الأمن العسكري” في كفرسوسة… هنا “فرع” الموت السوري/ ألكسندر أيوب
أمام وزارة التعليم العالي، ضمن منطقة كفرسوسة، في قلب العاصمة دمشق، يقع ذاك البناء الضخم، الذي يبدو من الخارج كأي بناء حكومي عادي في سورية: قديم المعالم وتزيّنه صور الرئيس الراحل، حافظ الأسد، وابنه بشار، وعلى جدرانه عبارات من أردأ أنواع الشعر في مدح “الأسود والمقاومة”. يقبع خلف تلك الجدران آلاف المعتقلين. هناك فرع “الأمن العسكري” أو المسمّى بـ”فرع المنطقة” أو “الفرع 227”. ثلاث تسميات مختلفة لفرع أمني واحد من استخبارات النظام السوري.
التُقطت 55 ألف صورة لـ11 ألف مواطن سوري قُتلوا بعد تعذيبهم بشكل وحشي، وتمّت تصفيتهم في فروع الاستخبارات العسكرية. واستطاع أحد المنشقين من فرع “الشرطة العسكرية”، المدعو “القيصر”، تهريب تلك الصور إلى مجلس الأمن، وخلال إدلائه بشهادته أوضح أن أغلبها التُقط في الفرع “227”.
يتبع فرع الأمن العسكري شعبة الاستخبارات العسكرية، التي تعاقب على رئاستها أقوى ضباط الأسد، ومن أشهرهم علي دوبا، وآصف شوكت، واللواء عبد الفتاح قدسيا، واللواء علي يونس.
كان لهذه الشعبة الدور الأكبر في ملف “الإخوان المسلمين” في الثمانينيات. وكانت تعتبر أحد أذرع حافظ الأسد والقوة الضاربة في البلاد، لتتحول في عهد الأسد الابن إلى القوى الرئيسية في قمع الثورة السورية. كما يتفرّع من الشعبة فروع أمنية واستخباراتية عدة، لعل أبرزها فرع “الأمن العسكري” أو “227 ” أو فرع “المنطقة”، وهو من المفترض أن يكون الفرع الاستخباراتي الذي يقتصر عمله على مراقبة عمل الجيش وقوى الأمن.
يتوزّع فرع الأمن العسكري على 14 محافظة سورية، ويقع المركز الأساسي في كفرسوسة ضمن العاصمة. تولّى العميد رستم غزالة رئاسة الفرع، قبل أن يتمّ عزله مع بداية الثورة السورية ليترأس الفرع اللواء شفيق المصة، وهو لواء في الحرس الجمهوري من محافظة اللاذقية، وعُيّن العميد الياس غزال نائباً له.
يتألف الفرع من القسم الخارجي وقسم المعلومات والفرع الداخلي وفرع الدوريات وإدارة السجن، إضافة إلى فرع التحقيق “248”، الذي يتشعّب إلى أقسام عدة بحسب القضايا والاختصاصات. وللفرع دوريات في كل أرجاء العاصمة على شكل حواجز مزودة بأسماء المطلوبين.
يؤكد أحمد مصطفى، وهو أحد العناصر الذين انشقوا عن الفرع في بداية الثورة، في تصريحات لـ”العربي الجديد”، أن “إدارة الفرع نقلت أغلب العناصر والمحققين من السُّنة في بداية الثورة إلى أقسام غير فعّالة بهدف تجميدهم، أو تم نقلهم إلى فروع أخرى تماماً، أو وضعهم على الحواجز، التي يمكن أن تتعرض لهجوم في أية لحظة من عناصر الجيش الحر”. ويضيف أن “سجن كفرسوسة يُعتبر السجن الرئيسي للفرع، وتشرف عليه مجموعة من المحققين من ضباط صف وعدد من السجانين برتبة مساعدين”.
ويعدد مصطفى أسماء أبرز المشرفين على معتقل الأمن العسكري في دمشق. ويقول إن “الفرع يحتوي على عشرات السجانين والمحققين ولكن هناك أسماء بارزة لا يمكن لأحد أن يدخل هذا الفرع، إلا ويسمع عنها أو يلتقيها، وهم المساعد علي العلي من قرية نبل في ريف حلب، المساعد أحمد حيدر من محافظة طرطوس، وهو مختص بتنفيذ عمليات الإعدام اليومية، أما المساعد علاء فهو من محافظة السويداء، ويتناوب في الإعدامات مع حيدر، إضافة إلى المحقق باسل الحسن، وهو من محافظة اللاذقية وملقّب بـ”عمو”، وهو من أكثر المحققين الذين يُقتل معتقلون أثناء جلسات التحقيق على أيديهم. أما عبد الكريم جعفر فهو كبير المحققين ضمن الفرع، من محافظة طرطوس ويلقّب بالجزار”.
بدوره، يروي الشاب مراد خميس (29 عاماً)، الذي اعتُقل في بداية الثورة ليخرج بعد عام كامل من هذا الفرع، ما عايشه قائلاً: “ما إن تدخله حتى تنقطع عن العالم الخارجي بشكل نهائي. تمرّ بساحة صغيرة تُسجّل فيها أسماء المعتقلين ويجردون من ثيابهم إلا قطعة واحدة تستر عورتهم، ثم يدخلون إلى السجن”.
ويصف خميس السجن مشيراً إلى أنه “ينقسم في الداخل إلى بقعة صغيرة تسمى الشبك وهي مكان يتسع لـ100 شخص، ولكن يُحشر فيه ما يزيد عن 400 حتى يتم فرزهم”.
ويلفت إلى أن “بعض المعتقلين يُنقَلون إلى الطابق الأول المعروف بالجماعيات، وهي مهاجع تتسع لـ70 شخصاً ولكنها تؤوي 200، يملكون بيت خلاء واحد فقط يتوسط الغرفة، يقضون فيه حاجاتهم أمام بعضهم بعضاً. وفي الطابق السفلي يوجد بهو طويل جداً تحت الأرض، يسمى بالنفق، وهو ضيق جداً إلى درجة أن السجين ينام وركبتاه مطويتان إلى صدره ولا يمكنه أن ينام بشكل طولي بسبب الازدحام”.
ويروي خميس كيف “ينام أغلب المعتقلين واقفين على أقدامهم لأيام عدة، إلى أن يموت شخص فيأخذون مكانه، أو يُفرج عن شخص آخر”. ويلفت إلى أنه “في الطابق الأخير تحت الأرض تقع المنفردات، وهي غرف من المفترض أنها مخصصة لشخص واحد، ولكن مع زيادة الاعتقالات أصبحت تضم خمسة أشخاص في كل واحدة منها، وهي سلسلة ضخمة، وتُقسم كل 10 منفردات إلى مركز، وبجانب كل مركز غرفة للسجانين يأتي إليها المحققون في المساء، لتبدأ جلسات التحقيق. أما سجن النساء فكان يفصلنا عنه غرف للضباط والمحققين ولا يمكن لأحد الوصول إليه”.
خالدة مرهج، شابة في العشرين من عمرها، اعتقلت من مسكنها في حي الميدان الدمشقي، لتبقى في فرع المنطقة لمدة 6 شهور ثم تخرج ضمن عملية تبادل أسرى. تصف مرهج في تصريحات لـ”العربي الجديد”، سجن النساء بأنه “كان عبارة عن غرف متلاصقة ببعضها بعضاً، من المفترض أنها منفردات لكن كل غرفة احتوت على خمس نساء في مساحة لا تتجاوز أربعة أمتار، لا نخرج منها إلا إلى جلسات التحقيق. كما تتضمن كل منفردة، بيت خلاء تقضي النساء حاجتهن فيه”.
الشاب خلدون مطر، لا يزال يخضع لجلسات علاج نفسي، نتيجة العمل الذي فُرض عليه داخل معتقلات الفرع “227”، إذ كان يعمل في نقل الموتى، الذين يقتلون تحت التعذيب.
يقول “كنا نتوجه صباح كل يوم إلى بيت الخلاء، حيث تُرمى الجثث هناك، نُدخل أكثر من 20 شاباً، كل 4 أشخاص يحملون جثة. كان متوسط عدد الجثث 15 في اليوم الواحد. يتمّ إعدام أغلبهم أو يموتون تحت التعذيب وقلّة منهم نتيجة الأمراض. نحمل الجثث إلى ساحة السجن، حيث تنتظرنا سيارة شحن كبيرة تحتوي على صندوق حديد كبير، نرمي القتلى في داخله، وكنا نسمع أن تلك السيارات تمضي إلى منطقة نجها في ريف دمشق، حيث توجد المقابر الجماعية لكل تلك الجثث”.
يستذكر خلدون تلك اللحظات بصعوبة. تارة يطلب إعادة السؤال، وتارة أخرى يتوقف عن الكلام لفترة قبل أن يجيب، ثم يروي مشاهد اضافية قائلاً “كان هناك بعض المعتقلين الذين يعملون في سخرة الطعام، ويوزعونه على أقرانهم بإشراف السجانين. أما البعض الآخر، فيعمل على سخرة الموت، ويوقظنا السجانون في الخامسة صباحاً لنحمل جثث من قتل تحت التعذيب ليلاً”.
لا ينسى مطر ذلك اليوم، الذي أيقظه فيه السجان لحمل الجثث، لكنه لم يكن كأي يوم من الشهور الثلاثة التي عاشها ضمن هذا الفرع. يستذكر ذاك اليوم بصوت يرتجف “كان يوم ثلاثاء، وقد أخلينا خلاله 17 جثة إحداها كانت لشاب في العشرين من عمره، ونحن نحمله كان ينازع الروح صُدمنا لأنه كان حياً. كان المرض قد أكله، ولكنه على قيد الحياة. ومع ذلك أُجبرنا على حمله إلى السيارة بأوامر من السجان ليُدفن وهو حي”.
يضيف مطر: “طالما تساءلنا ونحن ننقل الجثث عن طريقة إعدامها، إذ لم تكن هناك أية نقطة دم على الضحية، ولم تكن هناك آثار خنق، واكتشفنا في النهاية أنهم يعدمون الشباب بكسر العنق، كما يحدث في أفلام السينما، وكان المساعد حيدر هو المسؤول عن هذا الإعدام بشكل مباشر”.
خرج مطر من الفرع خلال المصالحة التي تمّت في منطقة برزة، ضمن عملية لتبادل الأسرى، ولكنه لا يزال يعاني من آثار نفسية ويخضع لعلاج، ويؤكد أنه “استشهد 643 شخصاً معه في فرع المنطقة خلال الشهور التي قضاها، وهو العدد الذي استطاع أن يحصيه حتى خروجه”.
“لا يُمكن لشخص أن يوضع على كرسي الحديد إلا أن يعترف، وإن لم يكن قد فعل شيئاً تُختلق له أية قصة لينزله المحقق من تلك الآلة. يُمكن أن يتهم أباه أنه حمل سلاحاً وقتل عساكر من الجيش السوري، يعترف حتى على أولاده”. هذا ما يؤكده أحد الناجين من الفرع، رواد ياسين، الذي خرج مشلولاً.
يشرح رواد طبيعة تلك الآلة قائلاً “إنها عبارة عن كرسي من الحديد، لها أربع أقدام وقضيبان كمسند، يتم وضع المعتقل على بطنه مكبّل اليدين، ويتم إدخال القضيبين بين إبطيه ثم يصعد السجان على الكرسي بكل وزنه، فيثني ظهر المعتقل إلى الخلف، ويستمر السجان بالحركة إلى أن يصبح جذع المعتقل كزاوية قائمة مع قدميه. لقد قضى مئات من المعتقلين بسبب تلك الآلة، إذ كان يصيب البعض منهم تمزق أحشاء نتيجة ثني الجذع إلى الخلف، وتمدد المعدة والأمعاء، والقسم الآخر كان يصاب بشلل نتيجة كسر العمود الفقري”.
يتحرك رواد اليوم على كرسيه المتحرك في اسطنبول، في محاولة للبحث عن علاج بعدما باع والده منزلهم، ودفع ثمنه كرشوة لأحد الضباط ليخرجه من السجن.
أما علياء، فلا تنسى حتى الآن ما تعرّضت له من قلع الأظافر، وصعقات الكهرباء والجلد، ولكنها تستذكر ما هو أبشع من ذلك، وتروي لـ”العربي الجديد” “أن أغلب النساء المعتقلات ممن ينتمي أزواجهن إلى الجيش الحر، كان ينُادى عليهن في الليل لجلسات التحقيق، لتعود المرأة بعد ساعة وقد تم اغتصابها. بعضهن كن يبكين إلى أن يغمى عليهن، وأخريات يفقدن عقولهن، فيبدأن بالهذيان، ويتوقفن عن تناول الطعام ويتخيلن أزواجهن. وغالباً من كانت تفقد عقلها تموت خلال أسبوع أو أكثر، وغالباً ما كنّ يشتمن بشار الأسد مما يضاعف ضربهن حتى الموت”.
تتابع علياء باكية: “أبشع من عذابهن هو الشعور بالعجز، إذ لم نكن قادرات على فعل أي شيء. كانت بعض المعتقلات تتحدث عن اغتصاب جماعي، أو استدعاء زوجها المعتقل في الفرع نفسه ثم يتم اغتصابها أمامه، ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً”. خرجت علياء من السجن بعد 6 شهور، بعدما دفع والدها 5 ملايين ليرة سورية، مقابل حريتها.
إلى جانب الألم الذي يعيشه من يقبع داخل سجون النظام السوري، هناك في الخارج من يعيش ألماً لا يقل عنه وطأة، من أمهات وأهالي المعتقلين. أولئك الذين لا يعرفون عن أولادهم شيئاً، إن كانوا أحياء أو أمواتاً، وأغلبهم يقعون ضحية سماسرة وتجار المعتقلين.
اتفق أبو مصعب مع أحد ضباط فرع الأمن العسكري في دمشق للإفراج عن ولده مصعب، فدفع مبلغ 3 ملايين ليرة سورية، وما انفك يعيش على أمل إخراج ابنه، إلى أن أتاه اتصال من القضاء العسكري في دمشق، لاستلام هوية مصعب المدنية، والتوجه إلى مستشفى “المجتهد”، للتوقيع على شهادة وفاته. يغص الرجل بدمعه أثناء حديثه عن ولده، ويكتفي ببعض الدعاء ثم يقول “لم يعلموني حتى بقبره”.
من جهتها، لا تزال أم فراس، (اسم مستعار)، تنتظر ولدها خالد حتى الآن، بعدما استلمت من القضاء العسكري هوية ابنها البكر فراس، ووقّعت على شهادة وفاته. لم تخرج أم فراس من دارها مذ علمت بوفاة ولدها. تصلي دائماً وتنتظر أي خبر عن ابنها الثاني خالد. تقول بحسرة: “لم يعد لي سوى خالد، أبوه توفي قبل الثورة وأخوه استشهد. أحلم به يومياً. وأتمنى من الله أن يعيده سالماً، لم أسمع عنه أي خبر منذ اعتقل، ولكن منذ فترة خرج ابن جيراننا، وأخبرني أنه لا يزال على قيد الحياة في فرع المنطقة”.
العربي الجديد