أشعة ضوء في نفق الحياة السورية
أسامة الحلواني ونائلة منصور
لو قُدِّر لإيرفينغ غوفمان، وهو أحد فلاسفة “الحياة اليومية” الأميركيين وصاحب الكتاب الشهير، “مسرحة الحياة اليومية”، أن ينهل من المادة الغنية للثورة السورية، لكان فاز بأشياء كثيرة. لكنه لم يفعل. فهو لم يتحدث عن الثورات في نظريته “الأقنعة” أو نظرية “لكل مقام مقال”، إن كان لنا أن ندعوها كذلك.
دخل السوري الثائر في الحال الثورية بكل سداد. فهو، في التظاهر، يلبس لبوس التظاهر بكل إتقان. يصرخ ويركض ويقفز ويرقص ويبكي. وهو، كمواطن صحافي، يؤدي عملاً قل نظيره، شجاعةً وتفانياً. حتى أن أسطورة المصوّر الذي يصوّر مقتله التصقت به: “الله أكبر، حمص تُقصَف، 15 شباط 2012”. وهو، كطبيب منحاز إلى الثورة، اندمج في أداء دوره إلى النهاية من دون أن يسمح للحظات الشك أو “النسبية” بأن تراوده، حتى لو تعرّض للقنص، كما حصل في مجزرة زملكا الأخيرة.
كثر هم المدنيون، يمارسون حياتهم اليومية العادية، ثم يخلعون قناعهم الاعتيادي لينتحلوا أسماء مستعارة. يحكون مشاهداتهم وتجاربهم ويشاركون بها العالم، ثم يستعيدون أسماءهم في اليوم التالي. ترى الجندي المنشقّ يُبرز هويته العسكرية أمام الكاميرا: “أنا الملازم فلان أعلن انشقاقي عن كتائب الجيش الأسدي المجرم وانضمامي الى ثورة الكرامة”، مستغرقاً، هو أيضاً، في دوره، من دون أن يضحك من جديته المفرطة مثلما يضحك طفل على غناء أترابه له في يوم مولده.
لبّى الشباب الثائر السوري بكل إخلاص وتفان، جلّ ما تنتظره الإنسانية في هذا العالم من صور المتمرد على الاستبداد، ومن صور المفجوع والصابر والمتحدي، بعدما كان لعقود محض ضحية فحسب.
الثورة السورية تراجيديا استثنائية لا يستطيع الثائر إلا أن يستبسل فيها ويصدّق أقنعتها بجدية كبيرة، من دون مراوغة أو شك أو خرق كوميدي، إلا في حال واحدة: حين يوضع السوري في مواجهة السوري بشكل فج ومباشر، عندها فقط “يخرق” المقامات ليدخل في حال كوميدية أو جنونية ينفصل فيها عن الواقع، أو بالأحرى ليقترب فيها من الحقيقة الأبسط والأكثر بدائية: إنه لا يريد الاحتراب مع أخيه في الوطن، ولم يعتد بعد قناع الحرب والاصطفاف في الخندق المقابل.
على جانبي مدخل شارع فرعي، حمصيان يمسكان بطرفي حبل ينوس منه مجسّم بشري، صنعاه لـ”يخرقا” تلك العلاقة العبثية والاعتباطية التي نشأت بينهما وبين القنّاص، حيث الجميع غفل الهوية. يقول التعليق السفلي للصورة التي تم تداولها على الـ”يوتيوب”، ما معناه أن “الحماصنة يُلهون القناص أو يسخرون منه”. الحمصيان في تلك الصورة، إنما يغيّران سياق العلاقة بينهما وبين القنّاص إلى علاقة لُعبية تسخر من الحرب القائمة في سوريا. هي محاكاة ساخرة للحرب، على الرغم من أن هذه الحرب تكلّفنا ألوف الأرواح.
يتهادى الميكروباص الدوماني عند الحاجز العسكري الشديد التحصين في مدخل المدينة. يتوقف السائق لكنه يستمر بالعلو والهبوط على المحور العمودي لحافلته كأنه يريد أن يقول إنه وحافلته متأففان، يزفران من الحواجز ومن الانتظار. يسند جندي الحاجز ساعده على نافذة السائق، خدّه على كفّه. يتأفف خده صعوداً ونزولاً على إيقاع حركة الحافلة. يطلب الهوية. يحتجزها. ثم يسأل السائق أن يجلب له سندويش فلافل، ليعيد إليه الهوية، محذّراً إياه من زيادة الفلفل الحرّ إلى السندويش. يُطرق السائق ويقول: “بدّك تذلّني بالهوية؟! لو مانك جوعان، الهوية على جثتي!”. يضيف: “رح شلفطك شلفطة بالحد!”، فيردّ العسكري: “بقوّصك هاه!”، لينهي السائق المحادثة بقول أبلغ مما يقوله السياسيون الكبار ممن نُجبَر على سماع ترهاتهم كل يوم: “ماهادا اللي صاير فينا، الصبح بطعميك فلافل والمسا بتقوّصني”.
نقلت الشبكات الاجتماعية حادثاً طريفاً في مدينة السلمية. فقد اجتمع الشبّان المحتجون في تظاهرة طيّارة صغيرة مرددين: “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”. فردّ عناصر الأمن المجتمعون في الجهة المقابلة: “واحد واحد واحد، منعرفكن واحد واحد”، فيغرق الجميع، من الجهتين في الضحك. لحظة الضحك تلك، هي لحظة “خرق”. هي لحظة الجنون التي ينعتق فيها المرء من أقنعته. يرتبك، لكنه ينتشي بلحظة شفافة غير مصمتة، إصمات التاريخ والتصورات والخوف.
تدخل المدرّسة الجامعية إلى قاعتها، لتجد طالبين من طلابها يتهاتران بمزاج ساخر: “شو رأيكن أنتو الشبّيحة باللي صار مبارح”، “والله إذا كنتو أنتو المندسّين مفكرين أنو رح تشيلوه، شيلوه، الله يقويكن!”. تحتار المدرّسة. هل ستسمح بـ”تطبيع” التشبيح وجعله حالاً مجتمعية، وإن على مستوى اللغة في صفها؟! الطالب الموالي ليس شبّيحاً، لكن الكلمة “طُبّعت” في التداول. يتبادل الطلاب المزاح ويقولون للمعلّمة: “لن نستطيع العيش المشترك في ما بعد دون سخرية”.
عند الحاجز الرئيسي في دوما، حصن، بل حصون من الدشم الاسمنتية يتمترس وراءها الجنود. يدخل قاصدو المدينة، على قلّتهم. يقول المجنّد في المحرس للزائر: “بعد 200 متر في حاجز للمسلحين، ما بيعملولك شي كمّل طريقك”. هدنة يصطلح عليها الطرفان، أو شيفرة غير معلنة تجعلهما في الحرب يعرفان الطرق السالكة. هناك خروق لوقف إطلاق النار يتحدث عنها المراقبون الأمميون، وهناك خرق لحال القتال نحدثكم عنه. في المساء يتبادل الطرفان إطلاق النار، في الصباح لا تجد أثراً للرصاص الفارغ. يقول أهل المدينة إن عناصر الجيش النظامي يجمعون الفوارغ، يبدّلونها بذخيرة جديدة ويبيعونها من عناصر “الجيش الحر” ليُقتلوا بها في اليوم التالي. أيّ طائل من هذا الجنون؟
ميزة هذه النزاعات كما صاغها أحد الشبّان الحماصنة، أنها تُنهك الأطراف حتى الجنون. وفي الجنون ينعتق الإنسان مما يُفرَض عليه، فيرى الحقيقة: عبثية الاقتتال المفروض عليه. حينذاك يرقص أو يقهقه أو يلعب، ثم يعاود لبس أقنعته الحربية ويتابع مسيره نحو الموت والدمار. لماذا ندفع هذه التكلفة لنفهم عبثية الاقتتال؟ ومن أجل من؟
هناك نوع آخر من السوريين، يصدّق قناعه ويأخذه على محمل الجد، فيذوب ويتغلغل من تحت الجلد إلى الروح، لتنحسر إمكاناته التراجيدية وتنحصر في دور الشبّيح، فلا يعود قادراً على خلع القناع، فيستمر في القتل والتعذيب والاغتصاب. كأن تكرار هذه الأفعال محاولات لمعالجة ما ألمّ بالروح، ولكن من دون جدوى. كلما طال وقت العنف قلّت أعداد الذين ينشقّون لبرهات قصيرة عن أقنعة الحرب. كلما طال زمن “الحرب” اندمج الجميع في أقنعتهم القتالية.