“الإرهاب” عراقياً وسورياً ومصرياً وأوكرانياً: مسرح الإعتباطية/ وسام سعادة
هذا الإستخدام الإعتباطي لمصطلح ‘ارهاب’ سيؤدي في نهاية المطاف الى نفاد آخر شحنة كهربائية يولّدها هذا المصطلح في النفوس. فبعد ‘الإستعباط’ الذي كنا نجده مثلاً في الكلام المكرر للرئيس الراحل حافظ الأسد من أنه ينبغي أولاً الاتفاق في ختام مؤتمر دولي على ايجاد تعريف كوني للإرهاب كلما كان النظام في دمشق يتهم بدعم تنظيمات موصومة به، أتى زمن ‘الإعتباط’ الذي ارتكز على مخزون الاستخدام الإطلاقي للمصطلح في زمن ‘الحرب العالمية على الإرهاب’ ليصار من ثم الى تلفيق سلسلة من ‘الحروب الوطنية على الإرهاب’.
ليس المقصد أبداً هو النظر الى الأمور بنسبية وعدمية والقول أنّ الإرهاب مصطلح لا أصل أو مغزى له. بالعكس تماماً. الإرهاب هو تقصّد قتل أو ايذاء المدنيين من حيث هم مدنيون وقتل أو ايذاء كل من هم خارج ساحة أو وضعية القتال من العسكريين أيضاً. لكن الجدوى من هذا المصطلح تفترض سلفاً أن يأتي في سياق ‘قوننة’ النظرة الى أنماط العنف والاحتراب بين البشر وليس العكس. أهلية استخدام المصطلح تكمن أساساً في الإقرار بأنّ للقانون حكمه حتى في الحالات التي تبدو متفلّتة من الترسيمات الحقوقية. بمعنى آخر، لا يمكن أن تحيي ميدانياً منطق ‘حرب الكلّ ضد الكلّ’ وتستخدم اصطلاح ‘الإرهاب’ لتبرير حربك، الا ان كان الاستخدام مقصوراً على تسخين الحرب النفسية.
ثمة اذاً فارق جوهري بين استخدام المصطلح بقصد الترهيب النفسي للخصم، بل الترهيب النفسي للكتلة الاجتماعية أو السياسية أو للأجهزة والهيئات التي يعوّل عليها في المواجهة، وبين استخدام المصطلح من ضمن آلية صعبة لتوسيع النطاق الحالات المنظورة بالقانون الى الوقائع العنفية والاحتراب التي تنزع الى التحلل من أي قانون.
والى حد ما، يمكن التأمل والمقارنة، بين نماذج كارثية أربعة في ‘الحرب الوطنية ضد الإرهاب’ في العقد الأخير.
النموذج العراقي: في هذا النموذج كانت هناك فعلاً طفرة من الجماعات التي تقصّدت قتل المدنيين بحدّ ذاتهم، الا أن المكابرة على المسألة ‘العرب سنية’ من قبل السلطات الحاكمة بعد الغزو الأمريكي، والحرص على ربط هذه الحرب ‘الوطنية’ على الإرهاب بـ’الحرب الكونية’ عليه، من جهة، وبالصراع المذهبي على الصعيد الاقليمي من جهة ثانية، أدت في نهاية المطاف الى ان يصير استخدام المصطلح جزءاً من عملية احلال هيمنة طائفية فاقعة مكان أخرى لم تكن نافرة بهذا الشكل، وان كانت مقترنة بنظام استبدادي دموي لا يمكن مماثلة تسلّطية النظام العراقي الحالي به رغم كل شيء، بما في ذلك انكباب النظام الحالي الذي يستمدّ شرعيته من ‘استئصال البعث’، على نجدة ‘البعث’ في البلد المجاور.
النموذج السوري: وفيها أن نظاماً أدمن استهداف المدنيين، مواطنيه المفترضين، من حيث هم مدنيون، أخذ يجمع بين رطانة قومجية وممانعاتية وبين محاكاة الآلات الكولونيالية التقليدية، كما لو أنه يقاتل هبّات تمرّدية للسكان الأصليين في احدى المستعمرات. صحيح أنّ المؤدّى شبه التلقائي لعجز النظام عن سحق الثورة وعجز الثورة عن اسقاط النظام كان توازناً كارثياً يؤدي الى استباحة الظواهر ‘الكارثية’، من ‘داعش’ ومن ‘نصرة’ وغيرهما، للتراب السوري، لكن الطامة الكبرى تمثّلت بتدخل ‘حزب الله’ المتهم بممارسة ‘الإرهاب الدولي’ في سوريا، بدعوى الحرب على ‘الارهاب التكفيري’. لكن أنى لحرب بين ‘حزب الله’ و’تنظيم القاعدة’ أن تكنى ‘حرباً وطنية على الارهاب’ في حين انها اقرب ما تكون الى ‘الحرب الأهلية بين المنظمات المدرجة على اللوائح التصنيفية الغربية للارهاب’.
ثم دخلنا في النموذج المصري: عملية انتقال ديمقراطية مختلة التوازن تفضي الى وصول الاخوان المسلمين الى الموقع الاول في الدولة المصرية، اي على رأس جهاز دولة ليسوا منه وليس منهم، فيسرّع ذلك من انقلاب هذا الجهاز على الاخوان، وبانتفاضة شعبية حيوية موازية. لكن الكارثي بعد ذلك، ان ‘الارهاب’ سيصبح المنظار الاوحد للنظر الى الجماعة الاخوانية وبالشكل الذي يقرّب الخطاب السياسي المعادي للاخوان من ثقافة مراسيم الارهاب الثوري في فرنسا اليعاقبة وروسيا البلاشفة.
لكن العرب لم يبقوا لوحدهم في هذا المجال. مع انفجار الأزمة الاوكرانية، بسقوط فيكتور يانكوفيتش في كييف، ثم ضم القرم الى روسيا، ثم انفجار النزعات الانفصالية شرقاً، دخلنا في استخدامين رسميين روسي واوكراني للارهاب، ليس لاتهام جماعات شيشانية او قوقازية، وانما في سياق المواجهة الروسية – الاوكرانية. موسكو تتهم المنتفضين على يانكوفيتش بأنّ أقواهم نفوذاً هم الالترا قوميون الذين تعاطوا تاريخياً في الارهاب، وكييف حالياً تخوض حرباً على الارهابيين كما تسميهم في شرق البلاد، مكابرة على واقع شرخ سياسي مؤسس على شرخ لغوي واجتماعي.
رغم كل شيء لم يؤد الاستخدام الاعتباطي لا الى تقسيم رسمي للعراق او لسوريا ناهيك عن مصر، أما في اوكرانيا فانه استخدام من النوع الذي يفضّ كيانات ودول، كما انه من النوع الذي يلفت النظر الى وظيفة حيوية، ولو كانت ثانوية، لطفرة استخدام هذا المصطلح: ترهيب أي محاولة للنظر الى الانقسامات الاجتماعية، اثنية او طبقية او مناطقية كانت، عند مقاربة الكيانات المتفجرة والمجتمعات المتصدّعة والأنظمة المتهاوية.
‘ كاتب من لبنان
القدس العربي