أية نهاية للأزمة السورية؟
علي الغفلي
لا تسير أحداث الأزمة السياسية في سوريا في اتجاه الحل، ولا توجد المؤشرات الكافية للاعتقاد أن هذه الأحداث تسير في مصلحة ترجيح كفة أي من طرفي الصراع الدموي الدائر منذ نحو عام ونصف . لا أحد يستطيع أن يتصور حجم تكلفة المعاناة الإنسانية في سوريا سوى الشعب السوري الذي يخسر عشرات الضحايا بشكل يومي، ويبدو أن هذا الشعب ذاته لا يجد الوقت اللازم لكي يستوعب المآسي التي يقاسيها المواطنون السوريون في كل يوم .
إن قدرة هذا الشعب على احتمال كافة صنوف الويلات التي ينتجها الصراع مثيرة للاعجاب، إلا أنه من الخزي أن يتوقع المرء أن يستمر الرجال والنساء والأطفال والشيوخ في سوريا في تحمل البؤس القاتل المتراكم عليهم جراء عنف الصراع في المدن السورية .
ذهبت الأزمة السورية إلى حيث لم يكن يجب أن تذهب . بدأت ثورة الشعب السوري سلمية، ولكنها سرعان ما فقدت هذه الصفة بسبب مسارعة النظام الحاكم إلى قمعها مستخدماً العنف العسكري . لصقت تهمة استخدام العنف في الثورة السورية بالنظام الحاكم خلال معظم فترات الأزمة،ولكن تسبب تسليح الثوار في تحول الأزمة إلى العنف العسكري المتبادل . خشي المهتمون من أن تندلع الحرب الأهلية في سوريا بسبب الأزمة التي صنعتها الرغبة في إسقاط النظام الحاكم، ولكن لم تعد الحرب الأهلية مجرد احتمال مخيف بل تحولت إلى واقع مرعب .
لقد نشبت الثورة الشعبية في سوريا على غرار رديفاتها في كل من تونس ومصر وليبيا، ولكنها سرعان ما اتخذت أبعاداً دولية عميقة جعلتها فريدة بالمقارنة مع كافة الحالات الأخرى، وصارت تشتبك باعتبارات إقليمية ودولية لا تعين الشعب السوري على إنجاز هدف إزالة النظام الحاكم .
أوحت الثورات العربية الأربع بأن إنجاز هدف تغيير الحكم المستبد هو أمر ممكن وبمقدور إرادة الشعب أن تحققه بسرعة، غير أن أحداث الأزمة السورية تقول أن تحقيق هذا الهدف مكلف جداً، وربما ليس متاحاً في المستقبل المنظور .
إن أداء المجتمع الدولي في معالجة الأزمة السورية مثير للشفقة والحنق في آن واحد . يبدو هذا المجتمع ضعيفاً وعاجزاً عن الارتقاء إلى متطلبات التعامل الناجح مع عنف النظام الحاكم المتماسك وعنت المعارضة السياسية المفككة . ينتشي المجتمع الدولي عند تلقي أنباء الانشقاقات السياسية والعسكرية في نظام بشار الأسد، ولكنه سرعان ما يكتئب عندما يرى انجراف المعارضة السورية إلى مستنقع الانقسامات الداخلية .
لا يستطيع المجتمع الدولي أن يحزم أمره تجاه القيام بأي دور مؤثر في إدارة الأزمة السورية نحو طريق الحل، وذلك بعد أن قرر أن التدخل العسكري الدولي في سوريا ليس خياراً متاحاً على الإطلاق .
لم يكن نظام بشار الأسد يطمح في أن يحصل على الظروف الدولية المواتية بالنسبة له أفضل من تلك التي تسود في الواقع الراهن . يتعلق أول هذه الظروف بالتوجهات السائدة في مجلس الأمن .
تقف إلى جانب نظام بشار الأسد كل من روسيا والصين، وتثمن هاتان الدولتان أهمية دعمهما الكبير لهذا النظام بشكل يفوق كثيراً الثقة التي تضعها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في قوى المعارضة السورية . تدرك كل من روسيا والصين أهمية الفوائد الاستراتيجية التي يمكن أن تجنيها من وراء بقاء نظام الأسد في سدة الحكم، وفي المقابل تتملك الدول الثلاث الأخرى الشكوك حول منافع سقوط نظام الأسد، بما في ذلك احتمال صعود قوى مناوئة للغرب إلى سدة الحكم في سوريا .
