أوباما بين إسرائيل و«الممانعة» السورية
خالد الدخيل
بعد خمسة أشهر من انفجار الثورات والانتفاضات الشعبية العربية كان من المتوقع أن يلقي الرئيس الأميركي، باراك أوباما، خطاباً عن موقف الولايات المتحدة تجاه ما يحدث في المنطقة. وهذا ما فعله مساء الخميس الماضي. اختار الرئيس مبنى وزارة الخارجية لإلقاء هذا الخطاب. بدأ أوباما خطابه بالقول إن «وزارة الخارجية هي المكان المناسب لإعلان فصل جديد في الديبلوماسية الأميركية». هل تضمن الخطاب حقاً ما يؤيد ذلك؟ تعبير «فصل جديد أو New Chapter» الذي استخدمه الرئيس يعني شيئاً واحداً، وهو أننا بإزاء مواقف أميركية مختلفة تجاه القضايا الرئيسية في العالم العربي: حقوق الإنسان، والأمن، والنفط، والإرهاب، والديموقراطية، والصراع العربي – الإسرائيلي. خطاب الرئيس.
حقيقة الأمر أن خطاب أوباما أكد أن السياسة الأميركية تجاه المنطقة تعاني من حالة جمود، من دون أن نستبعد شيئاً من الارتباك أمام متغيرات لا تزال في حراك مستمر. اقرأ مثلاً ملاحظة أوباما الدقيقة جداً عن السبب الجوهري لما يحدث في العالم العربي، وذلك في قوله: «حصلت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على استقلالها منذ زمن بعيد، لكن الشعوب في كثير من هذه الدول لم تحصل على ذلك بعد. في كثير من هذه البلدان لا يجد المواطن ما يلجأ إليه: لا قضاء نزيها ينظر حالته، ولا إعلام مستقلا يعطيه صوتاً مسموعاً، ولا حزبا سياسيا ذا مصداقية يمثل رؤيته، ولا انتخابات حرة وعادلة تسمح له باختيار قائده.» تعبر هذه الملاحظة عن إدراك عميق للمأزق الذي تعانيه الدول العربية. وهو إدراك يعكس رؤية أوباما الإنسان والمثقف. ثم استمع إليه يعيد ما أكده في خطاب القاهرة قبل سنتين عندما قال: «اعتقدت آنذاك، وأنا أعتقد الآن، أن مصلحتنا تكمن ليس فقط في استقرار الدول، وإنما في حرية الأفراد، وفي قدرتهم على تقرير مصيرهم».
يطرح الخطاب سؤالاً آخر: ماذا عن أوباما السياسي؟ ففي الجزء الذي تناول فيه الصراع العربي – الإسرائيلي قال أوباما عن الفلسطينيين إن «محاولاتهم نزع الشرعية عن إسرائيل سوف تنتهي إلى فشل»، وإن «خطوات رمزية لعزل إسرائيل في الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) لن تؤدي إلى قيام دولة مستقلة»، مشيراً إلى خطة السلطة الفلسطينية عرض الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 على الجمعية العامة في دورتها في ايلول (سبتمبر) المقبل. لا أظن أنه يغيب عن بال الرئيس أن عمر ما يسمى بـ»عملية السلام» يقترب الآن من 35 سنة، وأن المنطقة بعد كل ذلك تبتعد عن السلام، وأن السبب في ذلك هو رفض إسرائيل القاطع لفكرة السلام في المرحلة الحالية، وإصرارها على وضع شروط تعجيزية أمام الفلسطينيين مثل مطالبتها إياهم بتنازل عن القدس، وعن حق العودة، وعن كل الأراضي التي تم استيطانها من المتطرفين الإسرائيليين، وقبول دولة منزوعة السلاح، ومن دون حدود مع الأردن، وفوق ذلك قبولهم أن إسرائيل دولة حصرية للعنصر اليهودي. مقابل ذلك ترفض إسرائيل قطعياً تقديم أي مبادرة للسلام مقابل المبادرات العربية. كما ترفض أن تقدم الولايات المتحدة بدورها أية مبادرة، مؤكدة ترك الأمور تراوح في مكانها حتى تستكمل إسرائيل استيلاءها على الأرض. منذ 1948 والفلسطينيون يعيشون تحت أبشع احتلال عرفه التاريخ الحديث. ومع ذلك يصر أوباما على أن يقبلوا بذلك، من دون أن يقول لهم إلى متى، ومن دون أن يقدم لهم بديلاً، أو مبادرة قابلة للتفاوض. كيف يمكن التوفيق بين هذا الموقف المنحاز ضد الشعب الفلسطيني الذي لم يعرف الحرية، ولا حق تقرير المصير، وبين تأكيد الرئيس في الخطاب نفسه على أن المصلحة الأميركية تكمن أيضاً في حرية الأفراد، وفي قدرتهم على تقرير مصيرهم؟ لدي شعور بأن الرئيس يدرك في أعماقه أن خطابه متناقض من الداخل، وأنه لا يمكن تجزئة الموقف من حرية الإنسان. هل الوقوف مع حق المواطن العادي في الحرية في بلد مثل تونس أو مصر، يغني عن التنكر للحق ذاته في فلسطين؟ هل يدرك أوباما أن إسرائيل تمثل عبئاً سياسياً وأخلاقياً على الولايات المتحدة؟ الفصل الجديد للديبلوماسية الأميركية يقتضي مواجهة هذه الحقيقة.
الغريب والمدهش أن الموقف الأميركي من الصراع العربي – الإسرائيلي كما عرضه الرئيس أوباما يكتمل بموقف إدارته من أحداث الثورة في سورية. وهو موقف بقي ملتبساً حتى هذه اللحظة. كانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ترى أنه لا يزال أمام الرئيس السوري، بشار الأسد، فرصة للإصلاح وتجاوز المحنة. وفي خطابه كرر أوباما تقريباً الموقف نفسه، مبتعداً عن مطالبته الرئيس السوري بالتنحي. لا يتسق هذا الموقف أبداً مع مواقف أوباما الواضحة من الرئيس حسني مبارك، والرئيس علي عبدالله صالح، والعقيد معمر القذافي. شاب موقف إدارة أوباما شيء من الالتباس مع بداية الثورة التونسية. لكن مرد ذلك على الأرجح أن هذه كانت الثورة الأولى في العالم العربي، وقد فاجأت الجميع، بمن فيهم الرئيس زين العابدين بن علي نفسه. أما الحالة السورية فلم تفاجئ أحداً، خصوصاً أنها جاءت في ترتيبها الزمني آخر موجات المد الشعبي. يضاف إلى ذلك أن رد فعل النظام السوري على التظاهرات كان ولا يزال الأعنف، والأكثر دموية من حيث عدد القتلى بين المدنيين، وعدد السجناء الذي تقول منظمات الحقوق المدنية إنه تجاوز الـ 10000 سجين. ورغم أن حجم التظاهرات في سورية يعتبر محدوداً مقارنة بمصر واليمن، تقدر المنظمات الحقوقية أن عدد القتلى هناك يقترب من الألف قتيل، خلال شهرين فقط. قارن ذلك بالثورة اليمنية التي تدخل الآن شهرها الخامس، ولم يتجاوز عدد القتلى فيها مئتين، رغم أن السلاح منتشر في اليمن، على العكس من سورية. واللافت في الموقف الأميركي المتسامح مع سورية، حتى الآن على الأقل، لا يتسق أبداً مع حقيقة أن واشنطن تعتبر النظام السوري يقود جبهة الممانعة لسياساتها ومخططاتها في المنطقة، وأن النظام ينظر إلى دوره من الزاوية نفسها. تساءل كثيرون عن هذا الاختلاف في الموقف الأميركي بين حالة حسني مبارك الحليف، وحالة بشار الأسد «الممانع»؟ هل يعود ذلك إلى براغماتية سياسية؟ أم أنه مسايرة للهواجس الإسرائيلية التي تخشى من البديل الذي قد يأتي مكان الأسد، وأنها لا تحتمل أن يسيطر الغموض على المستقبل السياسي لدولتين عربيتين كبيرتين مجاورتين لها من الشرق والجنوب. ما العلاقة بين الموقف الأميركي وما قاله رامي مخلوف، ابن خال الرئيس الأسد، لصحيفة «نيويورك تايمز» عن أن استقرار سورية مرتبط باستقرار إسرائيل؟ هل يمكن تفادي ملاحظة التداخل بين انحياز واشنطن للدولة العبرية، من ناحية، وبراغماتية «ممانعة الشام» من ناحية أخرى؟ الغريب أن «ممانعة الشام» حاضرة بقوة في تعامل النظام مع الاحتجاجات في الداخل، وتغيب تماماً عن تعامله مع إسرائيل في الخارج. وهذا على العكس من براغماتية واشنطن التي غيبت أي فصل جديد في ديبلوماسية أميركا عن خطاب الرئيس.
كان وزير الخارجية الأميركي في عهد جورج بوش الأب، جيمس بيكر، قال يوماً إن «مهمة السياسة الخارجية لأي دول هي خدمة المصالح الوطنية لهذه الدولة». لا يعني هذا التعريف العملي لمهمة السياسة الخارجية أن تبقى سياسة الدولة جامدة من دون تغيير بذريعة المصالح الوطنية. فهذه المصالح تتغير تبعاً للتغيرات التي تصيب الدول، والأنظمة السياسية، ومواقعها، وتصيب المرحلة التاريخية أيضاً. في هذه الحالة: هل يشير عدم تغير السياسة الأميركية بعد خمسة أشهر على موجة الثورات الشعبية العربية إلى حالة جمود في السياسة الأميركية؟ أم إلى حالة ارتباك أمام متغيرات لا أحد يعرف كيف، ومتى سوف تستقر على حال سياسة واضحة؟ يجوز أن نضع السؤال على الجانب الآخر: هل جمود السياسة الأميركية يعكس قناعة أميركية بأنه رغم كل هذه الثورات والانتفاضات الشعبية، ليس هناك ما يشير بشكل واضح، إلى أن تغيراً سياسياً حقيقياً يأخذ طريقه، ويفرض نفسه على الجميع، وبالتالي ليس من الحكمة أن تستبق واشنطن الأحداث بمواقف مختلفة أمام حالة سياسية تتسم بالسيولة، وقد لا تختلف في نهاية المطاف كثيراً عمّا كانت عليه قبل انفجار هذه الثورات؟
الحياة