أساتذة الحرية في أقفاص العبودية والسلطة
عيسى مخلوف
في حين يقف العالم أجمع مذهولاً حيال أعمال العنف التي تمارسها أنظمة الاستبداد العربية ضدّ شعوبها، كأنها بالفعل أنظمة احتلال، ينقسم المثقفون العرب في تفاعلهم مع الأحداث الراهنة، بحسب ما يمكن رصده في وسائل الإعلام المختلفة، إلى فئات عدّة. فئة أولى تمثّل الندرة ويكتب أفرادها بموضوعيّة وانطلاقاً مما تمليه عليهم مسؤوليتهم كمثقفين في لحظة التحوّل التاريخية هذه. إنهم يواكبون بالكلمة ما يكتبه المتظاهرون السلميون بدمائهم. فئة ثانية تلتزم الصمت وتتوارى كلياً عن المشهد بعد أن كانت حتى الأمس القريب رمزاً من رموز الالتزام بقضايا الشعوب العادلة، كتابة ورسماً وموسيقى وغناء. يختفي أصحاب هذه الفئة في انتظار أن تهدأ العاصفة. حينها فقط يعيدون النظر في مواقفهم واصطفافاتهم. بعضهم الآخر يجزّئ موقفه الإنساني. ينادي بالعدالة والحرية لشعوب دون أخرى، أي أنه يناهض الظلم في البحرين مثلاً، لكنه يجيزه في سوريا، والعكس. يدينه في ليبيا ويرضى به في اليمن. أما الذين صرَعونا بأغانيهم ومواويلهم الثورية ونضالاتهم اللفظية، فلقد انسحبوا فجأة خشية أن تلوّث الدماء المسفوكة حساباتهم في المصارف. البعض الآخر يبحث عن مخارج لتسويق خطابه السياسي، محاولاً التوفيق بين مبادئه المعلنة ومواقفه من طبيعة الصراع القائم. يتكلّم فرسان هذا البعض عن الديموقراطية ويدافعون، في الوقت نفسه، عن أنظمة القمع. يدّعون العلمانية فيما يدعمون أحزاباً دينية إلهية بامتياز. مفكّرون هم، لكنهم لا يفكرون ولا يحللون بل يكتفون بتغذية الأفكار المسبقة. إنهم أوفياء لعقيدتهم. وكلّ وفاء أعمى هو انعكاس لفكر ديني لا يؤمن بالمراجعة والنقد. بعض الذين ينتمون إلى هذه الفئة يخيّروننا بين الحرية أو المقاومة، كأن ثمة مقاومة فعلية يمكن أن تستقيم بدون أن يحصل المواطنون على أبسط حقوقهم في الحياة. كما يخيّروننا بين الديكتاتورية العسكرية والاستبداد الديني، ويظنون أنهم ينبهوننا إلى الخطر الداهم لنستنتج معهم أنّ خلاصنا الوحيد هو في إبقاء الديكتاتورية وحمايتها، وما دون ذلك الأهوال! ولا يقولون لنا من أين جاء الاستبداد الديني (وهم يعرفون من أين جاء) ومن الذي مهّد له وأنتجه ورعاه منذ عقود حتى اليوم. مساواة الضحية والجلاد ضمن هذه الفئة المتذاكية، هناك من ينبري ويضع الضحية والجلاد في موقع واحد. لكن من يضع الطاغية وضحاياه على مستوى واحد إنما ينتصر للطاغية. الجميع يعرف هذه الحقيقة. ان من يقول إنه ليس مع هتلر وليس ضدّه هو مع هتلر بالتأكيد. هناك أيضاً من لا يخفي انزعاجه من الربيع العربي بعدما اطمأن إلى أن العرب انقرضوا. فمن أين خرجت هذه الجموع كلّها؟ كيف استيقظت ونفضت عنها الأكفان؟ من أين جاء هذا البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه احتجاجاً على العهر الرسمي القائم، فخلخل المصالح والتوازنات، وأطاح نظريات الثوريين الافتراضيين بأكملها؟ الذين ينادون بالحرية والتغيير منذ نصف قرن يحارون اليوم في ما يجري. فما بالها الثورة تخمد هنا لتشتعل هناك؟ كانوا يريدونها ثورة على الورق. كان نداء التغيير، بالنسبة إليهم، حديث إلهاء وتسلية ومجرد شعار أفرغوه من مضمونه ووقفوا أمامه عاجزين، لأن تطبيقه العملي يقتضي منهم شجاعة لا يملكونها وتضحيات لا يقوون على تقديمها. يفاجئنا موقف شاعر يتأثر أمام صورة زهرة ولا يرفّ له جفن لرؤية حمزة الخطيب، المصلوب الأصغر سناً في التاريخ، والذي فاقت عذاباته عذابات المسيح على الصليب. كما يفاجئنا الذين انكفأوا على أنفسهم حين باغتتهم الشعوب التي تجاوزت الخوف وكسرت قضبان السجن وخرجت تصدح بالحرية. أحرجتهم جرأة الشباب الذين كشفوا عجز السلاح وحدود العنف، ووضعتهم في التباس العلاقة بين الكلمات ومعانيها. وإلاّ فكيف أصبح بإمكان تلك الفئة من الكتّاب والشعراء والمفكّرين أن تنادي بالتحرير وتخاف الحرية في آن واحد، أن تنتقد النظام وتضع ثقتها الكاملة برأس النظام. هكذا تنقلب المقاييس وتنفضح لعبة الكلمات حين يتمّ استعمالها بدون الالتفات إلى المفاهيم التي أنتجتها وإلى خلفياتها المعرفية. على هذا النحو، كان هذا الصنف من المثقفين يساهم في تكريس حالة الانحطاط والتخلّف التي طالما انتقدها. لقد كشفت درجة العنف الذي يمارَس ضدّ المتظاهرين السلميين أنّ النظام العربي الحاكم لا يريد شعوبه إلاّ مسحوقة وميتة، وهو الذي أمعنَ – بتواطؤ من الدول الكبرى صاحبة المصالح – في طمس وجود تلك الشعوب، بعد أن وضَعها طويلاً في ثلاّجة التاريخ. غير أنّ العروش تبدأ بالاهتزاز عندما لا تعود سياسة الترويع والقتل مبعثاً للخوف، وعندما يكتشف المتظاهرون الذين نزلوا إلى الشوارع أنّ الموت الفعلي هو البقاء على قيد الحياة بدون الحقّ في الحياة… صرخة الناس في الشوارع العربية اليوم هي صرخة ولادة! لن تكون المرحلة الانتقالية بين الحكم الديكتاتوري والديموقراطية مرحلة سهلة بعد سياسة الأرض الخراب التي اعتمدها الحكم الشمولي والتي أعاقت المجتمعات العربية في الخروج الفعلي من زمن الاستعمار والدخول في مرحلة السيادة والاستقلال. وثمة داخل العالم العربي من لا يزال يغذي الحركات الإسلامية ويحاول اختطاف ثورة الشباب وما تجسده من انفتاح على نموذج الحداثة المتمثل في التعددية الديموقراطية القائمة على مبدأ العدالة والمساواة والمواطَنَة. قد تمرّ هذه الثورة في منعطفات خطيرة على المدى القصير، لكن حركة التغيير لن تعود إلى الوراء. إنها حرب ثقافية وحضارية بامتياز ولن تستطيع حركات الإسلام السياسي، مهما بدت متجذرة اليوم في المجتمعات العربية، أن تجيب عن أسئلة الواقع الراهن وأن تواجه التحديات الكبيرة والمعقدة التي يفرضها العصر. ستتحقق الثورات العربية وتبدأ مرحلة الخروج من الهاوية. هناك فرق بين الثورة، بما هي تحطيم للأصنام ومرحلة أولى ضرورية لكتابة تاريخ مختلف، وبين حركة النموّ والتطور التي تمثّل ثورة أخرى ستحتاج إلى تضافر جهود كبيرة وسيأخذ معها العالم العربي وجهة جديدة لن تكون أسيرة نظام ديكتاتوري أو استبداد ديني، ولا مكان فيها لأولئك الذين يعطون دروساً في الحرية فيما يقبعون في أقفاص العبودية والسلطة. السفير