الأزمة السورية من منظور عربي
محمود الريماوي
الأزمة الطاحنة في سوريا التي توشك على إتمام عامها الأول، تتحدى عقول السوريين وضمائرهم ومعهم أبناء أمتهم . دعونا نتحدث في إطار قومي ضيق، وليس في أي إطار أوسع: دولي أو ديني أو إنساني . هذا البلد العربي يُستنزف في ثرواته وفي مقدمها ثروته البشرية غير القابلة للتعويض، وفي نسيجه الاجتماعي الذي يصعب إعادة لحمته خلال أمد زمني قصير، وقد بات السوري محروماً من سيرورة حياة عادية تمتلك الحد الأدنى من الأمن والكرامة والكفاف المعيشي .
الجدل الدائر على مستوى إقليمي أو بما يتخطاه، عن أشكال التدخل وموقف الجامعة العربية والأمم المتحدة منها، وعن طبيعة المعارضة وأدوارها المستقبلية، . هذا الجدل يدور في حلقة شبه مفرغة ومعه التراشق الإعلامي العنيف، فيما الاستنزاف الذاتي السوري مستمر ومتفاقم . السوريون البسطاء لا يشاركون في هذا الجدل، ليست لديهم كلمة مسموعة، ولا هيئة حصرية تمثلهم . وهؤلاء يدفعون ثمناً فادحاً كل يوم من أرواحهم وأرزاقهم .وحتى العسكريون منهم على الضفتين وفي الخندقين، يتكبدون خسائر مروّعة، فهم في المحصلة ضحايا أزمة سياسية لا يد لهم في نشوئها أو في وضع حل لها . ومهمتهم الأساس هي الدفاع عن تراب الوطن وحدوده وليست الاقتتال، أو النيل من المدنيين .
في هذه الأثناء يتمسك الحكم بثالوث: الحل الأمني، والسيادة، والإصلاح . وهو ثالوث يبدّد مُجْتَمِعاً على أرض الواقع، كل فرصة أمام أي حل سياسي، ويدفع بالأزمة نحو أطوار جديدة من الاحتقان والتعقيد، حتى لو بدا أن كل ضلع بذاته من هذا الثالوث سليم ولا غبار عليه . ذلك أن الضلع الأمني الأول في الثالوث ينفي، ويُسقط الضلعين الآخرين . فالتمتع السلطوي برخصة ذاتية للقتل اليومي ينتهك السيادة في الصميم، سيادة الشعب باعتباره مصدراً للسلطات، وحق الشعب البديهي بالحياة والكرامة والأمن الفردي والجماعي، ويغلق الطريق إغلاقاً مُحكماً أمام الإصلاح . فمع شلال الدم النازف تثور الحاجة إلى الإسعاف . . لوقف الشلال، وليس لأي شيء آخر .
على هذا النحو تمضي الأزمة قُدماً الى الأمام، وعملياً الى الوراء، فالقول إن هناك تدخلات خارجية تطيل عمر الأزمة، حتى لو صحّ، فإنه لا يعفي الجهات المسؤولة من واجبها بالتصرف كجهات مسؤولة . فإظهار الوجه السلطوي فقط للدولة ومنحه صلاحيات مفتوحة مطلقة، يُغيّب أركان الدولة الأخرى، القانونية والإدارية والسياسية، وعِوضَ أن تكون حماية الشعب هي الهدف، فإن الشعب بات هو المستهدف، وحماية السلطة هي الهدف “المقدس” الوحيد الجاري التشبّث به، وكأنما السلطة هي الأصل، والشعب هو الفرع . نشوء السلطة الحالية منذ نحو أربعين عاماً يبدو حسب هذا المنطق، سابقاً على نشوء الشعب السوري .
يسترعي الانتباه أن الحكم لا يكتفي برفض التدخل الأجنبي، بل يقرن ذلك بمقاومة ما يسميه “التدخل الخارجي” على إطلاقه، وهي صيغة تمويهية يريد بها النظام القومي الحاكم، رفض أي اهتمام قومي عربي لا يصبّ في مصلحته الآنية المباشرة . هذا المنطق يجري سوقه من طرف حُكم عُرف على الدوام بأن له أيديَ في غير قضية عربية وبلد عربي، وهو ما يحتسبه الحكم حضوراً ونفوذاً إقليمياً له، وها هو الآن يرفض أي اهتمام عربي لدرجة أن وزير الخارجية وليد المعلم في مؤتمر صحفي أخير له خاطب العرب قائلاً: اتركونا وانشغلوا بقضاياكم . وهو موقف أقل ما يقال فيه إنه ضد – قومي، ويتناقض مع أدبيات الحكم ومع سلوكه طوال أربعة عقود .
يجد الحكم بعدئذٍ ذريعة “ذهبية” كي يتمتّع على طريقته بسيادته على الشعب، بالقول إن من ينتقدوننا ليست لديهم أحزاب ولا تعددية سياسية ولا دساتير، فكيف يطالبوننا بالإصلاح؟ . . حسناً إن الإصلاح مطلوب في كل الديار العربية، لكن نقطة الافتراق العربي مع الحكم في دمشق ليست هنا، ليست على الإصلاح، فهذه مسألة كان يجب بحثها منذ أمد بعيد بين الحكم والقوى السياسية المختلفة، وهو الأمر المطلوب سابقاً وراهناً من بقية الأنظمة العربية . نقطة الخلاف الجوهرية تكمن في مكان آخر، وتتمحور على أن قتل المدنيين، منهجي ويومي . لقد فاق عدد الضحايا السوريين عدد ضحايا الحربين “الإسرائيلتيين” على لبنان وغزة، 8 آلاف سوري مقابل 6 آلاف لبناني وفلسطيني . عمليات القتل هذه فضلاً عن لا شرعيتها المبدئية، فإنها تؤسس لنزاع أهلي مديد يمزّق المجتمع ويستدرج حُكماً التدخلات، بما يهدد الكيان السوري والإقليم العربي . من هنا يستمد الاهتمام العربي الرسمي والشعبي بما يجري في سوريا وجاهته، وفضلاً عن التضامن الإنساني الواجب مع الضحايا، فنحن في البدء والمنتهى بشر، ومن الطبيعي أن ينشأ تعاطف عميق مع السوريين كعرب وكبشر أيضاً .
من المهم خلال ذلك الحؤول دون تأسيس أسبقيات شديدة الخطورة، من قبيل أن استهداف المدنيين والتضحية بهم قرار سيادي لكل دولة! . . عرب القرن الواحد والعشرين لن يتقدموا إلى الأمام، ولن يعانقوا المستقبل، إذا اعتنقوا أو شاعت في صفوف وفي أذهان بعضهم عقيدة كهذه، يجري إضفاء رصانة مزعومة عليها بالقول: إنه إجراء سيادي .
يتحدث الحكم في دمشق أنه طرح صيغاً للإصلاح، وقد جرى تفشيلها من الخارج تباعاً . الشطر الأول صحيح جزئياً، فقد تم طرح صيغ متقدمة نسبياً خلال بعض محطات الأزمة، لكن إفشالها تمّ من الداخل . دوائر في الحكم ذات سطوة هي من أفرغتها على التوّ من مضمونها، بإغراقها بممارسات دموية . كيف للناس أن تمحض ثقتها لهذه الصيغ وأن ترى فرصة لتطبيقها، فيما القصف يتواصل على المتظاهرين وعلى الجنازات وعلى البيوت وعلى مصادر ومظاهر الحياة؟ ثمة في داخل الحكم من ارتكب ومازال يرتكب شراً مستطيراً بالناس، وبالوطن وبالحكم نفسه . هذا سلوك على العرب أن يجتنبوه كلياً، إذا أرادوا أن يكون لهم مكان بين الأمم وتحت الشمس .
أما الحديث عن استهدافٍ وإضعافٍ للدور الممانع للحكم، فلا يصمد أمام الوقائع، فالممانعة لا تقترن ولا تنهض، بحمل الناس على الرضوخ للعبودية . ومناهضة الكيان الصهيوني لا تستقيم مع تبديد المناعة الذاتية للشعوب العربية ومنها شعب سوريا .
الخليج