرية إن “مليون أرميني، و30 ألف كردي، قتلوا على هذه الأرض. لكن أحداً غيري لم يجرؤ على قول ذلك”. لم يشك في ردود الأفعال التي أثارتها تصريحاته، لكنه ربما لم يتوقع أن تكون بتلك الحدة: حملات صحافية، وتخويف، وتخوين، وتهديد بالقتل، ومنفى مؤقت، وأخيراً محاكمة وصفت بالكافكاوية بناء على قانون تنص مواده على عقوبة السجن من ست إلى ثلاث سنوات لكل شخص يهين مؤسسات الدولة والهوية التركية…

حتى جاءت جائزة نوبل التي ربما أجبرت القضاء أن يخفف قبضته، لكنها لم تستطع أن تغير كثيراً في علاقة باموق بالسياسة، بل لعلها زادت الأمور تعقيداً، إلى حد وصفه للمسؤوليات السياسية التي ألقيت على عاتقه بعد نوبل، بشيء يسقط عليك من شرفة وأنت تمر في الشارع غير مكترث بما يدور حولك “لأن البلد يرزح تحت نير القمع والقهر، ولأني أتمتع افتراضاً بمكانة دولية، اضطررت لأن انصاع لهذا المصير الجديد”، كما يقول في حوار لمجلة “عالم الكتب” نوفمبر 2006. وفي الحوار نفسه يجيب على سؤال حول التغييرات التي أحدثتها الجائزة في حياته فيقول: “الشيء الأول الذي تغيره جائزة نوبل في حياتك، هو حسابك البنكي”، لكنه يعود بعدها ليقول إن الجائزة فرضت عليه أن يصبح دبلوماسيا وهو أمر صعب بالنسبة لشخص يفضل العزلة والانطواء، كما أنها أصبحت تفرض عليه التعليق على الأحداث السياسة: “تتم دعوتي في شتى أنحاء العالم لإبداء رأيي بصدد ما يحدث في الشؤون السياسية: هذا الأمر يزعجني. أنا كاتب، ولست معلقا على أحداث العالم”.

يتعجب باموق من الإصرار على إقحامه في الأمور السياسية بعد نوبل، خاصة وانه حاز الجائزة في الأدب “لا تكمن مسؤوليتي في الادعاء بإنقاذ العالم أو تغييره بخطابات سياسة، بل تكمن في الاستمرار في كتابة الكتب. لهذا السبب حصلت على جائزة نوبل، وليس لأسباب سياسية”.

والتعليق على الأحداث السياسية ربما يكون أكثر غموضاً في العالم العربي. فبعد انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية، في مقعد كلود ليفي ستروس، أجرت مجلة “لوبوان” حواراً مع الكاتب اللبناني أمين معلوف، وسألته عن الربيع العربي، فقال إنه يعيش هذه الأحداث منذ اليوم الأول بنوع من النشوة غير قادر على تصديق ما يحدث: “كما لو أن أخي التوأم كان في غيبوبة لفترة طويلة، وأن كل الأطباء توقعوا أنه لن يستيقظ أبدا من غيبوبته، وفجأة نهض وأخذ يتكلم”. تحدث معلوف بتفاؤل شديد، لعله يتراجع عنه الآن إذا سئل مرة أخرى الأسئلة نفسها.

العلاقة الملتبسة بين الواقع والخيال، وهي الملمح الأساسي لهذا الكتاب كما أشرنا، يفسرها الفرنسي جيروم فيراري في أحد الحوارات مؤكداً أن الخيال لا يناقض الواقع بل “يطهره” بالمعنى الكيميائي، ويجعله واضحا ومرئيا، شريطة التزام الكاتب بالحقيقة، حتى يكون الكاتب قد أدى ما عليه، بغض النظر عما تؤول إليه الأمور. وهي الفكرة نفسها التي يؤكد عليها أومبرتو إيكو في أحد حواراته فيقول: “لا يمكن للمرء تجنب الكتابة لمجرد أن هناك معتوهين يسيئون التأويل! حين يطبع كتاب بآلاف النسخ، فإنه يقع حتما في أيدي أناس غير قادرين على تمييز آراء الشخصيات من آراء المؤلف”.

أما البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، فيرى أن الأدب يجعل المرء يرغب في حياة أخرى، حياة بديلة عن الحياة الفعلية الواقعية التي لا تمنح الشعور بالكمال، ويعتبر أن فعل القراءة هو احتجاج ضد مظاهر عدم الكمال في الحياة “فعل القراءة يعنى أن يكون المرء في حالة تأهب مستمر ضد جميع أشكال القهر والاستبداد، فعل القراءة هو درع واق ضد مناورات أولئك الذين يريدون إيهامنا بأن العيش بين القضبان هو طريقة للعيش في أمان”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى