إعلام النظام.. غبي فعلاً؟/ياسين سويحة
في ما يخصّ التسويق السياسي والإعلامي، ستستحق الحالة السوريّة دراسة أكاديمية العميقة في المُستقبل. وﻻ نتحدّث هنا، للأسف، عن المعارضة السوريّة، والتي فشلت سياسياً وإعلامياً في تقديم قضيّة بسيطة الفهم وعادلة القيمة وواضحة المعالم إلى الرأي العام العالمي، فوقعت غير مرّة في أفخاخ نصبها النظام وحلفاؤه، بل عن النظام السوري. عن كيف استطاع تقديم نفسه إلى طيف الرأي العام الدولي. كيف تمكّن من إعطاء خطاب مختلف لكلّ جماعة إيديولوجيّة من الجماعات الفاعلة. كيف، حين يتعذّر الحشد الإيجابي، يُعطّل الحشد سلباً ضدّه بتعقيد الأمور وتضييع الحقائق وتحويل طريقٍ مستقيمة ومستوية وواضحة إلى متاهة.
كمثالٍ يصلح بمثابة انطلاقةً للتفكير في أسلوب هذا التسويق، السياسي والإعلامي، نجد صورة الأوعية التي عرضها التلفزيون السوري مؤخراً، والتي قُدّمت إلى الرأي العام كدليلٍ على اتهام “الإرهابيين” بارتكاب مجزرة الغوطة باعتبار أن كتابةً بدائية تقول “صُنع في السعوديّة” شغلت صدر الوعاء، فأثارت زوبعة جديدة من السخرية بين السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي. إذ ا رأوا في هذا المشهد السخيف مثالاً جديداً على الخطاب الهلوسي للنظام، وعلى استغبائه لعقول مؤيديه وأنصاره. كلّ ما سبق صحيحٌ وأكثر، لكنّ دخان هكذا مشاهد يحجب الرؤية عن واقع أعمق، أكثر تعقيداً وخطراً، وهو أقل غباءً بكثير مما يُرى في الوهلة الأولى.
كنا نسخر -محقّين- من الخطاب الهلوسي التافه الذي يطلقه النظام في وسائل إعلامه، لكن هذا الخطاب ليس سوى جزء غير ذي أهمية من حملة برمجة نفسيّة- سياسيّة تمكنت، على سبيل المثال، من أن تجمع خصوماً شرسين مثل جورج غالاوي ونيك غريفين، زعيم اليمين القومي البريطاني، في دعم النظام وروايته. ونجحت أيضاً في استقطاب دعم اليمين المتطرّف الأوروبي وغالبية الأحزاب اليساريّة والشيوعيّة حول العالم في آنٍ معاً. اليمين يُريد سماع كلام عدائي ضد الإسلاميين وفعلٍ أكثر عدائية تجاههم، والنظام السوري قدّم منهما ما يكفي لكي يصل إلى مرتبة إسرائيل كخط أول ضد هؤﻻء “الإرهابيين العدميين”. واليسار يرغب في سماع خطاب مُعادٍ للغرب ومتصيّد لمؤامرات الأميركيين والإسرائيليين، وأيضاً حصل على ما أراد. أصحاب الاستعداد المُسبق للتحليل المؤامراتي للأحداث قرأوا تحليلات وأنباء عن مخططات سرّية لحلف الأشرار ضدّ الأخيار حدّ التخمة وأكثر.
عدا تقديم الخطاب الإيديولوجي المُلائم لكلّ جماعة، برع النظام وحلفاؤه في استراتيجيا تعقيد المشهد عبر تعتيم الوقائع وتضييعها، أو بالعكس: جعل الإجابة سهلة إلى درجة إثارة الشك لدى أعداء الإجابات البسيطة. حصل هذا في كلّ مجازر النظام، حين يتمكّن حقن خطاب الشكوك حول ما جرى في الصحافة العالميّة، أكانت تلك المتواطئة معه أو المُستعدة مسبقاً للوقوع في هكذا أفخاخ. لقد نجح النظام في بثّ الضبابيّة حول كل المجازر والجرائم التي ارتكبها بانتظار أن تُنسى الواقعة إعلامياً، بعد أن يكون قد استفاد منها سياسياً في تثبيت سقف جديد لإجرامه، وعسكرياً في تحقيق تقدمات عسكرية، والمجزرة الكيماوية الأخيرة مثالٌ واضح: النظام يقصف بالمدفعية والطيران، وباعترافه، قبل الهجمة الكيماوية، أثناءها وبعدها، ويحقق بفضل هذه الهجمة، باعترافه أيضاً، تقدماً عسكرياً أبرزه تلفزيونياً، ولا يتعاون مع التحقيق في المجزرة رغم أن فريقاً أممياً متخصصاً يقبع في دمشق على بعد أقل من نصف ساعة من موقع المجزرة، وﻻ يُسمح بدخول الفريق الأممي إلى الموقع إﻻ بعد أيام، وإثر تحوّل المُطالبة الدوليّة إلى تهديد بالضرب العسكري. ومع ذلك، تجد في الصحافة الدوليّة استعداداً متنوّع الدرجات للشك في أن الجيش الحر قصف مناطقه بالكيماوي وقتل أكثر من ألفٍ من أهله وهزم نفسه عسكرياً فقط لكيّ يسيء لصورة النظام. ﻻ سوابق لهذه السورياليّة في التعاطي الإعلامي.
أما خطاب الهلوسة، من طراز أوعية “صُنع في السعوديّة”، أو المصفّحة الإسرائيليّة في ريف حمص، أو العملات الإسرائيلية التي زعم جيش النظام أنه وجدها أثناء تفتيشاته (أين يمكن شراء شيء بالشيكل في سوريا؟ وهل تعجز إسرائيل عن الدفع لعملائها بالدولار، أو حتى بالليرة السوريّة؟) فلا يبغي إقناع أحد. بل هو قيمة رمزيّة بحتة لمن قرر تأييد النظام لأسبابٍ لا علاقة لها بما يروّجه في هذا الخطاب أصلاً، ورسالة لمن يهمه الأمر بأن هناك الكثيرين ممّن يؤيدون هذا النظام لدرجة استعدادهم لقبول استغباءٍ سخيف ومضحك بهذا الشكل. الهلوسة الاستغبائية ليست سوى فعل طقوسي بحت بين النظام ومؤيديه (بل مُريديه)، خطابات التسويق المُهمة تذهب في أقنية أخرى، وتنجح في أن يكون اﻻختباء خلف ﻻزمة “الأمور أكثر تعقيداً مما يبدو” الرّد البديهي، شبه المُبرمج، لدى قطاع واسع من الرأي العام العالمي بعد مجزرةٍ يُقتل فيها أكثر من ألف إنسان. في حين أن المسألة أبسط بكثير: طاغية أب، استعبد البلاد وأهلها طوال ثلاثين عاماً من الاستبداد والإفقار، ورّث البلد كما تورّث مزرعة دواجن لابنه، والذي استمر على سيرة أبيه في اﻻستبداد والإفقار، قبل أن يفتح حرباً شاملة على شعبه حين جرّب هذا الشعب الإفصاح عن رغبته في أن تكون له حقوق وحُريات. أين التعقيد في فكرة وجوب رحيل هذا الطاغية؟