أنطوان تشيخوف: اعترافات في رسائل بدون رقابة/ محمد الخضيري
يُعرف أنطوان تشيخوف جيدا بأنه واحد من الذين ألفوا بغزارة في القصة والمسرح، وشارفت أعماله الأدبية الستمئة نص. يُعرف أيضا بأنه الطبيب الذي شرّح بمبضع نظرته الثاقبة المجتمع الروسي، وهذه هي البراعة الأصيلة والطليعية التي جعلته ربما أشهر كاتب قصة على الإطلاق يجعل من التصدي للإنسان في وسطه الاجتماعي أداة لاختراق عالم الأدب.
رغم حياته القصيرة التي لم تتعد 44 عاماً، فإنه استطاع أن يفرض نفسه مناراً لكُتَّاب القصة في القرن العشرين حتى أن النقاد الأدبيين وفي أشكال تعبيرية أخرى قرنوا اسمه بكتاب آخرين لوصفهم بالبراعة. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الأميركيان جون شيفر (المتوج بجائزة البوليتزر في القصة) وريموند كارفر والإيرلندي ويليام تريفور والحائزة على نوبل للآداب آليس مونرو.
أسلوبية عابرة للأجيال
إن كان يجوز الحديث عن أسلوبية خاصة بهذا الكاتب الروسي استطاعت أن تعبر الأجيال داخل قلعة الأدب، فتلك الأسلوبية بالضبط، وروح الخفة أحيانا، واللعب هي ما تعبر عنه رسائله التي نشرت في ترجمة فرنسية جديدة من إنجاز الخبيرة في الأدب الروسي نادين دوبورفيو.
إنجاز كتاب “العيش بأحلامي- رسائل حياة” مهمة لم تكن بالهينة، إذ إن المترجمة لم تكتف بترجمة كتابٍ بل هي التي اختارت الرسائل المنشورة . فعادت إلى الأرشيف السوفياتي، الذي يتضمن الطبعة الكاملة لرسائل الكاتب الغزيرة والممتدة طيلة حياته القصيرة. لم تكن المهمة إذًا هي العبور بكتاب مراسلات إلى لغة ثانية، بقدر ما كانت مهمة أكاديمية تقفّت فيها المترجمة أثر الرسائل الأصلية وتفاصيلها، وكشفت أيضاً عن المقاطع الجريئة والصادمة والساخرة والخارجة عن الذوق العام، التي شاءت الرقابة السوفياتية أن تجتزأ من أعمال تشيخوف لتجعلها قابلة للنشر في الحقبة السوفياتية. أعادت المترجمة إذًا إلى الكاتب هذه المقاطع التي أغفلتها الرقابة عمداً ومعها أعادت جزءًا من قدرته الرهيبة على أن يكون قريباً من الجميع، وأن يتحدث بلسانهم، ولربما هذه هي القوة في أعمال القاص، التي يؤكدها في واحدة من رسائله. يعتبر تشيخوف في هذه الرسالة أن عمله ككاتب يقتصر على موهبته في اقتناص الجزء المهم في الشخصيات وفي طريقة عيشها وأن يضيء هذه النقاط مع إغفال ما لا يصنع هذه الفرادة بالضبط. إنه يأخذ من الشخصية ما يصنع منها في الكتابة جسداً من لحم ودم، ويترك سقط المتاع والزخارف اللغوية.
هذه الرسائل المختارة التي تقدمها دار النشر “روبير لافون” في أكثر من ألف صفحة (حوالي 800 رسالة) ، تذهب في هذا الاتجاه. فهي لا تهيم في الفلسفة ولا الوصف الخارجي للعالم وإلباسه ما لا يستوجب من الاستعارات الغريبة والتعقيدات اللغوية. بل هي رسائل تشبه الحديث إلى شخص قريب، وتشبه في أسلوبيتها، حسب ناشر كتاب الرسائل، قصص تشيخوف.
تظهر الرسائل قدرة شفاهية عالية في مجملها وتنضح بالموهبة والعشق للمسرح والقصة وللحياة وتعبرها نظرة ثاقبة إلى المجتمع الروسي وتحولاته السياسية والظروف المعيشية لمهمشيه كما لأغنيائه وعن علاقات الكاتب المعقدة بناشريه ورحلاته إلى مصر وفرنسا ومصاعبه المالية. تشيخوف هنا يكتب سيرته الذاتية، وقصة حياة الآخرين، ويظهر أيضا تواضعه وتبجيله للأدب الذي يراه جزءا من الحياة.
“لا نفهم أي شيء من هذا العالم!”
يقول تشيخوف في واحدة من رسائله: ” الكاتب – الطبيب النفسي يُفْرَض عليه أن يُحلِّل. وهو بهذه الطريقة محلل نفسي. لكنني لست متفقا معه. لقد حان الوقت ليعترف الناس الذين يكتبون، وأخص بالذكر الفنانين، بأننا لا نفهم أي شيء من هذا العالم!”.
وعلى الرغم من يقينه بعدم فهم أي شيء من هذا العالم، فإن تشيخوف يفعل بالعالم ما يشاء. وهذا ما نراه في رسائله الواصفة بشكل دقيق للناس والأشياء. يظهر الكثير من الاهتمام بأصدقائه وأقاربه ومرضاه، ويبدي الكثير من الشفقة تجاه المهمشين. إنه إنساني للغاية، وهو يصف الفلاحين والمرضى والأخوة الإنسانية. لكنه في رسائل أخرى يظهر كل سخريته وعدم اكتراثه بالآخرين. حين يصل إلى بلدة إيكارتنبورغ الصناعية في سيبيريا، لا يتردد في وصف الناس بالأجلاف الذين “يولدون في ورشة السباكة، ولادتهم لا يشرف عليها مُوَلِّد، بل ميكانيكي. يدخلون إلى غرفتك في الفندق وهم يحملون إبريقا أو إناء، وفجأة يجهزون عليك”. إنهم، يقول، عريضو المناكب وبأكتاف عريضة وجاهزون لقتلك في أي لحظة. خلف هذه السخرية، يصف تشيخوف أيضا واقع المدينة الصناعية وواقع القرى والأرياف الروسية، التي صار مؤرخ جزء من حياتها.
في رحلته هذه إلى سيبيريا، وبالضبط إلى جزيرة ساخالين، حيث كان هناك سجن شهير، يحكي جزء من الرسائل هذا التعرف على الحياة الروسية التي “بسبب الجهل لم أكن أعلم بها من قبل”، كما يقول في واحدة من رسائله. طيلة ثلاثة أشهر سيعبر 12 ألف كلومتر في سيبيريا، ليلتقي المسجونين ويكتشف الأراضي الغارقة في الوحل، والبؤس الإنساني. عن هذه الرحلة التي وثق خلالها مئات الأحاديث، يقول لواحد من أصدقائه: ” في عملي عن ساخالين، أبدو كعالِمٍ ابن عاهرة، سيجعلك مذهولا”.
رسائل تشيخوف تبدو طويلة في الكثير من المقاطع، إلى درجة أن تضم العديد من الصفحات في بعض الأحيان. يجد القارئ نفسه أمام سرد واف لليومي. يتتبع تفاصيله: القهوة. الأشجار. الريح أو الثلج. الأبواب. الغرف. الفنادق. الناشرون. تفاصيل الوجه. الشعر. طريقة النطق. وصف الأجانب. تقاليد المدن التي زار. اللقاءات، حتى الغريبة منها، كما هي الحال مع المومس اليابانية، التي تتعامل بطريقة مختلفة تماما عما يمكن أن تفعله روسية. رائحتها، ملابسها، طريقتها في التعامل مع الجسد، وإشاراتها الساخرة وكلماتها… إننا أمام امرأة متحررة وغريبة كأنها شخصية في قصة ما.
تمجيد اليومي
إننا هنا أمام رسائل تمجد اليومي وخاصة الموضوعية التي دافع عنها تشيخوف دوما في كتابته. فها هو يقول : “الذاتية أمر مرعب. يجب خاصة الفرار من العنصر الشخصي”. لكن رسائله تجمع العنصرين. إنها وصف للكثير من الأشياء، لكنها توجد على النقيض من أدب تشيخوف. إننا نجده فيها وهو يتحول إلى شخصية تعيش اليومي في بساطته ولحظات السعادة القصيرة التي تعبره، ولربما هي قوة الكاتب، الذي نذر نفسه للصداقات العميقة. فالرسائل موجهة إلى أشخاص أساسا وليس إلى القارئ. وهم أشخاص يندههم بكل الأسماء ويروي لهم التفاصيل الأكثر دقة في حياته دون ريبة أو تخوف من أي أحكام قيمة، قد تنتج عنها قصصه، ويوقع رسائله إليهم بألقاب غريبة ومضحكة أحيانا، لا يعرفها إلا هم.
هناك أيضا الرسائل الموجهة إلى كتاب صنعوا الأدب الروسي والعالمي. في رسالة إلى مكسيم غوركي نرى الكاتب الذي يشجع رفيقه: “أنت فنان مكتمل، وبالإضافة إلى هذا، أصيل فكريا (…) أنت تحس برقة وذوق”. لكن الكاتب لا يقف عند المجاملة بل يقدم وجهة نظره النقدية التي لا تهادن، فيُتِمُّ رسالته: “لكن مقارنتك المتكررة للطبيعة بالإنسان: البحر الذي يتنفس، السماء التي تَرى، البراري التي تتكاسل، الطبيعة التي تُهمهم، تتكلم، تحزن، إلخ – كل هذه المقارنات تجعل وصفك رتيبا أحيانا، وأحيانا غثا وضبابيا”.
تحمل الرسائل الأخيرة لتشيخوف طابع السيرة الذاتية. إنه طبيب يرافق ذاته المريضة إلى القبر. يكتب إلى زوجته ممثلة المسرح أولغا بالكثير من الحب، “قلبي الصغير”، “حصاني الصغير”، ويصف لها حياته اليومية، ويسدي لها النصائح حول كيفية تقمص الأدوار التي تلعبها. وهي الرسالة العاشقة التي يتخلص فيها من موضوعية الكاتب ليتحول إلى ذات تقول ما داخلها دون أي خوف. أما الرسالة الأخيرة لتشيخوف، والتي سبقت وفاته بثلاثة أيام، فموجهة إلى أخته. وفيها يوصيها بأن تعتني بنفسها ويخبرها بأن جهازه الهضمي يعاني بشكل كبير، كما يطلب منها أن تبلغ التحية إلى أقاربه. وكما في قصصه يختم بجملة بسيطة تختزل كل شيء: “أقبلك. وأشد على يدك”.
ضفة ثالثة