صفحات الثقافة

الأدب الوطني والأدب السياسي

عباس بيضون

سؤال يكاد يصبح تقليديا، هو سؤال الأدب والسياسة، الأدب والثورة بالتالي. خرج بالتأكيد من السجال الرأي الذي يوصي الأدب بأن يتمثل السياسة وأن يكون لسانها وأن يؤدي رسالتها. خرج من السجال ولفترة بالطبع الرأي الذي ينصح الأدب بأن يكون من أدوات السياسة وأسلحتها، أقول خرج لفترة. ففي هذا المجال ليس هناك سوى فترات وأبعد الآراء عن النقاش اليوم قد يغدو غدا هو مركز النقاش. إذا نحن حررنا الأدب والفن من السياسة فإن الرأي المعاكس لا يزال قائماً وثمة من لا يزال يذهب إلى أن الفن الذي يجد غايته في التحريض السياسي هو بالتأكيد فن مهم، لا نقول انه وحده الفن لكننا لا نستطيع ان نخرجه من الفن، النقاش النظري في مسألة كهذه ليس كافيا، بل ليس الآن وارداً. أن يكون الفن سياسياً أو لا يكون ليس المسألة. يمكن للفن أن يكون سياسيا كما يمكنه ان لا يكون، المهم هو الفن نفسه.

أحسب أن ثمة خلطاً في هذا النقاش ساد في الثقافة العربية. يدرج القول ان المجتمعات العربية غارقة في السياسة وأن كل السجالات الأدبية وغير الأدبية تحل في السياسة. ثمة إذن حلول في السياسة لكل مرافقنا الثقافية والأدبية والاجتماعية. مثل هذا القول يعتمد على ما نسميه الجملة السياسية، الجملة أي الانشاء السياسي او السياسة اللفظية او الاصطلاح السياسي قد تبدو منتشرة عارمة، إن في الكتابة او الفن او حتى في المجتمع كله، مع ذلك نحن لا نجد غنى في الفكر السياسي ولا نجد غنى مماثلاً في الفن السياسي. قد تكون القضية الفلسطينية هي المثل. أنا لا أجد أن ثمة إبداعاً لافتاً في الفن التشكيلي الذي يتخذ من المسألة الفلسطينية موضوعه ورسالته. من السهل ان نلاحظ أن هذا الفن عائم على رمزية مبتذلة ودرامية مبتذلة وملحمية مبتذلة وبالطبع إذا نحن عدنا إلى التأليف وإلى الأسلوب وإلى الرؤيا وإلى الفكر لن نجد شيئاً مهماً. سنجد بالعكس دليلاً اضافيا على ان المضمون السياسي لا يغني الفن وانه لا يفعل سوى ان يسطحه وسوى أن يحوله إلى عموم واصطلاحيه وتوظيف سقيم لعناصر وإشارات متواترة وشعبوية. هذا الفن لم يترك أثراً مهماً. هو بالعكس قد يرد على نفسه ويثبت ما يقوله خصومه ويخدم الحجة التي هي ضده. هذا الفن يخدم أفكاراً متخلفة ورؤيا ممضوغة ومصطلحات بالية فليس من مصلحة الفكرة السياسية ان يخدمها فن كهذا ولا في مصلحة التيار الذي يوصي بعبرة سياسية للفن ان يكون هذا مثله وهذه نماذجه، فالأكيد أن فنا سياسيا هذا مثاله لا يخدم على الإطلاق أي مضمون متقدم للسياسة أو الفن، هو بالعكس يخدم سياسة رجعية وفناً محافظاً، وليس عجيباً في هذا المجال ان نجد أن الفن السياسي يلتزم واقعية متخلفة وانه مقصر في شتى عناصره، التأليف والأسلوب والملّونة.