إن مجلس الأمن منقسم بشكل حاد إزاء تقرير مصير نظام بشار الأسد، ومن المؤكد أن هذا المجلس معطل تماما في خصوص القيام بأي شيء مؤثر تجاه الأزمة السورية .
حقيقة الأمر هي أن انقسام مجلس الأمن وتعطل دوره يعدان معجزة مؤسسية واستراتيجية تعمل لمصلحة نظام بشار الأسد، ولم يكن بمقدور هذا النظام تأمين مصدر دعم يطيل أمده أفضل من الدعم الذي يحصده من خلال عجز إرادة وآلية هذا المجلس .
ويتعلق ثاني هذه الظروف الدولية بالاعتبارات الإقليمية السائدة في المنطقة، والتي تدخل في تحديد مخاطر الأزمة السورية وكذلك وسائل معالجتها .
يستفيد نظام بشار الأسد من التردد الحقيقي الذي تفرضه مخاوف المجتمع الدولي من أن يتسبب التدخل العسكري الدولي في سوريا في جر المنطقة بأسرها إلى صراع إقليمي، تكون إيران و”إسرائيل” من أبرز أطرافه، ناهيك بالطبع عن تأثير كل من واشنطن وموسكو في مثل ذلك الصراع المحتمل . لقد ظل الرعب من أن يتطور التدخل الدولي في سوريا إلى حرب إقليمية لا يعلم أحد مداها أو أمدها يمثل كابوساً تسبب في حقيقة الأمر في تعطيل خيار التدخل الدولي العسكري طيلة الشهور الثمانية عشر الماضية .
لم يتسبب التدخل العسكري الدولي في ليبيا من قبل في جر منطقة الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا إلى صراع إقليمي واسع النطاق، إلا أن المجتمع الدولي قد فضل النظر إلى مخاطر التدخل العسكري في سوريا بشكل مبالغ فيه، وذلك بهدف التغطية على الإرادة الدولية العاجزة أصلاً، ليتوارى خيار التدخل الدولي في سوريا وراء ذريعة التخوف من اتساع الصراع في المنطقة . هذه ذريعة واهية، ويتضح مدى ضعفها حين نسمع من أكثر من طرف دولي التحذير من أن السماح للأزمة السورية بالاستمرار من دون معالجة يمكن أن يتسبب في اتساع نطاق الصراع في سوريا ليشمل دولاً أخرى في المنطقة . إن احتمال جر المنطقة إلى الصراع هو أمر وارد تماما طالما استمرت الأزمة السورية تتسبب في نزوح مئات الآلاف من النازحين، وطالما استمر النظام السوري في محاولة تصدير أزمته إلى دول الجوار، الأمر الذي يجعل من خيار التدخل الدولي الحاسم في سوريا يبدو أقل مخاطرة مما تمليه فكرة أن ذلك التدخل يعني بالضرورة اتساع نطاق الصراع .
قررت بعض الأطراف الدولية أن تدعم المعارضة في سوريا بتقديم العتاد العسكري إليها، وذلك على الرغم من التحذيرات الحقيقية من أن مثل ذلك السلوك سوف يزيد من حدة العنف ويوقع المزيد من الضحايا في صفوف الشعب السوري . وقد وقع المحذور بالفعل، إذ إن العون العسكري الذي يتلقاه الثوار السوريون ليس كافياً من أجل أن يحسم هؤلاء الصراع في مصلحتهم على حساب قوات النظام الحاكم، ولكنه كاف فقط كي يضع أنصار الثورة في عداد المتسببين في احتدام العنف المتبادل في سوريا . وفي ظل وجود رغبات دولية متضادة بخصوص الإبقاء على نظام الأسد أو إسقاطه، فإن الدعم العسكري الذي يتلقاه كل من النظام والثوار يصنع شبهة أن حربا بالوكالة تدور في سوريا، وهذا أمر يبعد الثورة السورية عن هدفها الأصلي، ويتسبب عوضا عن ذلك في مضاعفة المعاناة الإنسانية في هذا البلد العربي .
الخليج