صفحات العالم

الأزمة السورية في دهاليز التسويات


    محمود عبد الرحيم

عاد الحراك الدبلوماسي على صعيد الأزمة السورية يتسارع من جديد، وسط بروز مبادرات من هنا وهناك، باتجاه البحث عن مخرج من المأزق السوري، مع حلحلة في مواقف معسكر بعض القوى المؤيدة لكل من النظام والمعارضة، وسط طروحات صينية دخلت على الخط، وإبداء طهران استعدادها لاستضافة مؤتمر يجمع طرفي الصراع السوري، وحث المعارضة على فتح قنوات حوار مع النظام وليس في ما بينها، إضافة إلى تراجع أنقرة عن حماستها الشديدة لتوجهات المعارضة السورية باتجاه “فيتو”على وضعية لنظام الأسد في أي ترتيبات سياسية مستقبلية، وتحرك قطري على الجانب الآخر للبحث عن كيان بديل للمجلس الوطني السوري، يؤسس لحكومة انتقالية مختارة أمريكياً، واجتماع ثلاثي جمع كلاً من الإبراهيمي ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف والأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي لتقييم تطورات الموقف، فضلاً عن الاستعداد لعقد اجتماع استثنائي في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري للجنة الوزارية العربية المعنية بالأزمة السورية .

    لا شك أن كل هذه التحركات في مجملها تصب في خانة تفعيل دور الوساطة الذي يلعبه الأخضر الإبراهيمي، والبناء على خطواته السابقة، والقفز للأمام لامتصاص آثار الهدنة الفاشلة، وإن كان التصور النهائي لصيغة مقبولة من كل الأطراف لم تتبلور بعد، ويبدو أنها تحتاج لبعض الوقت حتى تنضج، وتعلن عن نفسها في إجراءات عملية .

    ومن ثم لا يمكن القول إن مهمة المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي قد باءت بالفشل حتى الآن، وأن عليه أن يحمل عصاه ويرحل مثل سلفه كوفي عنان في أعقاب الانهيار السريع للهدنة المؤقتة في عيد الأضحى، وإن كان في الوقت ذاته، يمكن اعتبار أن الإخفاق في مبادرة وقف نزيف الدم لأيام أحرجت بدرجة ما موقف جميع الأطراف، حكومة ومعارضة وقوى إقليمية تحرك باتجاهها الإبراهيمي طلباً لدعم مبادرته، بل إنها وضعت الدبلوماسي الأممي المخضرم ذاته في وضع حرج، وسط تواصل الهجوم عليه من قبل منصات فصائل المعارضة السياسية والمسلحة على حد سواء، التي تتهمه بإعطاء مهل للنظام السوري للبقاء أطول مما ينبغي، وعدم تحميل الأسد وحده مسؤولية ما يجرى والاعتراف بأنه لم يعد له شرعية، وعليه أن يترك السلطة فوراً هو ونظامه، الأمر الذي يبدو أنه صّعب أكثر من مهمة الإبراهيمي، وبات عليه أن يضاعف جهوده مجدداً للتوصل إلى أرضية يمكن البناء عليها على طريق الحل الدبلوماسي للصراع القائم .

    غير أن الرؤية الموضوعية تؤشر إلى صعوبة اختزال مهمة الوساطة في قضية معقدة ومركبة كالأزمة السورية، وتقييمها سلبياً لمجرد فشل تلك الهدنة المؤقتة، واعتبار أنها كتبت نهايتها عند هذا الحد، إذ إن فرص نجاح الهدنة من الأساس كانت هزيلة للغاية، وسقوطها كان متوقعاً، خاصة في ظل عدم توصل كل الأطراف بعد إلى قناعة أنها ليس لديها القدرة على حسم الصراع لمصلحتها، وهزيمة الطرف الآخر، واستمرار التجاذبات الإقليمية والدولية، مع تردد الموقف الأمريكي تجاه الدعم الكامل للمعارضة من عدمه، وعدم وضوح هدف واشنطن الحقيقي، وهل يتجه إلى إزاحة نظام بشار الأسد نهائياً، أم مجرد إضعافه لانتزاع أكبر تنازلات ممكنة تصب في الأساس لمصلحة أمن “إسرائيل«، أم إن الهدف انتقاء معارضة بعينها تحمل الأجندة الأمريكية في المنطقة بصرف النظر عن المصلحة السورية، وربما هذه المعارضة بعضها كان ينتمي للنظام الحاكم وانشق عليه .

