أسباب التضامن الواسع مع غزة والضئيل مع سوريا/ ريّـان ماجـد
لا يزال العدوان الإسرائيلي مستمراً على قطاع غزّة منذ الثامن من تموز 2014، رغم ساعات هدنة متقطعة مرت، وقد أودى بحياة ما يقارب ألفي شخص معظمهم من المدنيين، وأصاب الآلاف، ودمّر مبانٍ سكنية، واستهدف مستشفيات ومدارس ودور عبادة وبنى تحتية مدنية.
وقد أدان هذا العدوان قطاعات من الرأي العام في الكثير من بلدان العالم، إذ اتّخذ كتّاب وفنّانون وحقوقيون وأكاديميون في دول غربية مواقف علنية رافضة للحياد ومتضامنة مع الفلسطينيين. وخرجت تظاهرات كبيرة في دول غربية تندّد بالحرب الإسرائيلية، في حين نشط المغرّدون والمدوّنون في مواكبة الأحداث وتغطيتها والردّ على دعايات تل أبيب وتفنيد مواقف سياسيين وكتابات صحافيين مؤيّدين لها.
وبالتزامن مع الحرب ضد غزة، واصل النظام السوري قصفه المدن والبلدات السورية، وقتل خلال الأسبوع الفائت وحده أكثر من 1500 مدني، انضمّوا الى نحو 170 ألفاً آخرين قُتلوا في السنوات الثلاث الأخيرة، بالقصف الجوي والبري وبصواريخ سكود والأسلحة الكيماوية والتعذيب داخل السجون والمعتقلات.
مع ذلك، لم يشهد العالم زخماً في التحركات المتضامنة مع السوريين أو المناصرة لقضيتهم. الأمر الذي دفع بناشطين سوريين وبمراقبين للتساؤل عن أسباب قلّة الاكتراث عالمياً بالمقتلة السورية المتواصلة منذ نحو أربعين شهراً.
للإجابة على هذا التساؤل، ولتفسير أسباب التضامن الشعبي الواسع الذي حصل مع فلسطين خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، تَواصل موقع NOW مع الناشر والكاتب السوري فاروق مردم بيك والكاتب السوري ياسين الحاج صالح والكاتب اللبناني زياد ماجد، وكانت لهم هذه المداخلات.
فاروق مردم بك
أسباب عديدة تفسّر التضامن الشعبي مع فلسطين:
أوّلاً، يتضامن العرب، باختصار، لأنّ الفلسطينيين عرب، ولأن العدو الذي يبطش بهم أجنبي (مَنْ من العرب نظّم مظاهرات تضامنية مع مخيّم اليرموك؟)، ولأنّ التعاطف معهم غير مكلف في أغلب الأحيان (ولكنّه ينحسر عندما يعرف المتعاطف أنّ حكومته لا تريده أن يتعاطف، على الأقل علناً!).
ثانياً، يتضامن غير العرب، لأنّ القضية الفلسطينية مطروحة على الرأي العام العالمي بقوّة منذ اواخر الستينات، واعتُبر حلّها في الأوساط الدبلوماسية مفتاح حلول كلّ مشاكل الشرق الأوسط، وكُتبت عنها مئات الكتب والمقالات، وأنشئت مؤسّسات محترمة للتعريف بها، ولأنّ القيادة الفلسطينية (الراحل ياسر عرفات) تمكّنت، برغم جميع العراقيل، من مخاطبة العالم بلغة يفهمها، ولأنّ المثقفين الفلسطينيين دافعوا عن قضية شعبهم بجدارة تحت مظلة هذه القيادة، ولأنّ الأحزاب والجماعات اليسارية الجذرية (وهي وحدها تتضامن في الشارع مع الشعوب غير الأوروبية) واكبت تطوّرات القضية الفلسطينية أكثر من أربعين سنة، وأسّست جمعيات نشيطة للتضامن مع الفلسطينيين، ودافعت عنهم في أيلول الأسود، وخلال الحرب اللبنانية، وفي أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ومذبحة صبرا و شاتيلا، وفي انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى واجتياح الضفة وحصار عرفات، إلخ. وتراكمت لديها بفضل ذلك كلّه معرفة دقيقة بأوضاع الفلسطينيين. هذا، بالإضافة إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أنّ جمهور هذه الأحزاب والجماعات معادٍ بصورة مطلقة للولايات المتّحدة، والولايات المتّحدة تدعم إسرائيل بكلّ الوسائل.
أما لماذا لا تتضامن هذه الجماهير نفسها مع الشعب السوري؟
قبل كلّ شيء، بسبب ردة فعل “بافلوفية”، وهي كرهها لمن سمّوا أنفسهم ” أصدقاء الشعب السوري”، من الولايات المتّحدة إلى السعودية وقطر. ومن المؤكّد في هذا الصدد أنّ السوريين يدفعون ثمن الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 الذي ندّد به ملايين المتظاهرين في المدن الأوروبية.
ثم لأنّ غالبية القوى اليسارية التي أيّدت الثورة (إلى حدّ ما) خلال شهورها الأولى تردّدت ثم تراجعت لأسباب عديدة، منها بروز الجماعات الجهادية، ومنها تخبّط الذين تنطّحوا لتمثيل الثورة، وتناحرهم، وهزال خطابهم السياسي، وعجزهم عن الظهور بمظهر البديل المقنع. ومنها التخريب المنظّم الذي قام به بعض “المعارضين” في اتصالاتهم بهذه القوى، وفي دعايتهم التي صوّرت المعركة على أنها بين النظام والجهاديين، وتتطلّب اتّخاذ موقف محايد، والدعوة إلى الحوار مع النظام، ورفض أيّ تدخّل أجنبي حتّى لو لم يكن عسكريّاً. ومنها مواقف “الممانعين” العرب المؤيّدين للنظام (من حزب الله إلى الأحزاب الشيوعية إلى بعض المنظّمات الفلسطينية المدجّنة) باسم محاربة الامبريالية والصهيونية.
ولا بدّ من أن نلاحظ أن القوى اليمينية، باستثناء بعض الشخصيات البارزة، اتّخذت منذ البداية موقفاً معادياً من جميع الثورات العربية، وهو أمر “طبيعي”، ولكنّها كانت أكثر حدّة في عدائها للثورة السورية، متذرّعة بشكل خاص بمخاوف الأقليّات ومواقف الكنائس المسيحية الشرقية.
ياسين الحاج صالح
أعتقد أنه مع الزمن استطاعت القضية الفلسطينية أن ترتبط بمدركات إيجابية في الغرب كقضية تحررية عادلة، مقابل ارتباط إسرائيل بقيم سلبية: العدوان، القوة، الحرب المستمرة، الامبريالية.
جزئياً، للسبب نفسه الذي تنال القضية الفلسطينية العطف، لا تنال الثورة السورية العطف. كان النظام السوي يشغل في جملة الترابطات الإيجابية لفلسطين والسلبية لإسرائيل موقعا أقرب إلى الإيجابية. وهو يستفيد من خدمات صنفين من الإيديولوجيين خلافا لكل النظم العربية الأخرى: إيديولوجيو “الممانعة” ومناهضة الامبريالية، وإيديولوجيو الحداثة ومناهضة الإسلاميين. ولكل من الإيديولوجيتين مستهلكون في الغرب (وفي العالم العربي)، لا يعرفون شيئاً ذا قيمة عن سورية، وعن تكوين النظام وتاريخه وسياساته.
لكن في الأساس هناك تداعيات ليست إيجابية مرتبطة بالثورة السورية في الغرب، تحيل إلى إسلاميين متشددين وأقليات مهددة. هذا لأن تفضيلات وسائل الإعلام الكبرى تتجه إلى إبراز هذه الوجوه من جهة، ولأن هذه الوجوه تنامت وبرزت فعلاً من جهة ثانية، ولأن لدى النظام الأسدي شبكات علاقات عامة قوية ينفق عليها أموالا من جهة ثالثة.
ثم خصوصاً لأنه لم يكن هناك عاملون على بناء القضية السورية كقضية تحررية وإنسانية. هذا جهد بالكاد بدأ، وأظنه بحاجة لمزيد من الوقت ليثمر.
زياد ماجد
أظنّ أمر التعاطف أو التضامن الواسع مع الفلسطينيين مقابل ضآلته مع السوريّين مرتبط بسبعة عوامل رئيسة.
الأول، عامل الزمن (قِدَم القضية الفلسطينية) والخبرة السياسية التي راكمها الفلسطينيون وبنائهم تحالفات مع هيئات نقابية ومنظمات مجتمع مدني دولية، بما تخطّى حاجتهم الى قيادة “مركزية” (كانت في أي حال في زمن عرفات مقبولة وذكية)، إضافة الى وفرة الأدبيات المكتوبة (دراسات، كتب، مقالات، أرشيف) والمواد السمعية البصرية (أفلام وثائقية، صور، تحقيقات)، ووجود كفاءات فلسطينية مقيمة منذ زمن بعيد في عواصم “الغرب” تُتقن مخاطبته بلغاته وبمنطق قانوني. ومعظم هذه الأمور لا نجدها بعدُ في الحالة السورية (إلا في ما ندر).
