أيها العروبيون اتحدوا/ ناصر الرباط
في خضم الحروب العبثية المشتعلة في العالم العربي اليوم، تتراجع السياسة وتفقد دورها في تنظيم المجتمع لتصعد مكانها مفاهيم عتيقة مثل العرق والقبيلة والدين وفي شكل خاص المذهب في توجيه تعامل الجماعات مع بعضها بعضاً. ومع أن هذه المفاهيم غير-السياسية لبست لبوس السياسة وأنشأت أحزاباً ومنابر وزعماء وأعضاء، بل بطاقات انتساب وخلايا تنظيمية ونصوصاً مؤسسة، إلا أنها لم ترقَ إلى مستوى السياسة. فهي ما زالت تعتمد في خطابها على مفاهيم مطلقة لا مجال للتحاور معها. وما زالت تعتمد في جذب محازبيها على العاطفة لأعلى البرامج المقنعة. وما زالت تنظر إلى كل من عاداها لا على أنه لاعب في المضمار السياسي نفسه، له ما لها وعليه ما عليها، بل على أنه عدو وجودي يجب محوه من الساحة السياسية.
ولا يقتصر هذا النقد على الإسلام السياسي العنيف أو الأحزاب الإسلامية الأقل اعتماداً على العنف، بل يتعداه ليشمل غالبية الحركات السياسية التي لم تطور دعوتها لتتجاوز الاعتماد على انتماء فوق-سياسي أو قبل-سياسي، كالعرق أو القومية كما كان الاسم الشائع لها في القرن العشرين، وعلى رأس قواها حزب البعث، رائد العروبة المؤدلجة. فهو في تعريفه لنفسه ولرسالته اعتمد على المفاهيم المطلقة، كالرسالة الخالدة والأمة الواحدة بغض النظر عن مكوناتها، ورفض أو ألغى كل فكرة أخرى واضطهدها في العقود الطويلة التي استلم الحكم فيها في سورية والعراق.
لكن العروبة المسكينة التي مسخها البعث وحشاً شمولياً مسيطراً، يمكن أن تتطور لحركة سياسية حقيقية. بل يمكن لنا العودة إلى بداياتها لتلمس هذا التوجه الذي ما لبث أن تقوقع على ذاته بعد خضوع العرب للاستعمار الأوروبي، وخصوصاً بعد نشوء دولة اسرائيل التي ركزت على البعد القومي في تمييز نفسها عن المحيط العربي التي انغرست في قلبه (ولو أن الأدبيات العربية في القرن الماضي غالباً ما اعتبرت الرابطة اليهودية رابطة دينية، وما هي بذلك في العرف الإسرائيلي، فاليهود شعب من منظار الحركة الصهيونية المؤسسة لإسرائيل وليسوا ديناً بالمعنى الروحي أو التعبدي للكلمة).
فالعروبة حركة علمانية التوجه أساساً، بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي فصل الدين عن السياسة. وهي ظهرت كاستعادة ثقافية وكحركة سياسية خجولة في نهايات القرن التاسع عشر تحت تأثيرين رئيسين اثنين: ارهاصات الثورة الفرنسية التي وصلت ارتداداتها إلى سواحل شرق المتوسط نهاية القرن الثامن عشر وماتبعها من انفتاح بعض العرب على الغرب، وتعصب الحــركة الوطنية العثمانية الطورانية التي قــــادت إنقلاب الإصلاح والترقي الشوفيني عـــام ١٩٠٨، مما دفع بالعديد من المفكرين العــرب، وخصوصاً مسيحيي جبل لبنان وبلاد الشـام، للتفتيش عن مرفأ انتمائي مختلف عبر العودة إلى تراث مشترك مخالف للتراث المشترك مع الأتراك في إطار الدولة العثمانية، أي الإسلام الرسمي. وطبعاً عادوا إلى ما يجمعهم منذ ما قبل الإسلام لساناً وجغرافيةً، أي إلى العروبة.
العروبيون الأُول من هذا المنطلق علمانيون بغض النظر عن تدينهم الشخصي. فهم رأوا في الرابطة العربية أساساً لوطن عربي يمتد من اليمن إلى جبال طوروس ضاماً كل الديانات والطوائف المتكلمة بالعربية (السبب الأول لإهمالهم شمال أفريقيا أنها كانت بمجملها خاضعة للاستعمار الغربي آنذاك ما عدا المغرب بالإضافة الى قوة الهوية المصرية الوطنية المنفصلة).
ورأوا في الانتماء للعروبة سياجاً لانتماء وطني منفصل عن الدين ووسيلة للتمايز عن العروة العثمانية التي كانت لا تزال قوية التأثير بين المفكرين العرب المسلمين المحافظين. فأن يكون جلهم التف بعد ذلك حول الأسرة الهاشمية في مكة كزعيمة لدولة العرب المنشودة لا يعبر عن توجه ديني بقدر ما يعكس حنكة سياسية، ثبت قصر نظرها عندما نقض الانكليز وعودهم للشريف حسين وتقاسموا مع الفرنسيين ولايات العثمانيين العربية تطبيقاً لمعاهدة سايكس-بيكو.
تأقلم القسم الأعظم من هذا الجيل الأول من العروبيين مع الواقع الجديد الذي خلقته القسمة الاستعمارية، وإن كانوا لم يتخلوا عن حلمهم بدولة عربية. بل التف بعضهم حول الجيل الثاني من الأمراء الهاشميين في العراق والأردن على أمل إعادة إحياء ذلك الحلم. وهم مارسوا السياسة كما تعلموها من احتكاكهم بالغرب وأنشأوا الأحزاب الوطنية البرجوازية التي تغنت بالعروبة ولو أنها اتبعت برنامجاً وطنياً كان همه الأول الاستقلال عن الاستعمار.
هذا الانتماء الوطني والعروبي والعاطفي والسياسي في آن هو ما فقدناه بصعود الأيديولوجية البعثية وتاليتها الناصرية اللتين رأتا في الوحدة العربية قدراً وفي طمس معالم التنوع والاختلاف سياسةً، وإن حافظتا في حقيقة الأمر على مصالح قطرية ضيقة. هذا هو التشويه المتناقض الذي علق بالعروبة وجعل منها عقيدة شمولية بدلاً من كونها قاعدةً ثقافية جامعة لكل متكلم بالعربية وإطاراً لممارسة سياسة علمانية منفتحة، بل ربما متحررة، وفق برنامج وطني ذي أفق عروبي، يرى في تكامل البلدان العربية اقتصادياً وتعاونها سياسياً هدفاً مشتركاً لا يلغي الانتماءات الوطنية أو المناطقية أو حتى العرقية والدينية.
هل أن خطاباً سياسياً كهذا ممكن اليوم في ظل تنوع الانتماءات وتصارعها وصعود العولمة وتنامي المصالح الإقليمية في العالم العربي؟ أظن ذلك، فالقاعدة الشعبية ما زالت موجودة ومتوهجة والاستعداد للتلاقي والتكامل والتعاون ما زال قوياً على مستوى الأفراد. وقد شهدتُه عياناً الأسبوع الماضي خلال مؤتمر مؤسسة البابطين الثقافية في أكسفورد الانكليزية إذ تحلقت مجموعة من المؤتمرين في بهو الفندق بعد العشاء حول ضارب بالعود من المغرب وضارب بالدف من الكويت وغنوا سويةً أغاني عربية كانت قمتها نشيد “موطني” الذي ألفه الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان ولحنه الموسيقار اللبناني محمد فليفل عام ١٩٣٤، وأصبح اليوم النشيد الوطني لكل من العراق وفلسطين. كنت أرى السعودية والكويتية والمصري والسوري واللبنانية والفلسطيني والعراقية والمغربي والتونسي يغنون سوية بحماسة بعد أن قضوا نهارهم يبحثون في التحديات التي تواجه العالم العربي في عصر العولمة. هؤلاء جزء من الوطنيين العرب الذين لم تثنهم هزائم العرب المتتالية في نصف القرن الفائت عن التفكير والإحساس بالعروبة في الآن نفسه، والذين يمكن أن يكونوا الطليعة المأمولة لعودة السياسة إلى العروبة والعروبة إلى السياسة.
الحياة