أم ناصر: خنساء المعضمية
أم ناصر إمرأة من المعضمية تبلغ من العمر 74 عاماً، أرملة وأم لأربعة شباب وابنتين. يمكن وصف أم ناصر بخنساء أخرى تضاف إلى قائمة أمهات سوريات فقدن أولادهن. خسرت أم ناصر اثنين من أبنائها واُعتقل اثنان آخران على يد النظام السوري. جلست أمامي متحاملةً على نفسها، وتلمست في عينيها مزيجاً من الحزن والشعور بالخذلان. بدت وكأنها تتكابد في مشيتها، ممتلئة الجسد، ترتدي جلباباً فضفاضاً وحجاباً عصم رأسها. تبدو وكأنها ترفض خلع الزي التقليدي. منزلها متواضع كأي بيت ريفي صنع من اللبن والخشب، مكون من عدة غرف وفسحة. استقبلتني في غرفة الجلوس، حيث تفترش الوسائد المصنوعة من القطن.
عند سؤالي ما ألمّ بأبنائها، بدأت تتحدث على عن إبنها ناصر الذي يبلغ من العمر ثلاثين عاماً. متزوج ولديه طفلان، الأول يبلغ من العمر خمس سنوات والثاني سنتين ونصف. ناصر، أكبر أبنائها، كان عامل بناء. اعتقل السنة الماضية في شهر حزيران/يونيو، ضمن حملة اعتقالات شنها الأمن على شباب الحي وكان ناصر من ضمنهم. وقد ظل معتقلاً سبعة أشهر. قضى خمسة منها في سجن مطار المزة العسكري، وشهرين في سجن عدرا المركزي. “كنت كالملسوعة على فقدانه!” تقول أم ناصر. أطلق سراح ناصرفي بداية كانون الثاني/يناير من هذا العام وكانت فرحة الأم كبيرة بأن إبنها خرج حياً يُرزق من السجن. ولكن فرحتها دامت خمسة عشر يوما فقط.
بتاريخ 27 كانون الثاني (يناير) 2012 في تمام الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، إقتحم رجال الأمن دارنا، ورموا ناصر برصاصة في رأسه، ليرحل ويتركني مغمومة متحسرة على فقدانه. وأكثر ما أثر في نفسي هو تذكر مشهد موته أمامي وأمام أطفاله وزوجته، منظر يجرح قلبي كلما تذكرته.”
سألتها لماذا يعود عناصر الأمن ويقتلون ناصر بعد أن أفرج عنه. بدت الأم مرتبكة. ترى أن السبب الرئيسي في قتله يكمن فقط في أنه معتقل سابق، وأخ لمعتقل آخر ألا وهو خليل.
ما إن أدارت أم ناصر خدها الأيمن حتى صفعها القدر على خدها الأيسر، وذلك باستشهاد ثاني أبنائها أحمد. يبلغ أحمد من العمر 29 عاماً، متزوج ولديه طفلان، صبي يبلغ من العمر ست سنوات، وطفلة عمرها خمس سنوات، وزوجته حامل. في نهاية شهر تموز/يوليو 2012 إقتحم عناصر الأمن والجيش بقيادة الفرقة الرابعة منطقة المعضمية. أراد أحمد النزوح مع أسرته، غير أن الموت كان سيد الأحكام في تلك الليلة، كما تقول أم ناصر. ما إن جمع بعضاً من أمتعته وهمّ بالخروج مع أفراد عائلته، حتى اغتالته رصاصة أحد القناصين ممن انتشروا على أسطح البناء المقابل لمدخل منزله. أصابته الرصاصة في أسفل بطنه: “لم نتمكن حتى من إسعافه،” تقول أمه.
بدت أسئلتي وكأنها تزيد من وطأة حزنها، فتنطق عن هول مصابها، وتلملم خيوط ذاكرتها المبعثرة حول أبنائها، لتدلو بدلوها وتروي تفاصيل قصة ابنها الثالث خليل الذي يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً والذي ما زال معتقلاً في فرع المزة العسكري في دمشق.
تستكمل أم ناصر حديثها عن خليل وتقول: “السنة الماضية كانت الثورة في أشهرها الأولى، عندما اقتحم الأمن المعضمية، بحجة التفتيش عن عصابات مسلحة، على الرغم إنه لم يكن الجيش الحرقد تشكل بعد في المعضمية. وأثناء تمشيط المنطقة دخلوا إلى محلنا، محل بقالة. يومها كان خليل متواجداً في المحل. وبحدود الساعة الواحدة والنصف ظهراً، طرق أحد شبان الحي بابي، وأخبرني بأن الأمن اعتقل خليل. خرجت مسرعةً وتوجهت إلى المحل وبرفقتي ابني أحمد وزوجته، لأجد عناصر الأمن مازالوا في المحل. فضولي دفعني لأسأل عن إبني غير أن أحدهم نهرنا وأمرنا بالابتعاد. إستوقفنا أحد رجال الحي لنستفسر منه عن الذي حدث، فأخبرنا أن الأمن قد اعتقل خليل. عدنا أدراجنا للمحل، راجيةً عناصر الأمن، علهم يجيبوني لماذا اعتقلوا خليل، غير انهم صموا آذانهم عن الترجي.”
ظل خليل معتقلاً أربعة أشهر دون أن يُعرف عنه أي شيء. ثم أُفرج عنه لمدة أسبوعين ليُعتقل من جديد في اليوم التالي لاستشهاد ناصر. تقول الأم: “وحتى الآن لا أعلم إن كان ميتاً أو حياً. أريد فقط الوصول إلى الحقيقة ومعرفة هل مازال على قيد الحياة؟”
لم تتوقف أم ناصر في روايتها عند هذا الحد؛ بدت وكأنها تصارع الكلمات علها تفلح في إيصال ما تريده من معنى. تتابع حديثها حول اعتقال ابنها الرابع ماهر: “ابني ماهر أصغر أخوته، والمدلل عندي، يبلغ من العمر 24 عاماً. تطوع في صفوف الجيش الحر، في منتصف تموز /يوليو 2012. وخلال تدريبه على استخدام القنابل انفجر صاعق القنبلة في يده. فأسعفه اثنان من عناصر الجيش الحر. وأثناء طريقهم إلى أحد المشافي الميدانية في المنطقة، استوقفهم حاجز طيارة في شارع الروضة، واعتقلهم رجال الأمن. وغاب عن ناظري هو الآخر.”
تبدو أم ناصر فقيرة، متعثرة الحال، ولاسيما بعد اعتقال خليل وإغلاق محل البقالة الذي تملكه. ورثت المحل عن زوجها الذي توفي قبل أربع سنوات. كبر سنها يمنعها من الاسترزاق في المحل. والعادات والتقاليد السائدة تمنعها من أن ترسل إبنتها أو زوجة إبنها لإدارته. وهي الآن تعيش على المعونات التي تأتيها من الأقارب والجيران.
اليوم لم يبقَ لأم ناصر من أولادها سوى ابنتين، واحدة متزوجة والأخرى تسكن معها وتبلغ من العمر 23 عاماً. وتشاركهما في العيش زوجة أحمد وأولادها. لكل واحدة منهن مصيبة تختلف عن الأخرى. فألم الزوجة التي فقدت زوجها يختلف عن لوعة الأم، وكذلك الأخت، التي تبدو وهي جالسة إلى جوار أمها أكثر تماسكاً من أم ناصر. تستطرد الأخت في التفاصيل وتمسك بزمام الحديث كلما أحست بارتباك والدتها أثناء المقابلة.
لا تملك أم ناصر سوى الإيمان والصبر، على حد وصفها. تتمنى أن ترى القصاص يحل بقاتل ولديها وأن تفرح بعودة ماهر وخليل، “علهم يعوضاني عن فقدان ناصر وأحمد،” كما تقول. وتستطرد قائلة: “أنا حالياً أم لشهيدين ومعتقلين، وقد أصبح أم لأربعة شهداء في المستقبل.”