إذا نحن حاولنا ان ننظر إلى الأدب تصطدم على طول الأدب المعاصر بما يسمى الشعر السياسي. أريد أولاً أن أعترض على هذه التسمية فما ندعوه الشعر السياسي اليوم وما دعوناه الشعر السياسي في الأمس قد لا يستحق هذه التسمية. نقرأ شعر أحمد شوقي المنسوب إلى السياسة كقصيدته المشهورة «سلام من صبا بردى أرق» ونقرأ شعر الجارم وحافظ ابراهيم والشبيبي والجواهري وأبوريشة وبدوي الجميل. بالطبع نحن لا نحشر كل هؤلاء الشعراء ولا نحشر قصائدهم في الموضع ذاته. غير أننا لا نجد أن مصطلح الشعر السياسي ينطبق عليهم. هناك بالطبع قصائد مؤثرة وقصائد لا تزال في الذاكرة وقصائد تركت صدى وقصائد بقي منها على ألسنتنا الكثير. لا أريد أن أنتقص من هذه القصائد بيد أن بوناً واسعاً لا يزال بيننا وبينها. نعرف أن هذه القصائد تعظ وتحض وتهاجم وتسخر وتعلم وترشد، بيد أننا نتحفظ على تسميتها سياسية، بل نحن أقدر على نسبتها إلى ذلك الشعر السياسي الذي عرفناه في العصور الماضية. قصائد الخوارج والشيعة والزبيريين. لا نجد بينها وبين هذه القصائد فرقا فهي في الغالب تجرى مجراها وتنسج على منوالها كأن مئات السنين مرت ولم تترك أثراً ولم تبلور أساليب ورؤى مختلفة. انه شعر يجري على فكر وعلى سياسة وعلى تناول وعلى طرائق لم تتغير منذ ذلك الحين، وإذا شئنا ان نصف هذه الأساليب وصفناها بأنها إسلامية وأنها قبلية وأنها خطابية. هذه أوصاف تجوز، بدون جور، على قصائد قيلت في أوائل القرن العشرين وفي أواسطه ولسنا نفرقها في حال عن تلك الخطب الشعرية التي قرأناها للكميت ودعبل وعبيدالله بين قيس الرقيات، وهي بدون شك، إذا لم نتوقف عند الفارق الزمني، لا تصل إلى مستوى شعر المتنبي الذي قد نجد له صدى سياسياً أو شعر أبي نواس في هذا الباب.

ولدت المسألة الفلسطينية في الوسط الفلسطيني والأوساط العربية نوعاً من الشعر سمي الشعر الوطني وأنا أصر على هذا الاسم الذي يميزه عن الشعر السياسي. لعل في تسمية الوطني ما يصون هذا الشعر عن أن يسمى سياسياً. أصر على هذا الاسم لأنه في أكثر نماذجه غارق في الشعبوية ويمتح من مخيلة بدوية ومن درامية مسطحة، كما أنه يكتفي بالجملة السياسية والتحريض السياسي. الوطنية قد تتصل بالسياسة وقد تكون فرعاً متخلفا منها. قد تكون رديفاً للعنصرية وقد تكون رديفا للمخيلة البدوية وقد تكون رديفاً للتحريض الشعبوي، والمهم أن هذا الشعر «الوطني» يستحق اسمه ولا يجب الخلط بينه وبين الشعر السياسي القليل جداً في شعرنا بقدر ما ان الشعر الوطني كثير وطاغ، لا يجب الخلط ومن الخير ان نخرج شاعراً كمحمود درويش من الشعر الوطني لنلحقه بالشعر السياسي الذي هو أحد نماذجه القليلة.

ثمة خطورة إذن في استعمال مصطلح الأدب السياسي مما يدعونا أكثر فأكثر لا إلى تحديده، وإنما الإشارة إلى نماذجه التي أظن انها في الرواية اكثر منها في الشعر. الشعر يمتح من تراث خطابي شعبوي بدوي، اما الرواية فلا تجد امامها مثل هذا التراث. الرواية، إذا شئنا أن نقف عند نجيب محفوظ، هي نموذج أدب سياسي لا يغرق في الشعبوية ولا يمتح من مخيلة خطابية بدوية. نجيب محفوظ في رواياته بعد الثورة: اللص والكلاب، وثرثرة فوق النيل وغيرهما يقدم نقداً قاسيا بل هو النقد الأقصى لخيانة الضباط والمثقفين الذين التحقوا بهم. انه يقدم الصورة الأجلى لما يمكن تسميته «سرقة الثورة» وما يمكن ان نجد فيه ملامح صعود وارتداد الطبقة الجديدة. يمكننا أمام أدب كهذا الأدب ان نتحدث بسعة عن أدب سياسي.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى