«أنتَ…! أنتَ…! من تكون حتى..؟»
دلال البزري
واقعة تلفزيونية اشتهرت وذاعت وألهمت صناع الكوميديا على امتداد أيام، على الرغم من القنوط السياسي. إنها طبعاً حلقة «بموضوعية» (لاحظ العنوان من البداية) على شاشة الـ»م.تي.في» والتي كان يُفترض بها أن تعرض «حواراً« بين أصحاب موقفين متعارضَين من النظام السوري: عضو التكتل النيابي لتيار «المستقبل»، مصطفى علوش، ورئيس حزب البعث الموالي للنظام السوري، فايز شكر.
الذين شاهدوا الحلقة، أو أعادوا مشاهداتها على الشبكة تكراراً، توسّلاً للمزيد من الضحك، سوف يحفظون منها عنف الشجار الذي تخللها، القلم وكوب المياه المتطايرين مع الشرَر، والكرسي المرفوع بأذرع فايز شكر فوق رأس خصمه مصطفى علوش، والألفاظ النابية… باختصار كل المقومات الضرورية لنسخة مشوّهة، ولكن واقعية عما نسميه في ديارنا «حوار».
ولكن ما سوف يبقى معلقاً في الذهن، لأنه أيضاً راسخ في الذاكرة، هو تلك العبارة التي نطَقها فايز شكر بوجه خصمه: «ليش انت مين (مَن) تكون حتى تقول عن بشار الأسد أنه كذاب؟».
في اللحظات الأولى من الحلقة، كل الأمور تمام: حوار مفترض، لا يقوم بين مواطن «بسيط» وزعيم أو قيادي، ولا بين مواطن «بسيط» وآخر، إنما بين مواطنين «رفيعَين»: شخصيتين سياسيتين، متخاصمتين صحيح، ولكنهما متساويتان، ندّيتان. على الأقل بالنسبة لمعدّ الحلقة، التي أسماها «بموضوعية»، أي من دون تحيّز الى أحد الفريقين، وأخذاً بالاعتبار الندّية المعنوية و«الوجاهية» بينهما.
فايز شكر معروف: أنه رئيس في حزب له حصة كبيرة من السيطرة الأمنية على أرض العاصمة. أعضاؤه نادراً ما يستعينون بالكراسي لمواجهة خصومهم، بل المدي والعصي والمعلومات الاستخباراتية، وأحياناً السلاح؛ كما في أيار 2008، عندما قاموا بدور توفّق أحد الظرفاء الحزبلهيين بتسميته: «الفرقة الكشفية لحزب الله»… المهم أن فايز شكر «قوي» بالمعايير السياسية اللبنانية، بمعنى أنه يقود حزباً يملك سيطرة ميدانية معينة. أكثر من ذلك: فايز شكر هو القوة «الكشفية» الضاربة، قوة الاحتياط لأضخم تنظيم مسلح عرفه لبنان في تاريخه الحديث، «حزب الله».
ولكن هل يكفي كل هذا لتفسير إخلال فايز شكر المفاجئ بالمبدأ الذي يضعه، داخل الحلقة، على قدم المساواة في المصداقية مع خصمه مصطفى علوش؟ طبعاً لا. صحيح أن عبارته «ليش انت مين (مَن) تكون حتى تقول…؟» يمكن أن تسمعها في هذا الوسط القوي المستقوي، لو تلفظتَ بكلمة تخرق مقدساته السياسية. ولكنها ليست حكراً عليه. ولا تحتاج غالباً الى سجال بين سياسيين لكي تسمعها، هذه الكلمة. بل بين مثقفين، أو مواطنين، أو فنانين، خصوصاً فنانين… وحول تفصيل سياسي أقل مصيرية من كون بشار الأسد كاذب أو صادق، أو حول تفصيل غير سياسي أيضاً.
وهي عبارة مدعومة ومصقولة برديفتها، الأكثر منها حضوراً في العاديات من يومياتنا، والتي تؤكد على تأصّلها بيننا، تلك الرديفة هي العبارة الأخرى: «ليش انت عارف حالك مع مين عمتحكي؟» ويمكن اعتبارها ملحقاً منطقياً لعبارة فايز شكر: «ليش أنت مين تكون حتى…؟»، أو النسخة الشعبية عنها، التي تدعم النسخة «النخبوية»، إذا صحّ التعبير.
«ليش أنت عارف حالك مع مين عمتحكي؟»، هو ليس بالسؤال، بل بالسلاح المعنوي الذي قد يستخدمه أي مواطن ضد آخر في شجار حول أولوية مرور، أو بين الأولاد، أو الجيران، أو في المطار، أو السوبر ماركت. كلنا سمعناها، وربما أيضاً كلنا تفوهنا بها، تلك العبارة، في لحظة من لحظات احتكاكنا أو خلافنا أو صراعنا مع آخر أو آخرين. وما يجمعها بعبارة فايز شكر هي أنها تحضر دائماً عند الاختلاف حول وجهة النظر أو الرؤية أو الذهنية أو المصلحة الصغيرة، والكبيرة أيضاً.
