إشكالية الدولة السورية البديلة/ نائل حريري
نائل حريري
ما زالت المقاربات للوضع السوري تراوح في نطاق نظرتها الثنائية الضيقة: سيطرة النظام وسيطرة المعارضة. بين هذين الخيارين ثمة طيف واسع يجب الإمساك به، طيف يضم شعباً متمسكاً بالدولة لا بوصفها نظاماً حاكماً بل بوصفها أساساً للعقد الاجتماعي القائم حتى هذه اللحظة، والذي لم تستطع المعارضة تأمين بدائله فعلياً.
بنظرةٍ مغاليةٍ في التبسيط ثمة خريطة جغرافية يتقاسمها الطرفان، خريطة عسكرية بحت لا يعوّل عليها بينما تأكل الأولويات العسكرية كل ما عداها من أولويات. ثمة غياب قاسٍ لمفهوم الدولة لدى الطرفين، فمع اختفاء الدولة تماماً سواء عن المناطق “المحررة” أو حتى في مركز حلب المدينة التي تعتبر فعلياً تحت سيطرة النظام، ندرت الخدمات الأساسية منذ زمن، وأصبح روتين الحياة اليومية يتطلب الاستغناء عن الكهرباء والمياه والاتصالات، بل في ما هو أبعد من ذلك: المناطق التي لا تزال تحت سيطرة النظام أصبحت بعيدةً عن الجباية والتحصيل الضريبي، لقد استغنت الدولة حتى عن مستحقاتها.
طوال أشهر الصراع الماضية توسعت المبادرات الأهلية الفردية والجماعية في محاولة لشغل الحيز الذي تعامت عنه الدولة، بين فرق إغاثة شبابية مستقلة تعمل في مراكز النازحين وفرق مدنية تعمل على مشاريع تنظيف مناطق المدينة المهملة، وفرق أخرى تعمل على مواكبة الحاجات المتزايدة للسكان في أغلب المناطق. ومع تفاقم الوضع راحت الدولة تنسحب شيئاً فشيئاً من الحياة العامة، وراحت المبادرات البديلة تتوسع أفقياً وعمودياً. هكذا تم التوصل إلى حل مأساة المحطة الحرارية في حلب بفضل بعض المهندسين المتطوعين الذين شكلوا فريق دعم يصل بين طرفي النزاع ويعمل على صيانة المحطة بالاتفاق معهما. وفي الوقت ذاته كانت مسألة ضياع السجلات الرسمية وتضررها تشغل مجموعةً من المتطوعين المدنيين تحت اسم تجمع “مهندسون من أجل الوطن” حاولوا طوال أشهر تسليط الضوء على أهمية الحفاظ على السجلات المدنية والعقارية والقضائية صيانة لحقوق المواطنين. هذه القضية المحورية في حياة المواطنين بقيت مهملةً بشكلٍ كامل: القصر العدلي مقفل منذ أكثر من سبعة أشهر، ودائرة السجل المدني أصبحت من الماضي، وتجمع شعب التجنيد العسكرية استغرق أكثر من خمسة أشهر حتى تم استبداله شكلياً.
بعد مرور أكثر من شهرين على بداية محاولات إيجاد حل بديل، تمكن تجمع المهندسين مؤخراً من إنشاء أول مركز حقيقي في حلب لتوثيق السجلات العقارية، يتضمن المركز حوالي خمس عشرة كاميرا ديجيتال بدقة عالية موصولة على حواسيب تحفظ صور السجلات مباشرة على أقراص صلبة، تم الاتفاق مع محافظة حلب على تمويل هذه المعدات لتوثيق ما يزيد عن 20 ألف سجل عقاري مهدد بالضياع، في مقابل قيام المتطوعين أنفسهم بالإجراءات الضرورية لإتمام سير العمل. هذا الإجراء البسيط الذي يقوم به المتطوعون يهدف إلى منع التزوير وعمليات الإضافة، وتأمين نسخ إضافية من السجلات الرسمية ترسل إلى جهات مختلفة وتحفظ في قواعد خاصة للبيانات، ويعتبر هذا الحدث أول محاولة فعلية لإقامة مشروع دولة بديلة في كنف النظام ذاته الذي تخلى عن مسؤوليات الدولة.
إذن، خسر النظام السوري إحدى المعارك التي أقحم نفسه فيها بوصفه “حامياً للشعب”، إذ يبدو أن الشعب هو من بدأ بحماية نفسه. ما يحدث في مناطق سيطرة النظام من فصل للدولة عن النظام هو الأكثر تأثيراً وقدرةً على إحداث التغيير في الوقت الذي نرى على الضفة المعارضة دمجاً سيء النوايا لمفهوم النظام بمفهوم الدولة، والنتيجة: الكتائب المعارضة تسارع إلى إتلاف مباني وسجلات الدولة بما في ذلك من سجلات عدلية وقضائية ومدنية وعقارية… ومن ثمّ تقوم – في أحسن الأحوال- بتعيين عدد من ممثليها تحت اسم “المحكمة الشرعية”.
مجموعة صغيرة من المتطوعين كانت قادرةً على إعادة تعريف مفهوم إدارة الأزمة بطريقتها الخاصة بعد أشهر من المتابعة وباستخدام أبسط ما يمكن توفيره في هذه الظروف. كانت الدولة السورية العام 2002 قد أقرت مشروع أتمتة السجلات العقارية على الورق وخصصت له مبلغ 45 مليون ليرة سورية (حوالي مليون دولار وقتها) بقيت حبيسة الأسئلة والانتظار. لكن يبدو من المقرر لهذا الشعب أن يعيش لحظة ولادة دولته البديلة التي يصنعها بنفسه ومن الصفر، ومن يدري، قد تكون هذه التجربة جزءاً أساسياً في ترسيخ الديمقراطية.
المدن