استقطابات قسرية متشابهة
راتب شعبو
يتعذر أن تتصالح الأقليات مع حركات الإسلام السياسي، التي من طبيعتها أن تنظر إلى الكم البشري الكائن خارج الإسلام السني على أنه آخر غريب. ولا غرابة في هذا الموقف، ذلك أنه لا يمكن لأي جماعة بشرية أن تتصالح مع سياسة ذات مرجعية تمارس تمييزاً سلبياً ضدها بمقتضى المولد. تصنيف الناس على أساس مذهبي يشكل، ولاسيما في بلد تعددي مثل سوريا، عيباً سياسياً وأخلاقياً لا يجرؤ قادة هذه الحركات على تأمله. وهذا التصنيف يتعارض بعدُ مع ما أنجزته حضارة البشر من قيام الدول على أساس الاجتماع السياسي وليس الديني.
لا شك أن للمسلمين السنة، ولغالبيتهم على الأرجح، ما يصدهم عن هذه الحركات السياسية الإسلامية، التي لا تحمل لهم أيضاً سوى شكل معاق من الحكم، وتقييدات عصابية لا حصر لها على الحريات العامة والشخصية. غير أن الإسلام السياسي يمكن أن يشكل في الوسط السني إطاراً للرفض ورافعة للتغيير، لما يختزن من قدرة على الهدم السياسي الذي هو، بطبيعة الحال، مدخل أي ثورة ومستهلها، بصرف النظر عن قدرته على تشكيل بديل مقبول. ولكن حين تكون تنويعات الإسلام السياسي هي الإيديولوجيا الغالبة في الصراع، كما صار إليه الحال في الثورة السورية اليوم، فليس من المعقول أن ننتظر من الأقليات الدينية والمذهبية اندماجاً واسعاً أو تماهياً في الثورة.
الغبطة التي كان يمكن أن يشعر بها العلويون مثلاً مع تقدم الثورة في زعزعة أركان نظام، لم يحمل للسواد الأعظم منهم سوى فقر الحال مع “صيت الغنى” كما يقال، ولدتْ ميتة بفعل الخوف الذي ضخه في قلوبهم أصحاب المصلحة (النظام) من جهة، وأصحاب العقول المريضة بالتطرف وضيق الأفق (الإسلاميون ثم الجهاديون) من جهة أخرى.
ومن الملاحظ أنه كلما أوغل النظام في بطشه، انزاحت مظاهر الثورة أكثر باتجاه إسلامي. الشيء الذي دفع غالبية الأقليات ولاسيما العلويون، الذين لا يني يزيد الكلام العدائي تجاههم على ضفة الثورة، حتى على ألسنة علمانيين، إلى أن تدعم طرفاً (النظام) لا تراه يمثلها سياسياً وليس لها رضى عنه أصلاً. تماماً كما يدعم قطاع واسع من المعارضين جهات سلفية (جبهة النصرة مثلاً) لا تمثلهم سياسياً ولا يرضون عنها. أولئك يساندون النظام لدواعي الحماية والسلامة كما تصور لهم عقولهم، وهؤلاء يناصرون السلفيين لدواعي النصر كما يتصورون. أولئك يقولون الحماية أولاً، وهؤلاء يقولون النصر “إسقاط النظام” أولاً. أولئك يرون إلى الحماية معزولة عن سياقها وعن “الحامي” وكأنها شيء بذاته، وهؤلاء ينظرون إلى النصر كشيء قائم بذاته ومستقل عن أبطاله. إنه نوع من التدني السياسي يحتشد فيه الناس بالتخويف والترهيب المتبادل، وينخرطون في أتون صراع جعلته عوامل شتى، يستهلك من نفوس وارواح السوريين ما يفوق التصور.
على مدى سنتين اصطفى الصراع الدامي في سوريا طرفيه بنفسه، بعد أن غربل العنفُ المتصاعد معظمَ الأطراف المعتدلة والعقلانية والمدنية، لكي يبرز تالياً الباطل للباطل. الباطل (أسوأ ما في النظام المستبد الفاسد “القيادات الأمنية والعسكرية”) كرأس حربة للقوى المحافظة، للباطل (أسوأ ما في الثورة “الجهاديون السلفيون”) كرأس حربة لقوى التغيير. وكما يدفع بطش النظام غير المسبوق الناس لدعم جهة متطرفة ومتخلفة من الناحية السياسية مثل (السلفية الجهادية) لمجرد أنها تمتلك القدرة المادية والقتالية على مواجهة عنف النظام، كذلك يدفع الميل الإسلامي والطائفي الصريح عند الإسلاميين، الأقليات ولاسيما العلويين للوقوف خلف النظام، الذي يبدو لهم حائط سد في وجه قوة تكفيرية، يتصورون أنها تريد إلغاءهم سياسياً أو حتى مادياً.
لا يغير في واقعية هذه اللوحة القولُ أنه لو انخرطت الأقليات بثقلها في الحركة لما سيطر الإسلاميون ولسقط النظام ربما، أو القول إنه لولا الإسلاميين لانتهت الثورة السورية في الأشهر الأولى منها. ولا يغير في واقعيتها حتى الحقائق الموضوعية والوقائع التي يفترض أن تدحض ما تبني عليه الجماعات سلوكها ومواقفها. فالتصورات والقناعات، وليس الحقائق الموضوعية، هي ما يتحكم بمواقف الناس، وقد تتحول التصورات في كثير من الأحيان، ولاسيما في لحظات الاستقطاب الحدية كالتي تمر فيها سوريا اليوم، إلى نوع من الثقوب السوداء، التي يمكن أن تمتص إليها كل الوقائع، حتى لو كانت متعارضة معها، من دون أن تتعدل.
على هذا يمكن القول إن جمهور طرفي الصراع العسكري الرئيسيين في سوريا اليوم، هو جمهور مقسور وفاقد للخيارات، التي اختزلها العنف والحسابات الإقليمية والدولية إلى خيار واحد يعمل عليه الطرفان بلا هوادة، هو خيار الحسم العسكري. إنه جمهور مقسور، بمعنى لو قيض لهذا الجمهور من الجهتين أن يختار سياسياً، وبعيداً عن حلقة العنف الحالية، فإنه على الأرجح لن يختار أياً من الطرفين اللذين يصطف اليوم وراءهما. فالطرفان هذان لا يمثلان في الواقع الآفاق التي يتطلع إليها هذا الجمهور هنا وهناك. الآفاق التي تتلخص بالحرية والكرامة. فلا يخفى اليوم على أقل مؤيدي النظام ثقافة، أن النظام مستبد وفاسد وعاجز عن إصلاح ذاته. كما لا يخفى على أحد من جمهور الإسلاميين، ممن لا يزال يحتفظ بشيء من القدرة على النقد، أن هؤلاء لا يقلون سوءاً عن النظام من منظور الديموقراطية ونظام الحكم. غير أن مستوى العنف اللامعقول ومستوى المخاوف يدفعان الجمهور إلى التطرف في دعم “أبطاله” للقضاء على “أبطال” الجمهور الآخر. نحن أمام ظاهرة سورية غريبة، جمهور مقسور على تأييد أطراف لا تعبر عنه سياسياً ولا يرضى عنها، ولكنه، تحت ضغط قوة رفضه للطرف الآخر أو خوفه منه، يمضي في تأييده وحماسته إلى حدود التطرف والجنون.
المستقبل