الأسباب الموضوعية للحراك الشعبي
سلامة كيلة
الشعب تعبير ظل مجرداً أو عمومياً، وأساساً هو مصطلح يتكرر دون أن يشير إلى شيء معيّن. ولهذا لم يكن مجالَ فهم من قبل “النخب”، وظلت مشكلاته عصية على الفهم، فقد كانت السياسة ترتبط بما يتعلق بالدولة والأحزاب بالأساس. وهذا الأمر هو الذي جعل ما جرى منذ 17/12/ 2010 في سيدي بو زيد التونسية وامتداده العربي مفاجئاً، وفرض أن يصبح تعبير الشعب مكرراً ومتكرراً، لأن هذه الجموع التي كانت مهملة هي التي فرضت ترحيل رؤساء لطالما جرى اعتبارهم دكتاتوريين عتاة.
إن الثورات التي بدأت في تونس وتوسعت إلى مصر والبحرين وليبيا واليمن وسوريا، وطالت الجزائر وعُمان والعراق والأردن، ولمست السودان والمغرب، هي من فعل الشعب الذي كان خارج كل حساب في الصراع السياسي بين النظم والمعارضة.
وإذا كانت الأحزاب تنطلق من “السياسي” في علاقتها بالنظم، وتركز على مطالب “سياسية” فقط، ومحورت صراعها كأحزاب في العلاقة مع السلطة، وبالتالي دون حسابٍ للشعب، أو توقع بدور له، أو حتى العمل لأن يكون له دور ما، فإن الشعب تحرّك دون انتظار هذه الأحزاب، وفي حركة واقعية انبنت على تجاوزها فعلياً.
وهذا ما يجعلنا نقول بأنه ليس الفعل السياسي هو الذي جعل الشعب ينهض، بل لا بد أن نبحث عن الجذر الذي يسمح لنا بفهم هذا الانفجار الشعبي الكبير بعد عقود من الركود والتكيّف وحتى “الخنوع”، الأمر الذي يفرض أن نبحث في الظروف التي أسست لذلك، والتي أوجدت لحظة “الانقلاب” في “طابع” الشعب، والتي فرضت تحوّل الركود إلى فعل ثوري كبير، والتكيف مع الوضع الذي أوجدته النظم إلى التمرّد عليها، وتجاوز “الخنوع” نحو فرض الإرادة الشعبية.
هذا الوضع الذي فرض أن يتحوّل مصطلح الشعب إلى شعب فعليّ فاعل وقادر، يفرض أن نلمس إشكالية الأحزاب والنخب، لكن بالأساس أن نفهم الأساس الذي حوّل التعبير “المجرّد” إلى وجود فعلي، وجعل “الغائب” هو الذي يملأ الصورة فعلياً.
يمكن أن نقول أولاً بأن العلاقة بين الشعب والنخب كانت مرتبكة دائماً، حيث تكون مطامح الشعب غيرَ مطامح النخب. النخب تنطلق من “الشأن العام”، وتطرح المهمات التي تتعلق بهذا “العام”، لأنه خاصتها بالضبط. والشعب ينطلق من وضعه “الخاص”، أي من مقدرته على العيش، والمسألة الوحيدة التي تفرض تجاوز ذلك هي المسألة الوطنية التي تدفع الشعب لكي ينخرط في الصراع، ربما لأنها تمسّ كيانه ككل.
في الصراع الداخلي إذن هناك “تفارق في المنظور” بين الشعب والنخب. هذا الأمر هو الذي يجعل النخب تميل عادة إلى تجاهل الشعب، وحتى “الاستعلاء” عليه والنظر إليه ككيان هامد، مستكين، خانع. لهذا كان الميل إلى طرح السؤال “لماذا لا يثور الشعب؟” متداولاً لعقود. وظلت النخب تتصرف “وحيدة”، وظنت أنها تقارع النظم “بقوتها”، وهو ما كان يشعرها بالعجز الدائم، ويجعلها تنطلق في رؤيتها من اختلال ميزان القوى “المطلق” والمستمر، ولهذا ظلت إصلاحية أو تعلقت بالمراهنة على “الخارج”.
الشعب لا يميل إلى السياسة.. هذه بديهية تبلورت خلال قرون، فهو كشعب ينطلق من “وجوده في الحياة” بعيداً عن السلطة (أو الدولة)، وفي ممارسة علاقاته “الاجتماعية” وإعادة إنتاج الحياة من خلال العمل والتوالد، ولهذا يحتكم إلى هذا الأساس وينطلق منه. ولقد تكيّف الوعي الجمعي مع هذه الوضعية.. هذا الوعي الذي جعل الدولة شيئا آخر، مخيفا وسلبيا. لهذا يعيش بعيداً عنها ويهرب من الاحتكاك بها، ويقبل التكيّف مع سطوتها إلى حدّ كبير.
هذا هو الوضع “الطبيعي” الذي يجعله لا يميل إلى تناول “الشأن العام”، أو الهمس به فقط في الخفاء. وهو الأمر الذي يجعل النظر السطحي يصل إلى الاستنتاج بأن الشعب خانع ومتكيّف وسلبي، خصوصاً حين يتعلق الأمر ببنية السلطة، أي حين يتعلق الأمر بالحريات السياسية والديمقراطية عموماً، وهو الأمر الذي يخصّ النخب بالأساس، ويكون أساس نظرها إلى الواقع.. ولا يبدو أنه من أولويات الشعب الذي يجهد من أجل العيش.
هذه الإشكالية تظهر واضحة حين يكون المجتمع في وضع “استقرار طبقي”، أي حين تكون الأجور كافية للعيش، أو تحقق عيشاً جيداً لقطاع كبير من الشعب. وهذه الوضعية “الساكنة” هي التي تنطلق منها النخب لإصدار الحكم على الشعب، بحيث يظهر كـ”لا مبالٍ” في نظم استبدادية، لأن هذه النخب تنطلق من “السياسي” في الحكم، ووفق نظر يقوم على أساس المنطق الصوري الذي يسمح لها “بكشف” سكون الشعب دون فهم سبب ذلك، ويقودها إلى افتراض أن على الشعب أن يكون معها من أجل تحقيق هذه “المطالب الكبيرة” التي “تخدم كل المجتمع”، وبالتالي يجب أن تكون من مهمات الشعب وليس من مهمتها هي.
وهذا التحليل الافتراضي هو الذي يجعلها تصدر الحكم على الشعب، ويؤسس “لحقد دفين” نتيجة إبقائها في الصراع السياسي وحيدة دون دعم شعبي. فالشعب يجب أن يكون معها ما دامت تعمل على تحقيق “القيم العليا”، وتعمل من أجل “الشأن العام”.
لكن ليس هذا هو وضع الشعب دائماً، فسوف نلمس أن التاريخ شهد ثورات كبيرة، عفوية، وتتسم بالبطولة، قام بها الشعب وحده، أي بعيداً عن النخب التي كانت تبني “أحلامها” في مكان آخر. وظهر فيها القوة التي تريد تحطيم السلطة، والتي تحمل “الشأن العام” على عاتقها. هذا ما نشهده الآن في الثورات في الوطن العربي.
لماذا يثور الشعب؟ لماذا يتجاوز “سلبيته” فيندفع للتمرد على السلطة التي طالما خافها؟ وبالتالي لماذا يقتحم السياسة من أوسع أبوابها، أي باب الثورة على السلطة؟
لا بد من لمس أن تحرّك الشعوب ينطلق من خلخلة وضعها هي، ما دامت لا تميل إلى السياسة أو تهتم بالنشاط السياسي، بل تنطلق من وجودها. لهذا ظهر في كل الحالات أن تحرّكها ارتبط بموضوع “اقتصادي”، أي بما يقود إلى رفع الأسعار أو تردي وضعها المعيشي.
وهذا أمر يمكن أن يلمس من خلال دراسة الوضع الاقتصادي، خصوصاً مسائل البطالة والأجور والأسعار والخدمات والتعليم والصحة، وأيضاً مسائل السكن والزواج، حيث يوضح كل ذلك مقدرة الشعب أو عدم مقدرته على العيش، وبالتالي يفرض تململه وصيرورة تصاعد التذمر والاحتقان، ويؤسس لرفض السلطة، والميل لتحويلها إلى عدو، الأمر الذي يفرض في لحظةٍ حدوثَ الانفجار الشعبي، ربما نتيجة سبب هامشي، أو نتيجة دعوة واضحة.
إذن، نلمس الآن أن “غير السياسي” هو الذي يقوم بالفعل السياسي الأهم: إسقاط السلطة، لأن الشعب يصل إلى لحظة يحسّ فيها أنه لم يعد قادراً على تحمّل الوضع الذي هو فيه، الأمر الذي يدفعه إلى التمرّد الهائل الذي يقوم به ضد السلطة التي خافها طويلاً، والذي يعتبر أنها السبب في كل الظروف السيئة التي يعيشها، حيث يتحوّل -هنا- السكون إلى ثورة، والخوف إلى جرأة وبطولة، والخضوع إلى تمرّد.. ينقلب الواقع من أساسه، ونشهد ما لم تكن النخب تتوقعه أو تحلم به، وأيضاً تخافه.
هذه اللحظة هي التي تظهر “أصالة” الشعب، وتعبّر عن “روح” الشعب، وهي اللحظة التي تحقق التغيير العميق في مسار التاريخ، والتي بدون فهمها لا يمكن فهم الشعوب ومعرفة دورها الهائل في التاريخ، وبالتالي فهم أن الشعوب هي التي تصنع التاريخ.
إذا كان السياسي يبدأ من الدولة فإن الشعب يبدأ من “العيش”، من الوجود ذاته، حيث إن الشعور بالعجز عن العيش، وبالتالي الشعور “بالموت”، هو الذي يكسر السكون والسلبية، ويؤسس للتمرّد على الوضع الذي هو فيه لأنه لم يعد يستطيع التحمّل.
وهذا يتوضّح من خلال متابعة الأرقام التي تطال الاقتصاد والأجور والبطالة، لكي يتلمّس الوضع الذي وصلت إليه الشعوب، حيث بدت أنها على شفير الانهيار نتيجة التهميش والتفقير، رغم أن هذا لا يعني أن رد الفعل سيتعلق بذلك فقط، لأن تمرّد الشعب يفرض أن يصبح الصراع ليس من أجل “العيش”، بل إن الصراع من أجل العيش يفرض إسقاط النظم والتأسيس لبديل جديد. وخلال ذلك يجري تضمُّن مطالب عديدة، اقتصادية ومجتمعية ومناطقية وسياسية، حيث لا تعود المسألة متعلقة “بهدف مطلبي”، بل تصبح مسألة إسقاط السلطة كلها.
إن التحولات الاقتصادية التي تفضي إلى تمركز الثروة وإفقار الطبقات الشعبية بما يجعلها عاجزة عن العيش، هي التي تؤسس الظروف لتراكم الاحتقان الاجتماعي، وتشكّل الحالة التي تفرض الثورة في لحظة ربما لا يستطيع أيٌّ كان تحديدها بدقة، حيث يمكن “لمصادفة” أو “حدث عابر” أنْ يكون اللحظة التي تحوّل الاحتقان إلى انفجار كبير: أي ثورة.
في هذه اللحظة لا بد من ملاحظة أن كل “الرتوش الثقافوية” ومخلفات الماضي تتهاوى، كما أن الهدف يكون واضحاً ويتحدد في السلطة ذاتها، ويكون الحلم بتحقيق التغيير الذي يتضمن حلاً لمشكلات الطبقات التي تخوض الثورة. هنا يكون الصراع سياسيا بامتياز، ويكون في أرقى صوره رغم العفوية التي تحكمه حين غياب الفاعل السياسي، أو البديل المبلور في برنامج ورؤية.
فالحسّ العفوي لدى الشعب يكون صافياً إلى أبعد مدى، ويحدد هدفه بصفاء كامل، وهو لا يقيس إلا انطلاقاً من ذلك، مما يجعل كل محاولة للالتفاف على مطالبه تتهاوى، ويظل يخوض الصراع إلى أن يحقق التغيير الذي يحقق له وضعاً يخرجه من واقعه الذي بات لا يطاق. هنا يكون فعل التغيير عميقاً إلى حدّ لا يمكن تجاوزه.
ربما تفشل ثورات الشعوب، لكن ذلك لا يعني الركون والركود، بل يعني التحضير لثورات جديدة.. بالضبط لأن الواقع لم يعد ممكن الاحتمال.
الجزيرة نت