    هدنة افتقدت الآليات

    في ذات الوقت، لا يمكن لوم الإبراهيمي على هذه الخطوة، لأنه في واقع الحال لم تتوافر آليات عملية تدعم إنجاح هذه الهدنة من قبيل اتفاق ملزم يتم التوقيع عليه من الجانبين، مع نشر قوات مراقبة لديها الجاهزية لرصد الخروقات والتصدي لها، مع عقوبات دولية مقررة لكل من يخرق الاتفاق، لذا ما جرى لم يكن في حقيقة الأمر مشروع هدنة حقيقية لها أبعادها الدبلوماسية والعسكرية واللوجستية، بقدر ما كان مجرد اختبار عملي لمدى استعداد كل أطراف الصراع للتجاوب مع مهمة المبعوث المشترك، وفي ذات الوقت مثلت كسراً للجمود الراهن في الموقف، وتهيئة للمسرح سياسياً لإجراءات مقبلة على الأرض وفي ساحة مجلس الأمن، ريثما تنتهي الإدارة الأمريكية من انشغالها باستحقاقها الرئاسي، وتتبلور رؤى إقليمية ودولية واقعية باتجاه تسوية ما للأزمة، تسهل الضغط على النظام والمعارضة للجلوس إلى مائدة التفاوض، وإيقاف العمليات القتالية، مع تشّكل لصيغة مرضية للانتقال السلمي للسلطة .

    ويبدو أن ثمة عناصر إيجابية حدثت مؤخراً يمكنها أن تدعم تحرك الإبراهيمي في هذا الملف الشائك، من قبيل أنه بات ثمة توازن نسبي ملحوظ في القوى بين الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لكل من طرفي الصراع، وربما قدراً من المرونة النسبية أيضاً التي تحدث تقاطعات بين الرؤى وأجندات المصالح المتصارعة .

    فقد رأينا أن ثمة تراجعاً من جانب أنقرة عن مواقفها المتشددة تجاه نظام الأسد، ولحاقها بدرجة ما بمعسكر كل من إيران والصين وروسيا في عدم الإصرار على رحيل النظام، أو تبني إسقاطه بالقوة كما كان سابقاً، والبحث عن بدائل أخرى، عبر الحوار والدبلوماسية بعد أن أدركت أن الأمر بتصورها الأول يهدد مصالحها من أكثر من زاوية سياسية وأمنية واقتصادية وسكانية، ويحملها بأعباء فوق طاقتها، خاصة أنها جار مباشر لسوريا، والحل العسكري في ظل صراعها الممتد مع الأكراد وتداخل الحدود التي بها أحزاب كردية على صلة بالنظام السوري، مع وجود أقلية علوية بالداخل التركي، فضلاً عن مشاكل النازحين سيكلفها ثمناً باهظاً، خاصة أن الموقف الإقليمي والدولي منقسم على نفسه، ولا توجد رغبة في استخدام القوة بشكل مباشر، وبغطاء سياسي أممي، كما جرى الحال في ليبيا، مع عجز المعارضة المسلحة على القيام بالمهمة بمفردها .

    وعلى الجهة الأخرى، أبدت طهران قدراً من المرونة السياسية بالدعوة لاستضافة حوار يضم النظام وفصائل المعارضة التي كانت تتحفظ عليها وتعتبرها من قبل قوى إرهابية عميلة، وباتت تتحدث مثل شركائها في ما يمكن أن نسميه “المعسكر الشرقي”عن عملية سياسية بالتفاوض أو عبر صندوق الانتخاب يشمل جميع مكونات الشعب السوري بلا استثناء، ما قرب المسافات بين مواقف القوى الإقليمية، في الوقت ذاته نرى مبادرة بكين التي طرحتها والتي لا تبتعد في نقاطها الأربع كثيراً عما طرحته موسكو من قبل، وكذلك المبعوث الدولي السابق كوفي عنان، وإن كانت تعطي زخماً في المشهد بعد فشل الهدنة المؤقتة بالحديث عن ضرورة أن “تعمل الأطراف ذات الصلة في سوريا على وقف القتال والعنف، والتعاون مع جهود الإبراهيمي، وعليها أن تسعى إلى وقف النار منطقة بعد منطقة أو على مراحل”وأن تنتدب الأطراف ذات الصلة ممثلين مفوضين عنها، وأن يساعدوا الإبراهيمي والمجتمع الدولي بصياغة خريطة طريق للانتقال السياسي عبر المشاورات وإقامة هيئة حاكمة انتقالية واسعة التمثيل .

    وتنص النقطة الثالثة فى مبادرة بكين على أن يدعم المجتمع الدولي جهود الإبراهيمي من أجل تحقيق تقدّم حقيقي في تنفيذ بيانات جنيف وخطة كوفي عنان السداسية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، فيما تدعو النقطة الرابعة الأطراف ذات الصلة إلى أن تتخذ خطوات ملموسة لتخفيف الأزمة الإنسانية في سوريا .

    غير أنه وسط مثل هذه الأجواء المتفائلة نسبياً، ثمة كوابح لحركة الإبراهيمي برزت في المساعي القطرية لتشكيل حكومة سورية انتقالية من بعض رموز النظام المنشقين، وعناصر المعارضة من الداخل السوري وعسكريين سابقين، وذلك بقيادة رياض سيف بدعم أمريكي بعد نزع الغطاء السياسي عن المجلس الوطني المسمي “مجلس اسطنبول«، الأمر الذي كشف أن الصراع في إطاره الدولي عاد للاحتدام والتباعد الشديد، حيث رأت موسكو أنه مخالف ل”بيان جنيف”الذي يقضي بحث جميع الأطراف على إيقاف أي عنف في أسرع وقت وتحديد مفاوضين يمثلون الحكومة والمعارضة بهدف إطلاق العملية السياسية الضرورية الرامية إلى تحقيق تحولات ديمقراطية في سوريا بناءً على طموحات كل السوريين، بينما ما يجرى هو محاولة لتسوية الأزمة من المنظور الأمريكي، وتشجيع المعارضة على إسقاط النظام، وإعطائها تعليمات الحركة .

    وربما التراشقات بين واشنطن وقيادات المجلس الوطني كشفت أن ثمة أزمة تواجه جميع الأطراف تتمثل في غياب معارضة منظمة يمكن الاعتماد عليها والتحاور معها، وليست معارضات متناثرة، معارضة فاعلة بشكل حقيقي على الأرض تمثل كل الطوائف، ويمكن التفاوض مع ممثلين لها، لهم تأثير في المشهد، وفي ذات الوقت كشفت عن الرغبة الأمريكية في الوصاية على المعارضة، واستخدامها سياسياً بشكل صريح من خلال اختيار أسماء بعينها لهذا الكيان الجديد، والرهان أكثر على العسكريين في هذه المرحلة أكثر من السياسيين أو المثقفين، والاعتماد على معارضي الداخل وليس الخارج بالأساس لمساعدتها على تحقيق ما فشل فيه المجلس الوطني خلال الأشهر الطويلة الماضية، خاصة بعد انتهاء دوره الوظيفي الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بنفسها في زغرب .

    ويمكن اعتبار أن تلك الخطوة على انتقادها لو نجحت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، سنكون ربما إزاء معارضة منسجمة الأهداف ولديها استراتيجية موحدة أمريكية التوجه، لكن ساعتها سيكون التفاوض الحقيقي ليس بين النظام والمعارضة، وإنما بين واشنطن وموسكو، اللتين يتبنى كل منهما موقف كل من طرفي الأزمة، وستكون لعبة اقتسام الغنائم معلنة من دون حاجة للعب من وراء الستار، أو ارتداء قبعة الوسيط، وإنما الشريك المتورط في الصراع، وإن كانت مثل هذه الصفقات المرتقبة ستمثل خصماً بالتأكيد من المصلحة السورية وإعادة لإنتاج أجواء الحرب الباردة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى