جوانب من «الاقتصاد السياسي» للحرب الأسدية الثانية
ياسين الحاج صالح
في تقرير مهم صدر مطلع آب (أغسطس) الفائت ذكرت المجموعة الدولية المهتمة بالأزمات، «إنترناشنال كرايسز غروب»، أن تدهور سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي ليس بالأمر السيء من وجهة نظر النظام السوري، بل يمكنه أن يكون خبراً طيباً لأنه ينعكس ارتفاعاً في قيمة أرصدته من العملات الأجنبية بالليرة السورية، ويتيح له دفع أجور موظفيه وعسكرييه بعملة محلية مبخوسة القيمة، إلى درجة أن المجموعة الدولية التي تعتمد هذه المقالة على معلوماتها المباشرة نسبت إلى رجل أعمال سوري تقديره بأن النظام ربما يضارب على سعر صرف الليرة.
غير أن هذه الآلية النقدية مصدر واحد فحسب لتمويل الحرب التي يشنها النظام على محكوميه الثائرين منذ 19 شهراً. يضاف إليها امتناع النظام ببساطة عن دفع الرواتب أو تحمل أية مسؤولية في المناطق الخارجة عن سلطته وعليها.
في المقام الثاني، تواترت معلومات عن تقديم إيران عشرة بلايين دولار دعماً للتابع السوري، وهو مبلغ ضخم، يعادل نصف احتياط المصارف السورية من العملات الصعبة عند بداية الثورة، ويقارب خُمس الناتج الوطني الإجمالي عام 2010. هذا فوق ما يرجح وصوله من أسلحة ومعدات تكنولوجيا، يستبعد أن يكون النظام السوري دفع ثمنها، بفعل نوعية العلاقة السورية الإيرانية، وما فيها من بعد عاطفي «غير عقلاني»، فوق كونها من وجهة نظر الجمهورية الإسلامية استثماراً استراتيجياً لا يقدّر بثمن. أقرب شيء إلى هذه العلاقة هو العلاقة الأميركية الإسرائيلية التي لا تشبه العلاقات بين الدول، وقلما تقدر قيمتها بالمكاسب والخسائر المادية.
وبينما كان يتداول في الشهور الأولى للثورة أن بعض رجال الأعمال المرتبطين بالنظام يمولون «الشبيحة» ويوفرون بعض مرافقهم كمراكز اعتقال، طور النظام نسقاً لتمويل ذاتي للشبيحة وأجهزة الأمن، يتمثل في إباحة البلدات والأحياء التي يقتحمونها لهم. يجري نهب البيوت والمحال التجارية علناً، ولا يقتصر الناهبون على ما خفّ حمله وغلا ثمنه على طريقة اللصوص، بل يستولون على كل ما يستفاد منه، مع الاحتفال العلني بالغنيمة دوماً. ويحصل أن يجري تعهيد بعض أقسام من الأحياء المفتوحة من قبل ضباط الجيش أو الاستخبارات للشبيحة وقادتهم مقابل مبالغ مالية متفق عليها: هذه البناية لكم، مقابل مليون ليرة مثلاً. وتنقل الغنائم في مواكب علنية تتجه إلى أماكن معلومة، وقد تعقد لها أسواق تباع فيها، كان من أشهرها «سوق السُّنّة» في حمص في ربيع هذا العام، وكانت تعرض فيه وتباع المنهوبات من أحياء اقتحمتها قوات النظام وشبيحته مثل بابا عمرو وكرم الزيتون وغيرهما.
وليست خطط التنظيم العمراني التي أعلن عنها أخيراً بعيدة عن منطق الغنيمة ذاته. ففضلاً عن أنها تُضفي شرعية عامة على تدمير المناطق والأحياء الثائرة، وفوق أنه يحركها نازع وضع المجتمع تحت المراقبة أو جعله مكشوفاً بالكامل، فإنها تستأنف تقليد المصادرة والاستملاك الذي سار عليه النظام البعثي منذ بدايته، مسوغاً إياه بـ «دواعي المصلحة العامة». آلت أراضٍ وأملاك ومزارع ومساكن إلى مقربين خواص من النظام، يشكلون اليوم متن البرجوازية السورية الجديدة. وفي هذا ما يفسر جانباً من حدة اعتراض بلدات مثل داريا والمعضمية والمزة وبرزة على النظام البعثي والأسدي. وليس نادراً أن يعبّر ناشطون من هذه البلدات أو الأحياء عن صراعهم مع النظام بأنه يهدف إلى استرجاع «أراض مغتصبة». ويثبتهم على هذه اللغة التي لا يُسمع مثلها إلا من الفلسطينيين في سياق الصراع مع إسرائيل، أن مناطق مخالفات أخرى لم تُشمَل يوماً بالتنظيم العمراني المزعوم، لأسباب يرجح أنها طائفية.
ومن قد يمر بأوتوستراد المزة اليوم بمكاتبه وسفاراته ومساكنـــه الفخمة، ربما لا يعلم أنه على بعد عشــرات الأمتار عن هذه الواجهــــة البراقة اقتلعت بساتين الصبارة في المزة بالبلدوزرات معاقبة للمزاويين على احتجـــاجاتهم، ولمنع الثائرين من التـــواري فيها. ومثل ذلك جرى أخيراً لبساتين صبارة في دُمَّر. هل بغير إسرائيل تذكر هذه الممارسات أيضاً؟
وعلى كل حال لا يبدو هذا التشبيه بعيداً عن خاطر ضباط الاستخبارات الأسديين. ينسب تقرير المجموعة الدولية ذاته إلى أحدهم قوله: «عليّ أن أعمل على الأرض كأني قوة احتلال وليس قوة أمنية محلية. فلننس أن الأعداء سوريون وأنك أنت نفسك سوري. أنت في نظرهم قوة احتلال. وعليك أن تنصب حواجز متينة بينك وبينهم. يجب أن يضطروا إلى العد للعشرة قبل أن يفكروا بمهاجمتك، أي أن عليك أن تعمل بحيث يكون مكلفاً جداً لهم أن يفكروا بذلك…». سيادة الضابط يعتبر أن نظرهم إليه كقوة احتلال أمر مسلم به في كل حال، والشيء الوحيد الذي يفكر فيه هو بناء «الحواجز المتينة» والتصرف فعلاً كمحتل أجنبي، يعمل بكل الوسائل لتجريد الأهليين المتمردين من السلاح. ليست للتصرف على هذه الشاكلة أي علاقة بانطباعات خاطئة أو اختلالات إدراكية. إنه يدرّ سلطة مطلقة ومالاً وفيراً.
وغير مصادر تمويل حربه، يجتهد النظام في تجفيــــف منابع تمويل الثورة. يذكر تقرير المجموعة الدولية أن بشار الأسد التقى 23 تاجراً دمشقياً في 8 أيار (مايو) الماضي، ونســــب إلى أحد الحاضرين قوله: «قـــال بشار إنه سمع أن بعضهم يدعـــــمون الثورة، وإنه إذا كان هذا صحيحاً فإنه مستــــعد لأن يفعل بسوقي الحميدية ومدحت باشا ما كــــان فعله ببابا عمرو. كان يريد منــــــهم أن يعرفوا أن لا مشكلة لديه أبداً في القيام بمثل ذلك». في هذا الشأن دون غيره يتعيّن تصديق الرجل. كل الأزمنة والأمكنة مناسبة للرد على عدوان المحكومين الثائرين أو حتى تضامنهم في ما بينهم.
تندرج هذه المساعي التمويلية والسياسات المواكبة لها في خلع النظام قناع الدولة، وارتداده إلى نواته الصلبة أو الدولة الباطنة التي تتصرف كميليشيا وفق تقرير المجموعة الدولية، لا هدف لها غير البقاء في السلطة. ومن أجل البقاء طورت الطغمة منهجاً اقتصادياً في الوطنية اسمه: بلاها! حمص؟ بلاها! إدلب؟ بلاها! ولهذا النهج مكمل إقليمي، أورده التقرير على لسان ضابط أمن: «يا صديقي، نستطيع إحراق المنطقة كلها»!
الحياة