استقالة الإبراهيمي وتناقص مقوّمات الحل السياسي/ بشير هلال
أن يستقيل الأخضر الابراهيمي من مهمته كممثل خاص للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، فذلك لا يشكل حدثاً بذاته إلا بمقدار ما يأتي على خلفية فشله في تنفيذ مبادئ اتفاق «جنيف 1»، وكحصيلة يأسٍ من إمكان تطبيقها راهناً، أو في وقتٍ قريب. ولا يخفف من ذلك حديث الابراهيمي في اليوم التالي، خلال الإحاطة التي قدَّمها إلى مجلس الأمن عن «خطة» ايرانية من أربع نقاط هي وقف النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ومراجعة دستورية من شأنها أن تحد من صلاحيات رئيس الجمهورية، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، إضافة إلى إمكانية «تأجيل» الانتخابات التي دعا اليها النظام. وهي اقتراحات قد يدرسها مجلس الأمن، لكنها باستبعادها الاشارة إلى وجوب عدم ترشُح الأسد وتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية، تعادل إعادة التدوير لمقترحات قديمة هدفها عرقلة أي تغييرٍ محتمل في موقف الإدارة الأميركية التي كانت تستقبل وفداً من «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» وتستعد لحضور «مؤتمر اصدقاء سورية» في لندن، وتتعرض لنقد داخلي وحليفٍ متزايد… وهو ما يُذكِّر بمناورة تسليم الأسلحة الكيماوية عشية الضربة الأميركية- الغربية التي لم تتم وكانت في نظر وزير الخارجية الفرنسي «ستغيِّر كثيراً من الأمور». كما تأتي كإقرارٍ بأن انتخابات النظام لن يعترف بها سوى حلفائه كونها لا تمتلك أبسط المقومات، وهي التعددية الفعلية ووقف النار، لا سيما وجود الهيئة الناخبة التي انقسمت ثلاثاً بين كتلة من تسعة ملايين نازح ولاجئ، وثانية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام ولن تنتخب فيما تتعرض لهجومه بكل الأسلحة ولتناتش القوى الاسلامية المتطرفة، محاولةً السيطرة على كثير منها وعلى مواردها، وثالثة في مدن ومناطق سيطرة النظام، حيث يسود ارهاب «الدولة» وميليشياتها الخاصة وتلك التي استقدمها الحامي والمُنظم الايراني من لبنان والعراق وما يتعداهما.
لكن معنى الاستقالة الأهم ليس في فشل الابراهيمي كوسيط، أياً يكن رأينا في أدائه، بل خصوصاً في تولُّد واقعٍ يشكل تقليصاً عملياً لإمكان فرض مبادئ «جنيف 1» والإفادة من النتائج الإجرائية البسيطة لـ «جنيف 2»، الأمر الذي تسببَّت به ثلاثة عوامل على الأقل:
الأول، فشل مشروع الشراكة الأوبامي مع روسيا البوتينية الذي كان وراء توليد بيان «جنيف 1» وعقد «جنيف 2». وهو فشلٌ يتبدَّى الآن انه شامل بما يتجاوز الموضوع السوري إلى الملف الأوكراني الملتهب وسواه.
العامل الثاني، فشل معادلة الإدارة الأميركية المُعلنة بأن «لا حل إلا الحل السياسي وأن لا احد يستطيع الحسم عسكرياً»، وهي ملتبسة في أصلها، وفي المحصلة لعبت دور غطاء التفريط بمكاسب الثورة لإرغام النظام على التخلي عن خيار الحرب الشاملة، وقبول التفاوض الفعلي على «الحل السياسي». إذ هي امتنعت عن مساندة «الجيش الحر» لحظة تحقيقه نجاحات نسبية مهمة في عدد كبير من المدن والمناطق خلال ٢٠١٢ والجزء الأول من العام التالي حتى سقوط بابا عمرو بداية آذار (مارس) 2013، ثم القصير بعد اشهر ثلاثة. حصل هذا قبل استفحال ظاهرة القوى الاسلاموية المسلحة ومنازعتها «الجيش الحر» على ادارة هذه المناطق ومواردها وتهميشه. وفي هذه الغضون توسعت ممارساتها القامعة للحريات وانتهاكاتها المدمرة لصورة الثورة لدى الأصدقاء الافتراضيين اولاً، ولكن ايضاً لدى أجزاء من السوريين الذين- وإن لم يشاركوا في الثورة- لم يكونوا يمانعون في التغيير ممن يوجدون في الأطياف المختلفة.