ما الذي تبطنه هاتان العبارتان، هذا الثنائي الذي يفاجئنا عندما نسمعه ويثير استنكارنا، وكأنه غريب عن ثقافتنا، مع أنه متجذّر فيها؟
أولاً: كرهنا للاختلاف، ويأسنا من إيجاد حل، أو حلول غير عنيفة لهذا الاختلاف أو ذاك. نرطن للاختلاف والتنوع صباحاً مساءً، ننشد للحوار أسمى الأبيات، ننشئ المؤسسات الحوارية، يرفع بعضنا شعار أن «الحوار هو الحل»… الى ما هنالك من المطوّلات التي تمدح التنوع والحوار، وترفع «أخلاقيات الحوار» الى مصاف الهدف بحدّ ذاته.
ولكننا في أقل من أعماقنا، في تلك المنطقة الواقعة بين واجهتنا وقاعنا، لم نغادر حتى الآن غرور الاستبداد. رأينا، موقفنا، «خطنا»، من المقدسات، وأي تناول لها هو من باب خرق المحرّمات. تماماً مثل أشياء أخرى؛ مثل قضايا المرأة، أو البيئة، أو ركوب السيارة. نحتفل بالمواكبة العصرية، في مظاهر المواكبة، في ألفاظها، «حوار»، «تنوّع» إلخ، ولكن نبقي توابعها الأكثر توغلاً في أعماقنا على ما كانت عليه، أيام المديد في تاريخنا. أي أن لا شرعية للآخر، ولا حل للعلاقة معه إلا بالقوة.
ثانياً: غياب المعايير. ضعْ جانباً التشريفات الأولى، والتهذيب المزيف، واللطف المريب. إن الذي يقول «ليش أنت مين تكون حتى تقول…؟»، أو «ليش أنت عارف حالك مع مين عمتحكي؟»، هو شخص قبِل في البداية الشروط الأولى للعبة، أي المساواة بينه وبين خصمه، ولكنه عند أول منعطف من الاختلاف أو الخلاف معه، ركبت رأسه فكرة أن هذا الذي أمامه أقل قيمة مما اتُفق عليه في البداية. وإذا كانت العبارة الأولى «ليش أنت مين تكون حتى تقول…؟»، تحطّ من شأن الخصم، لترفع قليلاً صاحبها، ولكن لصالح ما أعلى منهما… وفي حالة فايز شكر، هذا الأعلى هو بشار نفسه، الذي لا يقول عنه سوءاً إلا من كان أيضاً أعلى وأعلى (من يكون يا ترى؟)…. إذا كان هذا هو المعنى المباشر لعبارة فايز شكر، فإن الثانية، أي «ليش أنت عارف حالك مع مين عمتحكي؟»، تضع صاحبها في موقع الأعلى من الجميع. فالذي يكلمه بهذه الطريقة المنافية لمقامه، لا يعلم بأنه أمام عملاق… في مجال من المجالات، وربما في كل المجالات. وبأي معايير؟ لا شيء على الإطلاق إلا ذاك النفس التشبيحي العريق، الذي يتنطّح صاحبه سيداً حراً على المواطن «البسيط» الواقف أمامه؛ وقد يكون هذا المواطن طبيباً أو سائقاً أو تاجراً…
هنا نبلغ رابعاً: بأي دفع من الطاقة الداخلية يحصل هذا السلوك التشبيحي؟ بغياب المعايير الذي يعني غياب القانون. الفراغ الذي يتركه الغياب المزمن للقانون يملأه منطق القوة السافرة الآنية، ذات المقامات المتفاوتة. ولكنها كلها تصبّ في مجرى العنف اللفظي الذي تنطوي عليه العبارة، وهو عنف قد لا يتجسد بفعل مباشر، بتهديد أو بخطر، وقد لا يتجسّد، ولكنه عنف زاحف، صاح، متغلغل في أدق الأنسجة، الاجتماعية والعقلية على حدّ سواء. عنف يحتل مكاناً شاغراً، لم يعرفه القانون، أو عرفه على طريقة صلح العرب، أي شكلياً، سطحياً، متخفّفاً.
عندما أطلق فايز شكر عبارته بوجه مصطفى علوش، «ليش أنت مين تكون حتى تقول عن بشار الأسد أنو كذاب؟»، بدا وكأنه لم يكن على علم بأن صفة «كذاب» هذه، رفعها المتظاهرون السوريون بوجه بشار الأسد. لم يكن على علم، أو تظاهر بعدم العلم. والنتيجة سيان. فالأرجح أنه كان، وهو يتفوه بكلماته هذه، يتصور بشار في قصره يطرح على هؤلاء المتظاهرين: «ليش عارفين حالهم عن مين عميحكوا؟». نعم يعرفون، عميحكوا مع قاتلهم. ولكن بشار، مثل غيره من أصحاب هذه الأقوال المأثورة، صاحب أنا متضخمة. وهو بذلك لا يختلف إلا بالدرجة عن الذي يرمي لازمته بوجه سائق السرفيس أو الجيران. وهذا معنى خامس للعبارة: الأنا المنفلشة، المتفشية، المتعايشة مع الأنا البائسة. وخطر هكذا على تطلعات بناء الدولة والقانون والمواطنة هو من أخطار الاستبداد غير المرئية.
المستقبل