أدب الفايسبوك
مشاع حلم/ عباس بيضون
حائط الفايسبوك يحقق حلماً بشرياً طالما خطر للكتَاب والشعراء، أن يكون الجميع كتّاباً. ديموقراطية الكتابة هي أول ما يتحقق. الفايسبوك يعني الكتابة والكتابة اليومية بل الكتابة بين الساعة والساعة، الفسابكة كما يسميهم أحمد بيضون يكتبون أكثر من الكتّاب الذين يحملون هذا الاسم فهؤلاء يكتبون بين يوم وآخر فيما كتّاب الفايسبوك يمضون ساعات على حائطهم، لا يكتبون فحسب لكنهم ينتظرون تعقيبات قرّائهم الذين تبدأ ردودهم منذ ان ينهي الفايسبوكي مقالته، والتعقيبات هي في الغالب «لايكات» وبعضها أكثر من لايك، كلام محبّذ في الغالب ومنتقد أحياناً، والمقال قد يستدعي الكلام الشاكر على الأرجح والراد في القليل، وإذا كان رداً فقد ينشب هنا شجار صغير لا يلبث أن يسوى على نحو ما، وقد تكون التسوية إخراجاً للخارج على آداب الفايسبوك من الحلبة، أما الكلام الذي يستدعي ردوداً فهو الكلام الذي يتضمن رأيا في مسائل لا إجماع عليها، مسائل للسياسة فيها نصيب واسع والرادّ عندئذ قد يكون جارحاً ومهيناً، فمسائل السياسة سرعان ما تعصف وتخرج المرء عن طوره. يتراءى لي أن الأصل في الفايسبوك هو المصانعة ولو جاءت على سبيل التهكم، فاللطف هو شارة من يزور الآخر في بيته، والمجاملة آيته، فالدخول إلى حائط واحد اشبه بزيارة وللزيارة آدابها. وأن يخرج واحد على هذه الآداب فذلك يستدعي طرداً، والطرد يتطلب نقرة أو نقرتين فيكون المقتحم قد صار خارج الباب.
الحائط مشرّع وهو يستقطب أصدقاء، بعضهم بل أكثرهم في أحيان، جديد، والأصدقاء يتوافدون من بلدان شتى، وقد يتأخر الأصدقاء الشخصيون عن طلب الصداقة ولهذا مفارقته. المهم ان الفايسبوك يفتح الواحد على مجتمع افتراضي، أفراده لا يعرفهم إلا بالاسم. هذا إذا كانت أسماؤهم حقيقية، إنك هكذا تبني صداقات لا شخصية، صداقات لها من التواصل ما ليس في أحيان لصداقة او علاقة شخصية. لكن هذا لا يتم بدون انتقاء، فمن بين المئات وربما الآلاف الذين يُقبلون في لائحة الأصدقاء اعتباطاً في الغالب. إذ يصعب التحقق من أفراد بهذا العدد، من بين هؤلاء تنشط نواة قليلة في الكتابة والتواصل. إذا كان العدد بالآلاف، بدا هؤلاء جمهوراً أكثر منهم حلقة والحلقة المعنية قد لا تتجاوز العشرات. لكننا في كل حال، في مجتمع افتراضي، والحائط مجال لقاءات قصيرة، قد لا تتجاوز «اللايك». قد تصل إلى أبعد، إلى عبارات متبادلة، وقد تتبنى قلة مقالة الواحد المعني فتنقله إلى حائطها، ويمكن ان تنشأ في هذا المجال علاقات أوثق، فثمة من يداومون على قراءة مقالات واحد والتعقيب عليها. انهم بذلك صفوة الصفوة من القراء وعددهم يحصى بالآحاد والعشرات. أي ان المجتمع الافتراضي، إذا كان بالآلاف، يبقى صامتاً وبعيداً ومع الوقت يبدو غير موجود، إذ لا تصدر عنه أي بادرة ولا ينشط لشيء. إنه لا يبادل ولا يتواصل، وبالطبع، فإن هذا الحشد يوجد كأسماء في البداية ثم لا تبقى الأسماء نفسها إذ تختفي في النسيان، هذا إذا أحاطت الذاكرة بهذا العدد يبقى من «الجمهور» نواة قليلة بالقياس إلى الجمهور. نواة من عشرات، وربما أقل، هي التي تبادل وتتواصل، وهي التي تقرأ وتتأمل وترد وعلى الأقل تكتفي بالتحبيذ والمصادقة. هذا لا ينفي بالطبع عن مجتمع الفايسبوك افتراضيته، وإن كان يضفي على هذه الافتراضية شيئاً من الدوام تكاد معه هذه الافتراضية ان تفقد من مسرحيتها وأن تتحول، مع الوقت، إلى ما يشبه أن يكون علاقات فعلية. علاقات تبقى أداتها مع ذلك، هي هذا التبادل الخيالي.
مع ذلك، تعيدنا هذه اللايكات وهذه العبارات المحبذة والمادحة التي تستدعي ردوداً من النوع نفسه إلى المجتمع وإلى اللياقات الاجتماعية، ليس المجتمع الافتراضي سوى مجتمع بهذا المعنى. مجتمع له آدابه ولياقاته ومجاملاته. الناس يتكلمون على حائط الفايسبوك كما يتكلمون، فيما بينهم، بل إن حائط الفايسبوك بوصفه مكشوفاً وعرضة للمشاهدة يستدعي أصولاً ولياقات إضافية، هي ذاتها التي تستدعيها الزيارات أو مناسبات الظهور الاجتماعي، يمكننا ببساطة ان نلاحظ ان التحبيذات لا تطال الكلام فحسب بل صاحبه أيضاً، فهذه اللايكات وأكثر منها هي نفسها على الصور الشخصية، وهي نفسها على أقل العبارات استدعاء للتفكير ثم إن أصحاب الحيطان تنبهوا إلى ما في الحيطان من قابلية اجتماعية فباتوا ينشرون على صفحاتهم أخبار الأعراس والولادات والوفاة وهذه مناسبات اجتماعية مشهودة والأصدقاء يسارعون إلى التهنئة والتعزية فيتحول بذلك المجتمع الافتراضي إلى مجتمع بكل معنى الكلمة، له مجاملات المجتمع ومناسباته واصطلاحاته.
ثم نعود إلى أدب الفايسبوك، والسؤال الأول هو هل يؤسس الفايسبوك لأدب جديد، سماته الشخصانية والتهكم واللهو وخلط المحكية وبالفصحى. لا نرى هذه السمات بارزة إلا في نبذ فايسبوكية لا ينسبها أصحابها إلى الأدب، ثم إننا إذا تأملنا وجدنا ما يُنسب إلى عصر الوصول من تسليع الشخصي والخاص والاختبارات الذاتية، بيد أننا لا نجد انها تدّعي الأدب أو تطمح إليه. هناك بالطبع أدب في الفايسبوك وأدب كثير ووافر، بل إن هذه الكثرة والوفرة تجعلنا نشعر بأن حلم تعميم الشعر بوجه خاص وتحويل الناس كافة إلى شعراء هما قيد التحقيق. حائط الفايسبوك بل حيطان الفايسبوك تطلعنا على كمّ وفير من الشعراء، أسماء لم نسمع بها ولولا الفايسبوك لما عرفناها، يعيدنا إلى ذلك إلى تلك الفكرة التي تعتبر الشعر حمار الفنون على غرار ما كان يعتبر الرجز حمار الشعر لسهولته وتهافت الشعراء عليه، ليس في قولنا حمار الفنون إلا معنى أن الناس شعراء بالسليقة وأن الشعر هو فن الفطرة، ذلك بالطبع يناقض ما نعرفه اليوم من عزلة الشعر وانزوائه. بيد أن ذلك لا يقلل من الشعراء والفايسبوك شاهد على ذلك. للفايسبوك فضل أن يعرّفنا على هؤلاء الشعراء الخفيين الذين نجدهم كثيراً على صفحاته. ثمة بين هؤلاء من لا يكاد ينشر إلا شعراً وقصيدة بعد قصيدة نكتشف بحق شاعراً أو شاعرة. في أحيان كثيرة نكتشف شعراء يستحقون هذه الكلمة، نكتشف غير شاعر أو شاعرة. يملكان كل ما تتطلبه الجِدة والبكوريه من قدرة على الامتشاق والقبض والتحويل والطراوة والطزاجة. غالباً ما نجد ان هؤلاء الشعراء يتعارفون وأنهم يؤسسون على صفحات الفايسبوك زمراً وجماعات، بل نكاد نشعر أن ثمة خيطاً فايسبوكياً يجمع بين أفراد منهم وأنهم يتفاعلون فيما بينهم ولا ندري على وجه الدقة أثر الفايسبوك في ذلك، فهذا الشعر شعر بكل المعاني ونحن نقيِّمه ونثمنه بحسب مفهومنا للشعر وبحسب قراءتنا، ولم نصل إلى أن نميّز بين شعر الفايسبوك وغير الفايسبوك إلا أننا نلاحظ على ما نفضله من شعر الفايسبوك ما نفضله في كل شعر: الامتشاق والقبض والتحويل.
الأدب والفايسبوك: موت القارئ/ سامر محمد اسماعيل
هل صفحة الفايسبوك هي كسوق الجمعة ومجلة الحائط فيها من كل واد عصا هل هي نعي للقارئ، أم انها فضاء حرّ واسترداد لمكانة الشعر وخروج من عسف الأدلجة.
يقدّم الدور الثوري الذي قدّمته المطبعة، في تاريخ الثقافة والفكر الإنسانيين، دليلاً أكيداً على الأدوارـ وإن لم تكن بذات السوية ـ التي لعبتها كلّ أشكال التطوّر التي أصابت أدوات الكتابة ووسائل إنتاج المطبوعات. إذ لم تكن المطبعة سوى نتيجة للعلاقة الجدلية بين السلعة وأداة الإنتاج، وبالتالي بين المستهلِك والمنتِج. وهذا ما ينسحب على الفايسبوك كحيّز من الشبكة العنكبوتية، بإضافة تُحتسب له، إذ يقوم بدوري أداة الإنتاج وعلاقة الإنتاج معاً ـ هذه حالة جديدة ـ يقول الناقد ياسر أسكيف ويضيف: «في تاريخ الكتابة على مُختلف أنواعها وخصوصاً الشعر لا تبدو حصّة الأشكال الأخرى من الكتابة وافرة، ذلك أنّ حجم المادة المكتوبة من أهم العناصر التي تحكم علاقة التواصل والتلقّي».
ومن الجديد في استخدام الفايسبوك أنه يلعب دوراً مُركّبا في الإنتاج الأدبي إذ تتم من خلاله وفي زمن قياسي عمليات الكتابة (كفعل ذهني) والطباعة والنشر والتوزيع والتلقي ـ يوضح أسكيف متابعاً: «نضيف إليها نتائج التلقّي عبر ردود الأفعال التي تتراوح بين التجاهل والتفاعل النقدي على مُختلف مستوياته؛ فمما بات واضحاً أيضاً هو الخدمة المجّانية التي يقدمها الفايسبوك في عمليتي الطباعة والتوزيع، وفي إلغاء دور الرقيب بأنواعه كافة، مما أعطى الثقة بالنفس للهامشيين الذين كانوا يتردّدون في عرض منتجهم الأدبي كسلعة صالحة للتداول».
برأي الناقد ياسر أسكيف أن الفايسبوك ألغى أشكال السلطات الثقافية المعيارية كافة التي تتدرج من الرسمي إلى الديني مروراً بالمستقل المتمثل بالقائمين على المنابر الإعلامية والثقافية (صحف ـ مجلات ـ دور نشر) ومن اللافت بخصوص الفايسبوك أيضاً أن تجارب أدبيّة عديدة، وخاصّة في مجال الشعر، قد أثبتت حضورها الإبداعي البيّن، مع أنها لم تختبر النشر الورقي من قبل، وربّما كان صوتها سيبقى مكتوماً لولا هذه الأداة التي توفّرت لهم.
غير أن البعض يعيب على الفايسبوك كوسيلة أنه يمنح فرصاً متكافئة للسويات المُتباعدة إبداعياً ـ يعقب الناقد (أسكيف) ويضيف: «أنه يفتقر إلى المعيارية التي اختص بها سابقاً القيّمون على النشر؛ الذين يحتكرون لأنفسهم كل المعايير والموازين. لكنّ هذه التجربة الجديدة في الإنتاج الأدبي، التي لا تزال في أطوارها الأولى لا بدّ أنها ستنتج نواظمها ومعاييرها الإبداعية، وكذلك النقدية، من ذاتها، على أساس العلاقة الجدلية التي تربط تفاعليّاً بين أدوات الإنتاج وعلاقاته من جهة، وبين السلعة وأدوات الإنتاج من جهة أخرى».
الشاعرة والروائية نادين باخص ترى أنه بعد أن كنّا ننتظر سماع ما سيقرأه الشعراء من جديدهم على المنابر، صار علينا ترقب ما يكتبونه على صفحاتهم، ومتابعة ما تقدمه الحياة الافتراضية من أصوات جديدة. من جانب شخصي ـ تقول الأديبة السورية: «فايس بوك دمّر حبري، وجعلني عاجزة عن الإمساك بقلم والاستسلام لبياض الورقة، وحوّل أفكاري ومشاريع نصوصي إلى لمحات مقتضبة تتناسب ومساحاته الضيقة التي تشبه ساحات مطاعم الوجبات السريعة. وبشكل عام فايس بوك هو سيف ذو حدين، من جهة بات منبراً لمن لا منبر لهم، وفي الوقت نفسه صار على المتلقي تحمل وبال ما يرميه الكثيرون من نصوص لا ترقى لتكون أشباه نصوص شعرية حتى، إلا إنه كثيراً ما يكون لسلطة (اللايك) دور في توجيه انتباه الآخرين إلى هراء لا يستحقّ التوقّف عنده، في حين أنّ كثيراً من حالات شعرية تكتفي بإعجابات لا تتجاوز أصابع اليد، وتطويها (بوستات) كثيرة من دون أن تنال حقّها».
في الواقع بات لأدب (الفايسبوك) مفرداته المستمدة من عالمه الافتراضي ـ تتابع نادين باخص: «بات الموقع الأزرق هاجس (اللايك) والتقييم بعدد ضغطات رمز (أعجبني) أموراً في صلب واقع الحياة الافتراضية. وكما في الواقع كذلك في الحياة الافتراضية، هنا نفتقد منبراً ورقياً حقيقياً خاصاً بالشعر وهناك بالكاد نقع على الشعر، لكن لا يمكن إلغاء أهمية الفايسبوك في تقديم أصوات كان من الصعب عليها الوصول إليك أينما كان مكانك في هذا العالم (الكبير)».
سوق الجمعة
لا أدري مبعث الشعور الخفي الغريب الذي يتملّكني كلما فتحت صفحتي على الفايسبوك ـ يقول الناقد والروائي نذير جعفر: «شعور كما لو أني في «سوق الجمعة»! إذ تتنوع المعروضات إلى حد ليس بوسع أحد المرور بها كلها فكيف بالتأمل فيها! لكن في فوضى هذا السوق العجيبة وبين ركام البضائع البالية والكاسدة كنتُ أعثر أحياناً على طبعات نادرة من أمهات الكتب والدواوين الشعرية والروايات وحتى اللوحات التشكيلية الثمينة التي لا يعرف البائع قيمتها! حال الأدب على الفايسبوك هو حال سوق الجمعة تماماً، حرية في العرض خارج عيون الرقابة، علاقة مباشرة بين العارض ومتلقي العرض لا تخلو من حوار عابر يتعلق بالقيمة والأهمية والمغريات والمحبطات».
لا تخلو صفحات التواصل من نصوص شعرية وقصصية وحتى روائية ونقدية ذات أهمية بالغة، فقد أدرك المبدعون أن صفحات التواصل هي بساط الريح الذي يصل بنتاجهم إلى أقاصي الأرض بلمح البصر ـ يعقب الناقد نذير جعفر ويضيف: «لكن غياب المعايير النقدية والمتابعة الجادة لما ينشر ومناخ المجاملات السائد عبر (اللايك) يفسح المجال أمام الجميع لعرض نتاجهم مهما كان هزيلاً؛ ما يدفع بهم لوضع الورد والشوك أو الألماس والتنك في سلة واحدة»!
النشر على الفايسبوك كما يراه الناقد جعفر: «يكون تلقائياً وابن لحظته ويتلقى ردود فعل تلقائية مباشرة وابنة لحظتها أيضا على مستوى المعمورة كلها! وتلك إيجابية لا تحققها أي وسيلة نشر أخرى، والقضية ليست متعلقة بالوسيلة ذاتها بل بما تُحمَّل به أحيانا من غث وسقط متاع لا يستحق حتى اللعنة! الشاشة الزرقاء تغري بالكتابة لأن آلاف المتلقين غير المنظورين يمكن لهم أن يقرأوا ما ينشر على صفحاتهم في لحظة النشر ذاتها، وهذا ما يحرر النص من سلطة الخصوصية من ناحية ويجعل منه نصّاً عائماً وعابراً للقارات من ناحية ثانية».
هذه العلاقة المباشرة واللحظية بين المبدع والمتلقي – كما يوضح الأديب نذير جعفر: «قد ترتقي بتجربتهما الأدبية والثقافية معاً عندما تفتح أبواب الحوار وليس الضغط على أيقونة الإعجاب أو تدوين عبارات المجاملة والإطراء؛ فمعظم ما ينشر على شبكات التواصل من نصوص أدبية يفتقد إلى الحرفية والموثوقية وتتوزعه مفاهيم التناص والتلاص والمحاكاة الحرفية لنصوص سابقة، وقلما تجد نصّاً لافتاً ومثيرا للحوار والإعجاب».
في سنة 2010، أنشأتُ صفحةً لي على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، وكان جل ما أقرأه في ذلك الحين هو تبادل (سلامات وأشواق) الأصدقاء المكتوبة والمصورة! يروي الفنان التشكيلي بطرس المعري قصته ويتابع: «كان عدد أصدقائي لا يتجاوز العشرات، أعرفهم شخصياً جميعاً، كانت المساهمة هنا كتابة كلمات بسيطة أو سوق بعض الأقوال لكتاب ومفكرين أو نشر لوحة مما أنتجه… رويداً رويداً أصبح (الفايسبوك) موقعاً تستعمله شرائح وطبقات المجتمع كافة… تواكب هذا مع بدء الأحداث الدامية في سوريا وبدأت تتغير نوعية ما ينشر ويكتب وأصبح المدونون يجدون فيه مساحة لتمرير آرائهم وأفكارهم. وكان لنا نصيب من هذه المساهمات بالطبع فقد أسست سنة 2012 صفحة أسميتها (أبو عذاب آند فريندز) وهي صفحة ساخرة تقوم على شخصيات كرتونية صممتها لأقول على لسانها بعض الأفكار والطرف، هدفها توعوي في المقام الأول، أخاطب بها الشباب من طلبتي وأصدقائهم ومن يدخل صفحتي كنوع من تخفيف الاحتقان عبر رسائل لنقل طوباوية أو أخرى تسخر من التطرف».
مجلة الحائط
وجد الفنان بطرس المعري أن هذا النوع من الأعمال محبباً كوجبة خفيفة للقارئ أو المتصفح؛ فطرح من خلالها وجهة نظره إن كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى رياضية ـ يقول المعري معقباً: «كنت أنشر بمعدل 4 رسومات أسبوعياً تقريباً وأصبح للصفحة متابعين لا بأس بعددهم حسب ما يعطينا البرنامج من إحصائيات؛ بالإضافة إلى هذا أنشأت صفحة أخرى نشرتُ فيها أعمالاً فنية مختارة كنوع من الثقافة البصرية الموجهة لطلابي في كلية الفنون الجميلة بدمشق؛ ثم أهملتها بسبب ضيق الوقت. كذلك كتبتُ في الفترة الأخيرة بعض النصوص القصيرة أو الخواطر، لنقل الشعرية أو النثرية، تكون مترافقة مع نشر لوحة من لوحاتي… هذه هي تجربتي هنا. بشكل عام».
يرى الفنان المعري أن الفايسبوك بنشرته التي يقدمها، حالما نفتح الموقع، شيء شبيه بمجلة الحائط التي كان يصممها ويحررها خلال مرحلة الدراسة الإعدادية والثانوية، فموادها مؤلفة ـ كما يقول: «من كل واد عصا. إذا وعى الكاتب إلى ماهية أو طبيعة هذه المواقع، فبرأيي أن عليه، إن أراد التواصل مع (أو الوصول إلى) الشريحة الأكبر من القراء، فعليه بإعادة برمجة أفكاره ونصوصه بما يتلاءم معها ومع روادها؛ وإلا لن يُقرأ إلا من القلة وبالتالي ليس هناك من داع للكتابة هنا من الأصل، فقارئ الفايسبوك مثلا ليس قارئا تقليديا، لكن هذا لا يعني أن القارئ التقليدي لا يقرأ ما يُكتب على صفحات هذا الموقع. فالقارئ أو والمتابع (الفايسبوكي) ليس لديه الجلد على ما أعتقد لقراءة مواضيع يتجاوز حجمها بضعة أسطر، وهو هنا في غالب الأحيان شخص يريد التسلية وتمضية الوقت في كثير من الأحيان؛ أكثر من القراءة بهدف الثقافة أو المعرفة، يفضل المعلومة السريعة أو النص البسيط القصير أو الطريف».
من هنا وجد (المعري) أنه من غير المجدي تكريس الجهود لأكثر من هذا ـ يوضح التشكيلي السوري المقيم في برلين: «من يريد التمتع بنص أدبي ما زال يفضل الورق، حتى الآن، ولا ندري بعد سنوات كيف سنقرأ نحن وكيف سيقرأ أولادنا! بالإضافة إلى «نوع» القارئ هنا، هناك مشكلة أخرى تكمن في الكم الهائل من (الستاتوسات) الذي يغزوا البرنامج يومياً؛ الأمر الذي يجعل متابعتك لما يمر على الشريط صعب، عليك في هذه الحالة اختيار كتّابك ومتابعتهم مباشرة بالدخول إلى صفحاتهم. أي يمكنك الوصول إلى كاتبك لتقرأه، لكن هل تستطيع ككاتب أن تصل إلى الجميع»؟
برأي (المعري) هذا صعب إلا إذا كنت كاتباً مشهوراً وحتى هذا الكاتب فقرّاؤه هم غالبا من غير (عشاق «الفايسبوك) ومن يقرأه هنا هم قلة، وربما يضيع ما يكتبه في زحمة هذه (الستاتوسات).
الديوان المسروق
الشاعر محمد عُضيمة يتساءل: «ثم من أين كان سيأتي هذا التعبير الجميل (أدب الفايسبوك العربي)، لولا وجود الفضاء الأزرق. ومن أين كان للصحف الورقية أن تستوعب هذا الكم الكبير من الشعراء والكتاب؟
في البداية، كان الشعراء (المحترفون) والمثقفون (المحترفون) وغيرهم من أبناء مهنة الكتابة والنشر الورقي، يسخرون من (الفايسبوك) ومن رواده وشعرائه ـ يوضح الشاعر (عُضيمة): «كانوا يقولون بسخرية مملوءة بالغيرة: شعراء (الفايسبوك) ويقهقهون بعدها؛ كانوا يُشيعون أن (الفايسبوك) للصبيان والزعران وأولاد الشوارع وللعشاق الجدد، وكانوا ينفون عنه أية صفة جدية، فقط لأنه ليس ورقياً ومتاحاً مجاناً لمن يريد. ومازال بعضهم يمارس هذه المهنة، مهنة القهقهة على الشعراء (الفايسبوكيين)، لكن هذه المرة ليس علناً، بل في العتمة ويتلصص من وراء الباب على ما يكتب وينشر من قصائد ونصوص؛ وسرعان ما فهموا أيضاً أن هذا الفضاء الأزرق، الصافي كالسماء الصافية، ليس صفحة ثقافية في جريدة يملكها أحد سماسرة الورق، تكرّس هذا وتلغي ذاك، بل هو فضاء يتسع لجميع الألوان والأصوات، فضاء بلا حدود للحب والكراهية، للحرية والديمقراطية وللطغيان أيضاً؛ فلا تحتاج الكتابة فيه إلى إمضاء رئيس التحرير أو رئيس القسم إيذانا بصلاحية المادة للنشر».
يقوم أدب الفايسبوك، بالدرجة الأولى على المادة الشعرية البسيطة، الموجزة الخفيفة، على التغريدات الذكية، وعلى نصوص وتعليقات أقرب إلى الشعر وروحه منها إلى أي شيء آخر ـ يعقب (محمد عضيمة) ويضيف: «حتى الشتائم المتبادلة تكاد تكون شعرية؛ لولا فظاظة بعض أولاد البوادي والرمال وصَغَارهم في النقاش. ولا مجال للمطولات، شعرية كانت أو روائية أو نقدية. لقد أشاعوا وأرادوا أن تكون الرواية هي ديوان العرب اليوم، لكن أدب (الفايسبوك) يدحض هذا القول ويعيد للشعر ديوانه المسروق أو المغتصب».
أدب الفايس شعر ومن الشعر الذي يكتب لأول مرة: أغلب هؤلاء الشعراء اكتشفوا أنفسهم على الفيس بوك يقول عضيمة ويتابع: «صحح هؤلاء قصائدهم بأنفسهم على الفيس بوك، وتطوروا بسرعة مذهلة من خلال تعليقات أصدقائهم على ما يكتبون، ومن خلال نقرة الإعجاب. نعم، نقرة الإعجاب هذه ساعدت كثيراً من الشباب على تطوير نصوصهم، فصاروا يترددون في تنزيل أي نص قبل أن يكون قد استوفى ما يجلب الاعجاب».
السؤال الذي يطرحه (عضيمة) بهذا الصدد؛ هل سيكرس الفايسبوك مثلاً شعراء المرحلة المقبلة، أو نوع الشعر القادم؟ وهل ستخرج نصوصهم (الفايس) إلى العالم الورقي؟ يعني هل سيسعى أصحابها إلى طباعتها ورقيا أم يكتفون بهذا العالم الافتراضي»؟
مكان للجميع
سؤال يجيب عليه المترجم والشاعر جعفر العلوني فيقول: «في ظل الظاهرة الخطيرة التي نعيشها اليوم، والتي سبق ونوَّه إليها الفيلسوف الإسباني (أورتيغا أي غاسيت)، وهي ظاهرة الجمهرة أو الامتلاء: فأينما وليت نظرك وجدت تجمهراً واكتظاظ، فالمدن مليئة بالسكان، والبيوت بالساكنين والفنادق بالنزلاء والطرقات بالمارة، والمقاهي بالرواد، أصبحت المشكلة الكبرى اليوم هي: أن تجد مكاناً في أي مكان. من هنا، برأي، تأتي أهمية الفايسبوك، إذ إنه خلق عندنا هاجساً بأنه المكان الذي يتسع لنا جميعاً، والإنسان، بالطبيعة، بحاجة إلى مكان يمارس فيه نشاطاته. ولكن ألم يجد الإنسان غير هذا الفضاء الافتراضي ليمارس نشاطاته؟ أعبثية هي الحياة إلى درجة أن وجودنا فيها افتراضي تماما كمثل المكان الذي نمارس فيه نشاطاً مهماً كالكتابة مثلاً»؟!
من هنا يشكل (الفايسبوك) اليوم ـ كما يراه الأديب العلوني: مكاناً جديداً يطل من خلاله الجميع ليمارسوا نشاطاتهم. غير أنه وللوهلة الأولى، قد يعتقد البعض أن هذا الفضاء هو حكر على الشباب فحسب، ولكن مع مرور الوقت، وإعطاء هذا الفضاء حقه، تبيّن أن العديد من الأدباء والشعراء والكتّاب الكبار وجدوا في هذا المكان أيضاً مساحة جديدة يستطيعون من خلالها أن يكتبوا وأن يعبروا ويشاركوا نتاجاتهم الإبداعية مع أكبر شريحة ممكنة من القراء.
شخصياً، ومع بداية انتشار الفايسبوك يعقب الأديب جعفر العلوني ويتابع: «كنت رافضاً لفكرة المشاركة فيه، ولكن مع مرور الوقت، رأيتُ فيه حاجة فتحت أمامي مساحة جديدة للكتابة، للصداقة، وللقاء مع الآخر، ناهيك عن المساحة الضرورية التي يقدمها (الفايسبوك)، وهي مساحة النشر. اليوم، في ظل أدلجة الكتابة – إذ لا يستطيع الصحافي أو الكاتب أن ينشر في هذه المجلة أو تلك إلا إذا كانت آراؤه تتماشى مع سياسية المجلة والأشخاص القائمين عليها ـ يمكن أن يكون الفايسبوك هذا الفضاء البعيد عن أية أيديولوجية».
(دمشق)
مشاعية الكتابة ونجومية المهمشين/ شوقي بزيع
الفايسبوك مؤسسة مشاعية أمكن بواسطتها لأميين أن يجدوا سبيلاً لنشر ترّهاتهم، فيما انكفأ المكرَّسون عنه بعدما وجدوه مجالاً للمجاملات الاجتماعية ولكل طامح إلى الشهرة
لا أحسب أن مارك زوكربرغ، مؤسس موقع الفايسبوك قبل سنوات، كان يضع الأدب في سلّم أولوياته حين ابتكرت عبقريته الشابة تلك المنصة الهامة والمفاجئة التي لعبت منذ قيامها أدواراً خطيرة وغير مسبوقة في مجال العلاقات بين البشر. لا بل إن مارك المدفوع في لحظة التأسيس بهاجس التواصل المحدود بين أصدقائه الأقربين ورفاقه في الجامعة، لم يكن ليقدّر أن حاجة البشر المتقوقعين على أنفسهم في شرانق مغلقة إلى كسر حاجز العزلة وتبادل الهموم والشجون والمسرات، ستدفعهم أفواجاً وجماعات إلى الانخراط في مشروعه كوسيلة أمثل للصراخ أو الهمس، للابتهاج أو الاحتجاج، وللتنفيس عما يكابده الإنسان المعاصر من ضجر ووحشة وإحباط. هكذا بدأت دائرة الاستقطاب تنتقل من خانة الآلاف إلى خانة الملايين ومئات الملايين، وصولاً إلى ما يقارب الملياري مشترك في آخر الإحصاءات. ولم يكن الأمر بالطبع ضرباً من ضروب الصدفة بل هو في بعض وجوهه رد جماعي عفوي على تسليم الكرة الأرضية قيادها لحفنة من الأباطرة الكبار الذين تتجمع في أيديهم مقاليد السياسة والاقتصاد والأمن والتاريخ والجغرافيا، تاركين لمليارات البشر أن يكتفوا بدور المستهلكين والنعاج والمهمشين، والقابلين بالواقع على علّاته.
الفايسبوك بهذا المعنى، ومعه وسائط اتصال أخرى، هو نقل للعولمة من طورها النخبوي إلى طورها «الشعبوي»، حيث بات لكل فرد حق الظهور صورة ولغة على شاشته الشبيهة بمسرح هائل ومفتوح أمام كل وجه سافر أو مقنّع، وكل اسم حقيقي أو «حركي». ولأن العوائق برمّتها قد أزيلت بين البشر، فإن كل صرخة أو شعار سياسي أو موقف اعتراضي على السائد يمكن أن يحدث تأثير الحصاة التي تُرمى في المياه الراكدة، وأن تتحوّل تموجاته إلى انتفاضة شعبية، أو ربيع عربي وغير عربي، أو هيجان جماهيري يصعب ترويضه وإيقافه عند حد. فنحن هنا أمام «هايد بارك» خرافي من المواقف والخطب والأفكار والشعارات ودعاوى التبشير، أو أمام برج بابل جديد من خلائط اللغات والايديولوجيا والمذاهب العقائدية والدينية، بحيث إن كل نص سياسي أو فكري يمكن أن يثير وراءه زوابع من علامات الإعجاب، أو زوابع مضادة من التعليقات الرافضة والمستنكرة. وإذا كان الانترنت بوجه عام، وموقع الغوغل بوجه خاص، قد جعل المعرفة مشاعاً بين متصفحيه وأنزل المثقف من موقعه النخبوي المتعالي، فإن الفايسبوك قد ذهب أبعد من ذلك حين قلب هرم التراتب على رأسه وخلط أوراق اللاعبين وفقاً لمعايير وأسس مغايرة لا تمتّ لأحجام هؤلاء الفعلية بأية صلة. يكفي أن نتصفح حائط الشبكة العنكبوتية تصفحاً عشوائياً لكي نقف ذاهلين إزاء التفاوت الهائل بين العدد الضئيل لعلامات الإعجاب التي توضع تحت نص رفيع المستوى لكاتب معروف، وآلاف «اللايكات» التي تحصل عليها كاتبة ناشئة وعديمة الموهبة لمجرد أن صورتها المنشورة في أعلى النص تمتلك من الجاذبية والسحر ما يضعف مناعة الكثيرين، بمن فيهم بعض مشاهير الكتّاب والشعراء.
مؤسسة مشاعية
والفايسبوك من بعض وجوهه هو «مؤسسة» مشاعية بامتياز، حيث أمكن لجميع الشرائح والطبقات ولمن يفتقر إلى الثقافة ولمن «يفك الحرف» أن ينتمي إليه وأن يتيح لأناه المكبوتة والمغيَّبة أن تحقق ذاتها بشكل أو بآخر، بدءاً من نشر الصور المجردة واليوميات المملّة ووصولاً على إدلاء المشاركين بدلوهم في كل شاردة وواردة. وكلما ازدادت وطأة العزلة وعُقد النقص عند المشاركين، تضاعف بالمقابل إلحاحهم على البروز وعلى طلب الصداقات مع كتّاب وشعراء ومبدعين وفنانين لم يكونوا ليحلموا برؤيتهم أو التواصل معهم مباشرة في يوم من الأيام. وإذا أردت أن أستعير لهذا الموقع شعاراً ملائماً فإنني لا أجد أفضل من شعار «السفير» التي اعتبرت نفسها منذ صدورها «صوت الذين لا صوت لهم». لا يعني ذلك بأي حال أن النصوص الغزيرة التي تظهر على صفحة الفايسبوك تقع بمجملها خارج الإبداع الأدبي، والشعري على وجه الخصوص. لا بل إن هذا الأخير، وأقصد الشعر، هو أكثر الفنون إفادة من شبكة التواصل الاجتماعي. صحيح أن بعض الرسامين ينشرون لوحات لهم على الملأ، وأن بعض الروائيين ينشرون مقاطع صغيرة من رواياتهم. ولكن الصحيح أيضاً أن كل ذلك يبدو ثانوياً أمام الأعداد الهائلة من القصائد والمقطوعات الأدبية والخواطر الوجدانية والتأملية. فالشاشة الصغيرة التي تشبه مجلات الحائط في المدارس هي المنبر النموذجي لنشر الشعر والنصوص المفتوحة، التي تلقى المزيد من الرواج كلما كانت أقرب إلى الإيجاز. إذ إن الشاشة هنا أقرب إلى حائط الفرجة السريعة منه إلى المجلة الأدبية المنوطة بنشر البحوث المعمقة والملاحم الطويلة. وفوق هذه الشاشة يتجاور الكتّابُ النجوم مع المغمورين، والمخضرمون مع الناشئة، والتقليديون مع غلاة الحداثة، والموهوبون مع عديمي الموهبة ويختلط حابل الشعر بنابل الإنشاء المدرسي.
ومع ذلك كله، فقد أعاد الفايسبوك الاعتبار لفكرة الرمزيين القائلة بأن المرء لا يولد بالضرورة شاعراً، بل هو يصبح شاعراً بالدُّربة والكد والاكتساب. لكن ما ذهب إليه هؤلاء لم يكن يعني بأي حال استسهالاً لفن الشعر واستخفافاً بخصوصيته وشروطه، بقدر ما كان يلمّح إلى أن بذرة الشعر موجودة بنسب مختلفة ومتفاوتة داخل كل كائن بشري، وبأن الشخص المعني يملك أن يسلّم هذه البذرة إلى اليباس والتلاشي، ويملك بالمقابل أن يتعهدها بأسباب الرعاية والنماء والنضج. لكن الأمر مع الفايسبوك بدا مختلفاً عما ذهب إليه بعض الرمزيين حيث أخذ الكثيرون بنصف الفكرة المتعلق بمشاعية الشعر، ولم يأخذوا بالنصف الآخر المتعلق بالمكابدة والمغالبة المضنية مع اللغة وتخليصها من الرطانة والهذر والاستسهال.
هكذا اندفع الناس، والشبان على وجه الخصوص، كالسيل لتعليق كل ما يخطر على بالهم من هواجس وتداعيات وصور ومحاولات متفاوتة الجودة على جدران «كعبة» العصر الجديدة. لا بل إن الكثيرين لم يتورعوا عن استباق أسمائهم الصريحة بلقب شاعر، من دون أن ينتظروا من أحد منحهم بركة هذا اللقب الذي يطمح العرب جميعاً إلى حيازته. غير أن هؤلاء لم يرتضوا لأنفسهم أن تظل أسيرة العالم الافتراضي، ولذلك انتقلوا بقفزة واحدة إلى دنيا الواقع عبر إحيائهم للندوات والأمسيات الشعرية المتلاحقة، وصولاً إلى نشر نصوصهم التي أُعدّت على عجل في كتب ومجموعات شعرية، لا يجد معظم الناشرين حرجاً في إصدارها في ظل ما تدرّه حفلات التوقيع من أرباح مضمونة.
النجوم
أما الشعراء والكتّاب «النجوم» والمكرّسون الذين اندفعوا في البداية لنشر قصائدهم ومقطوعاتهم، فما لبثوا في ظل هذا الهرج الزجلي المتعاظم أن انكفأوا إلى الخلف، مكتفين بين حين وآخر بإطلالات متباعدة وخجولة، أو مغلقين صفحاتهم تماماً. صحيح أن الفايسبوك قد وفّر لهم فرصاً إضافية لإخراج نصوصهم وقصائدهم من عهدة الكتب التي لا نجد من يقرأها إلى رحابة الفضاء الافتراضي، ولكن الصحيح أيضاً أن قواعد اللعبة اللغوية قد اختلفت تماماً، وأن الغلبة هنا ليست للإبداع الصرف بل لمنطق المجاملات الاجتماعية والترويج الدعائي وتبادل علامات الإعجاب. ناهيك عن تعرض الكثير من النصوص الجيدة إلى السرقة والنهب والمصادرة، من دون رقيب أو حسيب. على أن كل هذه الهنّات والمزالق لا تحجب بأي حال الجوانب الإيجابية المقابلة والمتعلقة بإعلاء اللغة ومنعها من التأسّن وإحالتها إلى المجرى الهائل لنهر الرموز والاستعارات الذي لا يكف عن التدفق. فوسط غثاء النصوص المتهالكة يمكننا دائماً العثور على نصوص مفاجئة لكتّاب لم تُتح لنا متابعتهم بعناية، أو لشعراء مغمورين ملفوحين رغم يفاعتهم بلهب الإبداع وجماله الضاري. صحيح أن التسيّب يبلغ مع الفايسبوك وغيره ذراه الأخيرة، ولكنه لم يكن في يوم من الأيام حكراً على عصر بعينه، كما أنه ليس دائماً علامة أدبية سلبية. ففي ضوء اتساع الفجوة بين مستويات التعبير، تكتسب الجودة ألقها الإضافي، ويبدو الذهب وسط كثبان الرمال وأكوام التراب أكثر إثارة للفتنة منه في واجهات العرض ومحال الصاغة.
جريدة السفير 2015