الأكثر إشكالية أن عدم استخدام واشنطن لهذه العناصر و «حيادها» إزاء تهتك بنية «الجيش الحر» وإضعافه نتيجة الشروط التذريرية والاستتباعية للتمويل والتسليح وغياب ردود الفعل الأميركية على الانغماس الإيراني وملاحقه في حرب النظام، لم يكونا نتيجة سهو او عدم معرفة او حسابات خاطئة، خصوصاً أن واشنطن لم تكن تجهل تدفق القوى الجهادية الأجنبية عديداً وسلاحاً وتمويلاً على سورية، لاسيما عبر تركيا الدولة التي، وإن كان يحكمها اسلاميون، فإنها على صلة عضوية بالحلف الاطلسي وفي تحالف مع طرف اقليمي وثيق الصلة بواشنطن، حاول تجيير «الربيع العربي» لمصلحته.
أما لماذا أعلنت الادارة الأميركية معادلة تعرف انها غير صحيحة، فذلك شأن آخر، يبدأ بأفضلياتها الاقليمية بما فيها التعاون مع إيران وينتهي بخياراتها الاستراتيجية في العالم ويمر بشخصية الرئيس اوباما، علماً انها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها اميركا انها مع سياسة معينة لتكون في الحقيقة مع نتائج وأهدافٍ مختلفة كثيراً او قليلاً.
العامل الثالث، تردي وضعف شروط القيادة التنظيمية والسياسية للثورة السورية وهيئاتها التي انطلقت من فرضية بسيطة وصحيحة قوامها أن العنصر الاساس في ميزان القوى الذي يمكن أن يكون لمصلحتها هو حماسة اكثرية السوريين الساحقة لإسقاط النظام، وهو الذي أدى إلى انشقاقات الجيش وتكوين «الجيش الحر». صحيح أن الدعم كان ولا يزال استتباعياً تذريرياً، وأن النظام شارك في توليد أو مهادنة مجموعات متطرفة ضمن خطته وشركائه لصناعة «العدو المناسب» بغية إعادة شرعنته أمام «مجتمع دولي» متردد راهَن اصلاً على إصلاح النظام لا تغييره، بما يحمله من «مجهولات» لإسرائيل والغرب، ومن إضرارٍ جوهري بالنفوذ والسياسات الروسية والإيرانية. وإذا كان الأمران لعبا دوراً في تآكل «الجيش الحر» تنظيماً ونفوذاً، يبقى صحيحاً أيضاً أن هيئات الثورة «الرسمية» لم تنتبه إلا متأخرة (حين تناقصت قدراتها على التصحيح) إلى عملية استثمار الاسلام الشعبي في أسلمةٍ جهادية متطرفة مُعمِّمَة لصورٍ وقيمٍ نابذة محلياً وخارجياً، ومنتجة لتحليلٍ دولي غالب يضع القضاء عليها في مرتبة إسقاط النظام، كما يخفف أثر سياساته في الإبادة الجماعية والتجويع والتدمير لإعادة السيطرة على «سورية الحيوية». وذلك مشابه لمماهاة اللامركزية والتعددية بالتشظي ولمماثلة التمثيل الرمزي بالوجود الميداني.
قصارى القول ان العوامل المذكورة، وأهمها الأميركي، سمحت بتغيير سلبي خفّض إمكانية الحل السياسي إلى درجة سمحت للإبراهيمي باعتبار «مفاوضات حمص» نموذجاً يُحتذى في المفاوضات الأخرى، ما يساوي تمكين النظام من انتصارات جزئية لن تغير المصائر النهائية لقيادته، لكنها تطيل معاناة السوريين.
الحياة