بكر صدقيصفحات سورية

“الطبيب” بشار الأسد ومجزرة الأطبّاء الثانية في مدينة حلب


بكر صدقي

يذكر مصطفى خليفة في روايته “القوقعة” قصة مجزرة الأطباء الأولى، وهي من القصص الكثيرة المستمدة من أحداث حقيقية جرت في سجن تدمر الصحراوي الذي تدور وقائع الرواية فيه. والقصة باختصار هي أن ضابطاً في الشرطة العسكرية المكلفة بإدارة السجن العسكري الرهيب قام بقتل عدد من الأطباء على التوالي من بين المعتقلين السياسيين المحبوسين هناك. لماذا الأطباء بالذات؟ لغز محير حقاً سرعان ما سينكشف عن حقيقة رهيبة لا يتصورها عقل إنسان مهما بلغ به الإجرام.

الضابط القاتل هو طبيب أيضاً، درس في كلية الطب في جامعة حلب قادماً من إحدى القرى الجبلية في الساحل السوري. وقع في غرام زميلة له من مدينة حلب، ابنة عائلة مدينية ميسورة. تقدم إلى أهلها يطلبها للزواج، فرفضوه رفضاً قاطعاً. وانكفأ الطبيب الشاب على جرحه العاطفي الغائر إلى أن واتته الفرصة للانتقام، حين التحق بعد انتهاء دراسته الجامعية بالخدمة العسكرية، وتم فرزه في الشرطة العسكرية وفي سجن تدمر.

هناك التقى ببعض زملائه في الكلية من معتقلي تمرد العام 1980، فاستعاد ذكريات خيبته العاطفية المرة. بقتله لزملائه الأطباء أراد أن يخفي عاره بإعدام كل الشهود، والانتقام من المدينة التي أذلت ابن الريف وأصابت كرامته في مقتل.

لعل قصة هذا الطبيب الشاب تلخص، بصورة مجازية، كل العقد الدفينة التي شاء القدر أن تقلب مصير سوريا والسوريين منذ الستينات إلى اليوم. الانقلاب العسكري في 8 آذار 1963 الذي قلب الموازين الاجتماعية لصالح الريف المهمش، سيتحول إلى استبدال طبقي ذي آثار كارثية على مستقبل الكيان السوري، في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة جميعاً. ومنذ الانقلاب التالي في شباط 1966، سيبرز المكون العلوي في الريف السوري بوصفه منبت حكام سوريا الجدد. ثم يأتي انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في تشرين الثاني 1970، الذي سيحول البلاد إلى مملكة سلالية لعائلته.

عقدة النقص الريفية المألوفة تجاه المدينة، ستخلي الساحة لعقدة التهميش العلوية المحضة بسردياته المذهبية عن اضطهاد يمتد عميقاً في التاريخ الإسلامي إزاء دين الدولة الإسلامية السني.

حافظ الأسد المتحدر من عائلة علوية متواضعة، سيمسك بزمام سلطةٍ لم يؤمن يوماً بأنه يستحقها. فهو الذي اختار السلك العسكري مهنةً له، في مرحلة تاريخية مؤاتية وفي بلد كانت الانقلابات العسكرية هي الطريقة الوحيدة لتداول السلطة فيه، أدرك أن القوة والمكر وحدهما وسيلتا الصعود الطبقي والسؤدد. أمسك بزمام الأمور بعدما زج برفاقه البعثيين في السجن، وطهر الجيش من أي طموحات مستقبلية. وحين كاد يشعر، بعد سنوات عشر في الرئاسة، بأن الأمور استتبت له تماماً، فاجأته موجة اضطرابات غير متوقعة. قامت مجموعات إسلامية مسلحة في إطار “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” بتمرد مسلح على حكمه، مدعوم بإضراب التجار في حلب وحماة وأدلب، وبحركة احتجاجات طلابية في جامعة حلب، وبمظاهرات شعبية في بعض أحيائها، وبحركة نقابية نشطة مناهضة لحكمه، خصوصاً نقابات الأطباء والمحامين والمهندسين. يمكن القول إن حافظ الأسد واجه ثورة محدودة، فيها مزيج من السلمية والسلاح، والإسلام السياسي والمجتمع المدني. وتمكن من سحق التمرد بعنف شديد بلغت تكاليفه عشرات آلاف القتلى ومثلهم من المعتقلين والمفقودين والفارين خارج البلاد.

لم يقض الأسد فقط على المجموعات الإسلامية المسلحة، بل كذلك على كل الحركة السياسية المعارضة من إسلاميين وإشتراكيين وقوميين. كما قضى على الحركة النقابية وعلى المجتمع المدني بصورة عامة.

أفاقت مدينة حلب في صباح يوم الأحد 24 حزيران 2012 على مجزرة رهيبة ضحيتها أطباء ومسعفون كانوا قد كرسوا نشاطهم، منذ بداية الثورة السورية، لإسعاف الجرحى في التظاهرات السلمية. سبع جثث متفحمة في سيارة إحدى الضحايا، أربع أطباء وطالبا طب وطالب أدب إنكليزي تفرغ لإسعاف الجرحى مع صديقيه.

هي مجزرة الأطباء الثانية، وبطلها طبيب أيضاً يحمل من العقد النفسية ما يتجاوز هذه المرة دونية ابن الريف إزاء أهل المدينة. نشأ بشار الأسد في رعاية أب قاسٍ متكتم متشكك في كل ما حوله. لم يكن حافظ ديكتاتوراً في الحكم فقط، بل كذلك داخل عائلته، فلم يرحم شقيقه الأصغر رفعت حين حلم بوراثة الحكم منه إبان مرضه في العام 1984، فطرده خارج البلاد ولم يسمح له بالعودة بعد ذلك برغم جميع الوساطات. أضف إلى ذلك حضور أخ بشار الأكبر باسل الذي طغى على حضوره تماماً. يروي زملاء لبشار في مدرسة اللاييك بدمشق أنه كان منطوياً على نفسه، يبتعد عن زملائه لأنه غير قادر على مجاراتهم في المرح واللعب، مقابل الشخصية القوية لأخيه الأكبر باسل الذي تمتع بكل مزايا الابن البكر ذي الحظوة عند الأب.

من المحتمل أن حافظ الأسد لم يكن يخالط أولاده كثيراً بسبب انشغاله بعمله طوال الوقت. لم يملك الدكتاتور ترف الاعتماد على المستشارين والمساعدين والحاشية. كان عليه أن يتابع جميع الملفات بنفسه، فهو الوحيد الذي يملك اتخاذ القرارات في جميع الأمور، ولا ثقة له بأحد. فإذا حظى بلحظات من الراحة فمن المحتمل أنه كان يخص بها ابنه البكر الذي حلم بتوريثه، تاركاً أولاده الآخرين لرعاية أمهم. هناك شهادات متواترة عن سطوة الأم على بشار إلى اليوم.

بشار الذي اضطرالى قطع دراسته في لندن لطب العيون بقرار من أبيه، ونشأ في رعاية أمه وفي الظل الساحق لأخيه الأكبر باسل، سيجد نفسه فجأةً في الموقع الأول في السلطة، يستطيع نظرياً أن يفعل أي شيء بلا رقابة أو محاسبة. تماماً كما الطبيب الضابط في الشرطة العسكرية الذي وجد نفسه في سجن تدمر الرهيب، يملك كامل الصلاحيات لقتل أي سجين سياسي، فقتل بدم بارد وبخِسَّة جميع زملائه في كلية الطب بجامعة حلب، ممن كانوا شهوداً على عاره العاطفي والطبقي.

أليس السوريون جميعاً شهوداً على وراثة ما لا يورَّث لمن ليس أهلاً لشيء؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى