صفحات الرأي

هل فشلتْ المراهنة على دور جديد لـ «المسجد» ؟


محمد برهومة

أشار باحثون وكتاب كثيرون إلى الحضور الهوياتي/ الرمزي في ثورات «الربيع العربي»، إذْ استُخدمت المساجد كمحطات تحشيد وتعبئة للمتظاهرين، وارتبطت هذه الثورات بأسماء مساجد مثل مسجد «عمر مكرم» في ميدان التحرير في القاهرة، ومسجد «القائد إبراهيم» في الإسكندرية، ومسجد «الشهداء» في مدينة السويس التي شهدت سقوط أول ضحايا الثورة المصرية، إضافة إلى المسجد «العمري» في درعا حيث انطلقت الثورة السورية، إضافة إلى دور «الجامع الأموي» بداية الثورة. وكانت ساحات الصلاة في صنعاء وتعز وبنغازي منابر شعبية للمطالبة بالإصلاح الشامل. ومن أبرز مشاهد الحضور الرمزي للدين، وفق الباحث المصري خليل العناني، تلك الصلوات والترانيم التي أدّاها متظاهرو ميدان التحرير من المسلمين والمسيحيين قبل سقوط حسني مبارك بأيام قليلة. وفي الأردن، ما زال «الجامع الحسيني» وسط العاصمة عمّان يؤدي دوراً أساسياً كبؤرة تجمع للحراكات الشعبية المطالبة بالإصلاح.

من الطبيعي، بعد زمن طويل من الجمود السياسي وتجفيف الحكومات العربية السلطوية لمنابع العمل العام، أن يتجه الناس إلى الجامع والمسجد للتعبئة والتعبير السياسي وتوظيف إجازة الجمعة وتجمع الناس للصلاة في تنظيم نشاطات سياسية يفترض أن يبتعد المسجد عن أدائها.

كانت ثمة مراهنة لدى كثيرين على أنّ دمج الإسلاميين في الأطر السياسية الـحديثة لدولهم بعد ثورات «الربيع العربي»، و «تطبيع» العلاقة بينهم وبين القوى السياسية الأخرى، من شأنهما أن يغيّرا الإسلاميين ويفـككا بنيتهم العقائدية والأيـديولوجية باتجاه إرساء قواعد جديدة في اللعبة السـياسية لا تقوم في خطوطها العريضة على خطاب الهوية والاتّكاء على الشعار الديني، بمقدار ما تركّز على المنافسة في خدمة خطاب المواطنة الجامع، والارتقاء بالمجتمع المحلي وخلق الأدوات الناجعة لتوظيف موارده وطاقاته. والذين تبنوا هذا الرأي كانوا يؤكدون للمعترضين عليهم أن هذا كله لا يأتي بين يوم ولـيلة، بل هـو عملـية تاريـخـية طويلة تحتاج إلى التجربة والـممارسـة والاشـتـباكين الفكري والـسياسي؛ لإنـتاج تـراكم من خـبرة الأفـراد والمجتمعات يؤهلها للتوافق على أنّ مكان السـياسة والـعمل العام البرلمانات ومقـار الأحزاب وقاعات المؤتمرات، وليـس المـسـاجد ودور العـبادة. كانت المراهنة على أن «الربيع العربي» سيقوي المجتمعات على المدى المتوسط أو البعيد، على بافتراض أنه بوجود حرية وديموقراطية لا يعود الجامع المكان الوحيد المتاح للتحـشيد والـتعبئة، بل لا يعود الجامع المكان المثالي لممارسة الـسياسـة. بمعنى أن المجتمعات والنخب حين تتمتع بحرية التـجمع والتـظاهر والتعبير لن يعود الدين والجامع المكان المناسب لمواجهة القمع والظلم والتهميش والحرمان وممارسة المعارضة والاحتجاج.

الذي يحدث اليوم، مع الأنباء التي تأتينا من تونس ومصر حول تنافس للسيطرة على المساجد في هذين البلدين وغيرهما، يحبس أنفاس من كانوا متفائلين بحدوث انزياحات في دور المسجد، بما يعبّد الطريق نحو تأسيس تجارب لإصلاح ديني من داخل المتن الديني، وتحت ضغط الوعي الجديد لمجتمعات تثور على مستبديها. الأنباء التي تأتي مثلاً من مساجد صفاقس وسط تونس أو تطاوين جنوبها أو التقارير التي تتحدث عن تنافس محموم في مصر بين «الإخوان» والسلفيين للسيطرة على مساجد الدولة… هذه الأنباء والتقارير تؤكد أن المسجد ما زال عنصراً أساسياً في حلبة الصراع السياسي والتنافس الحزبي بين الإسلاميين أنفسهم وبينهم وبين الدولة والأوقاف. هذا يعني عدم تخليهم عن بيئتهم الحاضنة وعن المسجد كمكان لاستقطاب الأنصار والتحشيد والتعبئة والتجنيد.

لطالما قيل إن عنصراً جوهرياً في أي إصلاح ديني مرتجى، يكمن في إعادة هيكلة دور مؤسسة المسجد باتجاه تحييدها عن السيـاسـة واسـتعادة هذه المؤسـسـة لدورها الـخالص في تنمية السمو الروحي وتهذيب الضمائر بعيداً من صراعات السـياسة. ومـع الـوعـي الجـديد الـذي يبـثه «الربـيع العربي» عدّل علمانيون ولـيـبراليون عرب من أفكارهم تجاه الإسلـاميين، إذ اتفـق كثيرون على إعـطائهم – ما داموا وصلوا إلى السلـطة سـلـماً وعبر الانتخابات – فرصة للفشل على الأقـل! كما يـنتـشـر اليوم وعـي بين علمانيـين وليـبراليـين كُثر مفاده أن أي إصلاح سـياسي أو ديني يُعادي الدين أو المـتدينيـن أو ينتـقص من حقوقهم مصيره الفشل، وأن الحل لن يقوم بإقصاء الإسلاميين، بل بهزيمتهم انتخابياً وبتشكيل معارضة قوية وناضجة تمنعهم من إنتاج استبداد جديد بغطاء ديني، أو بالنجاح في تغييرهم باتجاه تقبّل قيم العصر والدولة المدنية الحديثة التي تحترم الحرية وحقوق الإنسان. غير أن قدرة المجتمعات على سحب الإسلاميين من دائرة توظيف الدين إلى دائرة المنافسة السياسية المتساوية مع بقية الفرقاء، ستظل غير مضمونة النتائج من دون الدفع نحو إرساء هيكلة جديدة لدور المسجد، بحيث لا يبقى المكان النموذجي الذي يتم فيه الإصرار على اختلاط الديني بالسياسي، عبر تديين السياسة وتسييس الدين. ألم يُقل إن ثورة واحدة ربما لا تكون كافية في العالم العربي؟!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى