ازدواجية خطاب الأزهر إدانة عنف «الإخوان» وتبرئة عنف العسكر/ بسمة عبد العزيز
الشواهد الخطابية للأزهر تكشف مواقف المؤسسة التي تراوحت بين الممانعة والدعم والتأييد وكذلك الرضوخ لمؤسسة السلطة.
تُشَكِّلُ المؤسسات الدينيّة الرَسمِيّة سُلطة راسخة في المجتمع المصريّ، إذ تحظى بمكانة تاريخيّة لدى الجماهير، يدعمها ما للدين في حدّ ذاته مِن أثر واضح على مُختَلَف مناحي الحياة. مِن المفهوم أن للأزهر حقّ التمثيل الرسميّ في المَحافِل والمُناسبات؛ دينيّة وغير دينيّة، داخلية وخارجيّة، كما أن الخطاب الصادر عنه هو الخطاب المُعترَف به مِن الدولة بطبيعة الحال، وبناءً على هذا وذاك فإنه يلعب دورًا مهمًا، تتبلور مِن خلاله عملية الهيمنة التي تمارسها السُلطة في المُجتمعات.
ربما كانت الفترة التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين مِن يناير لعام ألفين وأحد عشر، مِن أكثر الفترات زخمًا على الساحة الداخلية المِصرية في السنوات الأخيرة. تنحى الرئيس مبارك، وتولى المَجلس العسكريّ الحُكم لما جاوز العام بقليل، ثم تولّى مرشح جماعة الإخوان المسلمين رئاسة الجمهورية في حزيران عام ألفين واثني عشر بمقتضى أول اقتراع رسميّ يُجرى بعد الثورة، ليصبح بذلك أول رئيس مدنيّ مُنتخب. خلال أشهر مِن تصدُّر جماعة الإخوان المسلمين المشهد، اشتعل صراعٌ سياسيٌّ ضمَّ مؤسسات كبرى في الدولة، وجماعات قوة متباينة المصالح، وقد تعمق واستفحل حتى وصلت الأزمة إلى ذروتها مُنتصف عام ألفين وثلاثة عشر وسط تذمر شعبيّ واسع النطاق، تبلور هدفه في إقصاء الجماعة عن الحكم، وقد أخذت المؤسسة العسكرية على عاتقها مُهمة عَزل الرئيس في الثالث مِن تموز مِن العام نفسه، ومِن ثمّ لجأ مؤيدوه إلى أشكال مُتباينة مِن الاحتجاج، وتوالت الأحداث إلى أن تم فضّ أكبر اعتصام قاموا به في أغسطس مِن العام نفسه، وهو الفعل الذي مثل بداية عودة مؤسسات الدولة الأمنية لفرض سيطرتها على الأوضاع.
كانت المؤسسة الدينية حاضرة في هذا المشهد بخطابها الذي تَفَاعَلَ مع خطاباتٍ شتّى، ومِن أهمها خطاب السُلطة السياسيّة، وقد جاءت استجابات شيخ الأزهر والمشيخة لهذا الخطاب في مجموعة مِن النصوص، لتعكس طبيعة العلاقات السُلطوية وتطوراتها، وما انتابها مِن مَوجاتِ مَدٍّ، وجَزر في سياقِ تلك الأحداث الكبرى المُتعاقبة، التي نحتت مَساراتٍ خطابية لم تكُن في بعض الأحيان مُتوَقعة، وربما لم تكُن حتى كامِلة الوضوح، وكما أنّ للسُلطة السياسيّة أدوات تُمَكّنها مِن السيطرة والتوجيه، فللمؤسسة الدينيّة أيضًا أدواتها كونها سُلطة اجتماعية قادرة على الهيمنة والتأثير، وقد تجسَّدَت هذه الأدوات جميعُها في خِطابَيهما، وعَكَسَت الاستجاباتُ المُتبادَلة – مُباشِرة وغير مُباشِرة – مَواضعَ قوة ومَواطنَ ضَعف، وجاءت الشواهد الخطابية لتكشفَ عن مَواقف للمؤسسة الدينيّة تراوحت بين المُمَانعة، والدَعمٍ والتأييد، وكذلك الرُضوخ، وكان مثيرًا أن تجتمع هذه الاستجابات المتباينة كلها في فترة زمنية قصيرة، وهو أمر عكس زخم الأحداث وتداعياتها، وعدم استقرار المشهد العام.
تبدلات
لقد وَجَدَ شيخُ الأزهر نفسَه مُنذ بَدءِ الحِراكِ الثوريّ مَحلّ اتهامٍ باعتبارِه جزءًا مِن نظامٍ سابقٍ، لكنه نجا مِن مُحاولات العزلِ والإقصاءِ التي طالت بعضَ رموزِ هذا النظام، وبقي في موقعه حتى طاله التهديدُ مرةً ثانية بتوَلّي جماعة الإخوان المسلمين الحُكم، لكنه نجح كذلك في الاحتفاظِ بموقعه حتى عزلت المؤسسةُ العسكريةُ الرئيسَ محمد مرسي، لتطال شيخ الأزهر الانتقادات مِن جديد بسبب موقفه المؤيد للعزل، وقد أدت الأحداث مُجتمعة إلى سَيلٍ مِن الهجوم على المواقف التي اتخذها، وإلى تكوين بعض الحركات والجبهات المُعارضة له، كما أدى بروز الخطاب الرافض لمواقف الأزهر والناقد له، إلى نشوء خطاب آخر مُضاد، بحيث تكونت جبهات وحركات تدافع عن الأزهر وتتبنى مواقفه، وقد استوقفني من بين تلك المواقف ثلاث استجابات صدرت عن المؤسسة الدينية تجاه الأجهزة الأمنية، ففي منتصف عام 2013 تقريبًا وقعت أحداث عنف متتالية كانت هذه الأجهزة طرفًا فيها، وقد أدت إلى سقوط أعداد من القتلى والمصابين المنتمين إلى جماعات المعارضة، وجاء خطاب الأزهر في الواقعتين الأولى والثانية ليستنكر ويدين سقوط القتلى واستخدام العنف، وليصف إحداها بأنها «تصرفات دموية»، وليشير إلى مرتكبيها بكونهم «مجرمين»، ورغم اكتفائه بجعل هذه الانتقادات مُستترة، فقد بدا موقفه مُعارضًا لخطاب السُلطة بوجه عام، لكن هذا الموقف تبدل في أقل مِن شهر واحد، ليغدو موقف دَعمٍ ومُساندة للأجهزة الأمنية، إذ تحوّلت الأوصاف إلى النقيض في خطبة شيخ الأزهر التي ألقاها بعد فض اعتصامَي رابعة العدوية والنهضة بأيام ثلاثة، حيث أسقطت قوات الأمن أيضًا مِئات القتلى والمصابين، وإذا ما انعقدت المقارنة بين المواقف جميعها؛ يمكن القول بأن خطاب المؤسسة الدينية دفع في بداية الأمر بأوصاف سلبية في مُواجهة استخدام السُلطة العنف، ومع تفاقم إسالة الدماء، استخدم أوصافا إيجابية.
بدا هذا التناقُض بمثابة استجابة رضوخ لكل مِن خطاب السُلطة والخطاب الإعلاميّ، اللذين راحا يُعيدان تشكيل صورة الأجهزة الأمنية، وتحديدًا مؤسسة الشرطة، ويُفرِطان في إسباغ القِيم الإيجابية عليها، وقد صدرت معظم الصُحف في اليوم التالي لعملية الفضّ مُحَمَّلة بأوصاف البطولة والشجاعة والتضحية لأفراد الشرطة، ومِن ثمّ انصاع خطاب المؤسسة الدينية بتأسيس مَوقِف خطابيّ جديد.
لقد عمد شيخ الأزهر إلى توجيه الدعم والمُساندة إلى رجال الأمن بأساليب مُتعددة، منها الإشارة إليهم بعبارة: «أنتم خير أجناد الأرض»، ويأتي هذا التعبير بمثابة اقتباس لنصّ دينيّ، هو الحديث النبويّ: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتّخذوا فيها جندًا كثيفًا، فذلك الجُند خير أجناد الأرض»، والحقيقة أن هذا التضفير الخطابيّ أدى إلى غمرهم بالثناء المُباشر الذي يتمتع بدرجة عالية مِن الثبات والاستقرار، اعتمادًا على الحصانة التي يحظى بها النصّ الدينيّ، والتي تجعله غير قابل للمراجعة، يُضاف إلى ذلك الأسلوب الخبريّ الذي يُقِرّ المحتوى ويجعله بمنأى عن المجادلة والنقاش، ويُلاحَظ أن بعض رجال الدين دفعوا بعد عزل الرئيس مرسي بضَعف هذا الحديث، رافضين الإذعان إليه، فيما قام مُفتٍ سابق بالرد عليهم، ساردًا دلائل صحته في استجابات مُتتالية شكلت سلسلة مِن الحوارية الظاهرة.
استرخاء السلطة
لجأ الشيخ الطيب إلى استمالة رجال الأمن قائلا: «يناشدكم الأزهر الذي يقف خلفكم أن تتوخوا الحذر والدقة وأنتم تنشرون الأمن والأمان»، ويُلاحَظ أن انضمام الأزهر بثِقَلِه المعنويّ إلى جانب رجال الأمن إنما دَعَّم الثقة في صواب أفعالهم، فيما ظلت استجابتهم إلى النصائح التي يتلقونها موضع اختبار كونهم دَرَجوا في أحيان كثيرة على النقيض، وقد أوحى استخدام الشيخ الطيب لظرف المكان «خلفكم» بالمساندة والتشجيع، كما وفر لهم الحماية المعنوية، المكفولة مِن المؤسسة الدينية ذاتها، وقد استأنف الشيخ الطيب حديثه لرجال الأمن قائلا: «إنا لنناشدكم التحلي بالصبر الجميل الذي عهدناه فيكم تجاه انفعالات بعض المتظاهرين»، مُستخدمًا التوكيدات المتعاقبة: (إن) و(اللام)، ثم المناشدة الجماعية، مُسبغًا عليهم قيمة إيجابية هي الصبر الجميل، ويُلاحَظ أن ثمّة علاقة نصّية بين استخدام تعبير «الصبر الجميل» في هذه الخطبة، وتعبير «فصبر جميل» الوارد في سورة يوسف، ولو امتد الخط على استقامته لكانت الشرطة – المخولة بمواجهة التظاهرات – مكان يعقوب الذي صبر على أفعال أبنائه وعلى الابتلاءات التي مُنيَ بها منهم، وهو تشبيه أعلى مِن شأن رجال الأمن والقوات المسلحة بصورة واضحة، بينما قدم المتظاهرين في صورة سلبية، وقد بدا لطرافته وغرابته في هذا السياق، بمثابة سُخرية، ففيما انطوت الصورة الإعلامية التي بثها خطاب السُلطة – في فترة إنتاج هذا النصّ – على رسائل مُكثفة، تفيد تَغَيُّر عقيدة رجال الأمن، وتحديدًا الشرطة، وتحولهم مِن ممارسة العنف تجاه المواطن وحماية النظام، إلى حماية المواطن وخدمته، فإن الشيخ الطيب افترض في خطبته هذه تمتعهم بالقيمة الإيجابية الممثلة في «الصبر الجميل» دومًا، وهو ما يظهر عبر استخدام الاسم الموصول وجملة الصلة: «الذي عهدناه فيكم»، بحيث يُنكر ضِمنًا وجود ممارسات عنيفة في فترات سابقة، ويمكن القول بأن هذه الفرضية تُمَثّل تزيُّدًا لا بالمخالفة لخطاب جماعات المُعارضة الحقوقية أو الدينية فقط، بل أيضًا بالمُخالفة لخطاب السُلطة ذاته الذي اعترف بوجود أخطاء سابقة ارتكبتها المؤسسة الشرطية، وفي هذا الصدد يمكن مُراجعة الخطاب الأمنيّ الصادر عن وزارة الداخلية، وكذلك عن بعض الحكومات التي تعاقبت ما بين عامي 2011، و2013، والذي تداولته وسائل الإعلام، حيث يعترف المسؤولون بانحراف الشرطة عن أداء وظيفتها الطبيعية ما قبل الخامس والعشرين من كانون الثاني، ويؤكدون في الوقت ذاته تغيُّر عقيدتها، وهي التأكيدات التي لم تبد وقد تحققت على أرض الواقع، نظرًا إلى أفعالها اللاحقة، وعلى كل حال يمكن الرجوع إلى استجابات المؤسسة الدينية خلال شهرين فقط قبيل هذه الخطبة، للوقوف على نظرتها إلى ممارسات الأجهزة الأمنية، وهي نظرة حملت الكثير مِن الإدانة والاستنكار، والكثير أيضًا مِن الأسف والألم.
مِن هنا بدا إذعان المؤسسة الدينية، وتماديها في رسم صورة مبهرة وناصعة للشرطة، بمثابة محاولة لاسترضاء السُلطة، وربما أفصح في الوقت ذاته عن طبيعة التحالفات المتوقعة في مرحلة لاحقة.
يُمكِن تعريف «السُلطة» بأنها الحَقّ المشروع في فرض السيطرة على الآخرين، أو طبقًا لماكس فيبر: هي قدرة شخص أو أشخاص على فرض إرادتهم ورغبتهم في نطاق بنية اجتماعيّة ما، بالرّغم مِن مقاومة الآخرين، وهو ما بدا واضحًا في الخطاب، وفي هذا الإطار تُمَثل علاقات السُلطة مَنظومة مِن التفاعلات الاجتماعيّة والسياسيّة المُعقّدة، وغير المُتوازنة التي تتولد تلقائيًا في المُجتمعات، وهي تحوي بالضرورة طرفا مُهيمنا وآخر خاضعا، يؤدي كلٌ مِنهما دورًا ذا طبيعة مُحَدَّدَة، ومِن ثمّ فإن العلاقة السّلطويّة هي بالأساس علاقةُ أدوار تراتُبية أو هَرمية، ولا شكّ بأن السُلطة تسعى دومًا للحفاظ على شكل هذه العلاقة، وعلى آليات عملها، بما يحفظ لها موقعها، ويُرسّخ وجودها. لا يعني هذا الأمر أن الطرف الخاضع يظل دومًا عاجزًا عن المقاومة، بل إن محاولات فرض مَزيد مِن الهيمنة عليه إنما تُقابل في بعض الأحيان بالثورة والرفض، وربما كان الخطاب الصادر عن المؤسسة الدينية وعن السلطة السياسية الحاكمة في ذاك الحين بمثابة حقلٍ للصراع، تبدت فيه مهارات استخدام اللغة وأدواتها، وتجلت قدرة كل طرف على الصمود ومراوغة الآخرين، ولا يخفى أن الأدوار قد تتبدل في بعض الأحيان، وقد تصبح أيضًا مزدوجة، فالطرف الخاضع قد يمارس شيئًا مِن الهيمنة على آخر أكثر خضوعًا، وأقل درجة في منظومة العلاقات السُلطوية.
(كاتبة وباحثة مصرية)
السفير