الأزمة ومخارجها في العقل السوري
غازي دحمان ـ دمشق
يبدو من الطبيعي إتجاه العقل السوري، في ظل الأزمة الوطنية التي تغرق بها البلاد، ويشتد أوراها في هذه الحظات، إلى البحث عن مسارات للخروج من الازمة، وهذا أمر طبيعي تواجهه مختلف المجتمعات التي تسعى للتغيير على إعتبار أن هذه المرحلة تتطلب عدة ذهنية وآليات عمل مختلفة تواكب هذا التغيير، غير ان معطيات الحالة السورية فرضت نمطاً مختلفاً من التفكير يرتكز على توقعات شكل المرحلة القادمة على سوريا وطبيعتها دون الطموح في التاثير عليها وإمكانية ضبطها وتوجيهها.
ومن شأن المتابع للإنتاجات الفكرية والصيغ الذهنية السورية في هذه المرحلة ملاحظة أن آليات عمل العقلية السورية تقع بين حدين متناقضين، حد التفاؤل الذي يبشر بنهاية سعيدة للأزمة، وينطلق من حيثيات عديدة في هذا المجال، مثل إرتكازه على عنصر التسامح الذي طبع الشخصية السورية عقوداً طويلة وبالتالي فإن التراث الكبير لهذا العنصر لابد ان يشكل داعماً طبيعياً للخروج من الأزمة ويشكل عنصر حماية للوطنية السورية التي رسخت قيم التسامح والإخاء في مضموناتها، غير أن هذا العنصر يعاني من إشكالية تاريخانيته، بمعنى عدم لحظه للتطورات الكبيرة والكثيرة التي تم إستداخلها ومن ثم إستبطانها في الذهنية والوجدان السوريين، سواء عبر مرحلة الحكم المديدة للعائلة الأسدية التي إعتمدت بشكل كبير على منطق تخويف المكونات الأهلية السورية من بعضها بعضاً، أو تلك العناصر والمكونات الذهنية والسكيولوجية التي أفرزتها حرب العراق وما رافقها من حرب سنية شيعية، إذ لايزال هذا النمط من التفكير يستند الى واقعة تسلم فارس الخوري لوزارة الأوقاف السورية؟.
الحيثية الأخرى في بنية المنطق التفاؤلية تلك تعتمد على واقعة أن الجرح السوري عميق لدرجة تدفع مكونات الشعب، وبشكل اوتوماتيكي، إلى البحث عن كل ما من شأنه تعزيز روح الإخوة وقيم الرحمة والغفران، ذلك وأنه حسب هذا المنطق، فإن الإشكالية كانت تكمن فقط في نظام ظلم الجميع وسيكفي ذهاب النظام لإغلاق هذا الجرح والإنطلاق لغد جديد مختلف تسوده المحبة والوئام، لكن هذا العنصر يغفل جانبا مهما من الأزمة وهو أن كلا الطرفين باتا يشيران بأصابع الإتهام تجاه بعضهما نتيجة ما حل بهما من نكبات.
أما المتشائمون من مستقبل سوريا، فإنهم يؤسسون تشاؤميتهم على حيثيات عدة تحتل واقعة حجم الضحايا الكبير وتوقعاتهم بان انتهاء الحرب سيكشف عن حجم أكبر للجرح بحيث يصعب معه تجاوز هذه الحالة من دون إفرازات خطيرة على السلم الأهلي إنطلاقا من تصورهم بأن المجتمع السوري ذو طبيعة عشائرية وأن الحالة المدنية لا تعدو كونها قشرة تغطي هذه الحالة، ما سيفتح المجال واسعا لإزدهار عمليات الثأر بين مختلف المكونات وبعضها بعضاً على أسس عشائرية ومناطقية وطائفية، ولن يسلم احداً من هذه اللوثة، ذلك أن النظام قد عمل جاهداً على توريط كل المكونات السورية، سواء بإرادتها او من خلال تخويفها وإرغامها بالدم السوري.
كما يستند المتشائمون على حقيقة اخرى وهي ملامح الفوضى التي باتت ملحوظة في المشهد السوري، وغياب او عدم تأثير المرجعيات الاهلية والمدنية مما سيجعل حالة الفوضى تتطور وفق ديناميكيتها الخاصة إلى حدها الأقصى في ظل فقدان أي إمكانية لضبطها، وما سيعزز هذه الوضعية حالة الإحباط التي سيتركها واقع البلد المدمر واستمرار نمو إقتصاد الحرب وظهور الحالة المافيوية على هامشه وما قد يتبعه من ظهور حالة ميليشيوية مساندة لهذا النمط الإقتصادي والإجتماعي.
غير ان هذه النظرة التشاؤمية لا ترى بعض الحالات المدنية، على ضعفها، في الإدارة والتسيير والضبط التي ظهرت في مناطق عدة وكانت لها نتائج إيجابية ملحوظة، كما انها لاتلحظ حقيقة وجود كوادر مهمة افرزتها الأزمة وهي مرتبطة بالثورة وموجودة في أماكن الإدارة ومتشوقة لخدمة البلد في مناخ الحرية والديمقراطية.
والواقع أن كلا النظرتين لهما ما يعززهما في الواقع السوري، وحتى لا نقع ضحية التبسيط والتبشير، لا بد من الإعتراف بحقيقة ان الأمور ستكون صعبة وقاسية خصوصاً مع توقع نفاذ موارد الدولة الأساسية وما ستلحقه الهجمة الأسدية الاخيرة من أضرار كبيرة في البنى التحتية للإقتصاد السوري، الضعيف أصلاً، وفي النسيج الإجتماعي المتضعضع والمنزاح بفعل الأزمة صوب التطرف والإنغلاق، ولا شك بأن الخروج من هذا الواقع سيحتاج إلى جهود جبارة تبذلها النخب الفكرية والواجهات الاهلية والإجتماعي، وهذا يحتاج إلى تطوير هذه البنى لطرق تواصل مع بنى المجتمع الأخرى وإقناعها بجديتها في العمل، ولأهم بقدرتها على الإدارة والضبط، وخاصة وأن عناصر الفوضى والتفلت كبيرة لدرجة يصبح التعويل على مجرد سقوط الاسد وحده كخشبة خلاص من الأزمة امرأ مفرطاً في السذاجة.
لم يستطع النظام الحفاظ على السلطة، ولن ينجو من السقوط، لقد أشرف بنفسه على وضع خريطة سقوطه، لكنه نجح، وربما بمساعدة حلفائه، على تأسيس حالة من الخراب والفوضى لسوريا تتطلب جهودأ إستثنائية للخروج منها، ما يعني أن مرحلة البناء والضبط التي ستتبع سقوطه لن تكون سهلة بدورها، لأن النظام وحلفاءه لا بد أنهم يجهزون لإستراتيجية تالية يؤسسونها على الأرض السورية، ثورة مضادة بأدوات جاهزة وبالإستناد على المعطيات المذكورة.
المستقبل