الثاني، أن التعاطف مع شعب يتعرّض لاحتلال خارجي ولعدوان عسكري أجنبي – الحرب الإسرائيلية هي اليوم الحرب الكولونيالية الأخيرة في العالم – أسهل من التعاطف مع شعب يسحقه “نظامه”، ويسود اعتقاد واسع حول أوضاعه مفاده أنها حرب أهلية وصراع داخلي وإقليمي على السلطة لأسباب توصف بالـ”معقّدة”.
الثالث، أن فلسطين أصبحت في وعي عامٍ لدى الكثير من شعوب العالم (الثالث خاصة) “مجازاً” يختصر معاني “الظلم وازدواجية المعايير وفشل المجتمع الدولي في تنفيذ قرارات الأمم المتّحدة”. والفلسطيني يجسّد في المخيّلة الجمعية شكل المضطهد الواقع عليه الظلم منذ عقود، والمقاوم الرافض الاستكانة في الوقت نفسه. وهذا يدفع جماعات كثيرة في العالم الى التماهي معه ومع قضيّته.
الرابع، أن الأكثر نشاطاً وفاعلية في دعم الفلسطينيين، هم اليساريّون المناهضون للسياسات الغربية، والمعارضون غالباً لحكومات بلادهم نفسها. ولأن بعض هذه الحكومات أعلن دعمه للثورة السورية (بمعزل عن بخل ترجمة الدعم) ولأنها في الوقت عينه تميل الى إسرائيل، وتذهب الى دعمها المطلق في الحالة الأميركية، فهم يُضاعفون التضامن مع الفلسطينيين ويضاعفون في المقابل من عدم التضامن مع السوريين – وصولاً أحياناً الى التضامن مع النظام الذي يذبحهم.
الخامس، أن الممانعين العرب (قوميين وشيوعيين وحزب-إلهيين) حرّضوا ضد الثورة السورية من يومها الأول، نظراً لارتباطاتهم بإيران والنظام السوري، ونظراً لدعاية هذا النظام لدى أوساط بعيدة عن المشرق ولا تعرف شيئاً عن سوريا – في المغرب العربي خاصة. وكان لتحريض هؤلاء صدى في بعض أوساط اليسار الغربي كما الأميركي الجنوبي، الذين لا ينقصهم الكثير أصلاً للخوض في “نظرية المؤامرة” وللبحث عن “الأصابع الإمبريالية” في كل حادث ولتبرئة “الأنظمة الممانعة” من الجرائم “المنسوبة” لها.
السادس، أن معركة إيران وروسيا والنظام السوري في الإعلام وعبر شركات العلاقات العامة في لندن وباريس وواشنطن وعواصم أخرى (وأُنفِقت عليها مئات ملايين الدولارات) اعتمدت على مقاربة لم تبحث مرّة عن الدفاع المباشر عن النظام الأسدي، بل على تسليط الضوء على “خصومه” وتكرار مقولات تسلّلت مع الوقت الى وسائل الإعلام والرأي العام وصارت شبه مسيطرة: معارضة مشتّتة لا تشكّل بديلاً، إسلاميّون، جهاديّون، أكلة قلوب، مجاهدو نكاح، ذابحو أقلّيات، حرب أهلية، عملاء قطر والسعودية (وصورة الدولتين المذكورتين سلبية جداً في الغرب)، أدوات لمخطّط أميركي لتمزيق المنطقة، إلخ… وللأسف، لم تقم المعارضات السورية بدورها على نحو فعّال لتفكيك هذه المقولات وإظهار زيفها وللدفاع عن القضية السورية، بل مالت الى التظلّم والى الاكتفاء بمخاطبة المقتنعين بعدالة قضيتها دونَ التوجّه الى الفئات الأوسع.
السابع والأخير، أن “إسلاموية” حركة حماس لا تؤثّر كثيراً على الموقف من القضية الفلسطينية لأن هذه القضية مرّت في أطوار كثيرة ولأنّ ذاكرتها ليست حكراً على حماس، ولأن النقاش حولها يذهب في كل حال نحو قضايا الاحتلال والاستيطان والجدار العازل واللاجئين والقدس. وهذا يُريح العلمانيين في العالم العربي كما في “الغرب”، كما لا يُشكّل سبباً لقسمة حادة بين الإسلاميين وخصومهم في الدول العربية المجمعين على العداء لإسرائيل. الأمر مختلف تماماً في الحالة السورية.
موقع لبنان ناو