الإرهاب و الإرهاب المضاد/ ضحى حسن
الأجساد الصغيرة ذاتها تتصدّر الصور، العيون المفتوحة، لون الدماء نفسه، وشكل ارتمائه على الوجوه، الأصوات، الصراخ وكذلك النحيب. جميع القتلى يحدقون نحو الأعلى، فيما يقف الأحياء في مواجهة بعضهم بعضاً.
في حي عكرمة بحمص، قبل أيام قليلة، قتل أكثر من 40 طفلاً في انفجارين قرب المدرسة، هذه المجزرة ليست بالجديدة في سورية، عدد الموتى وكذلك الصور، وفرار مرتكبي المجازر من المحاكمة والمحاسبة، كلّها مما بات مألوفاً هناك.
وعلى رغم أن أحداً لم يتبنّ التفجيرين، لا النظام ولا المعارضة المسلحة المشتّتة، ولا الكتائب الإسلامية ولا «جبهة النصرة» ولا تنظيم «الدولية الإسلامية»، إلا أن المجزرة أثارت جدالات توحي في أجزاء منها إلى ظهور ما يمكن أن يسمّى الإرهاب المضاد.
«أنا حضرت مجزرة كرم الزيتون في حمص ورأيت اﻷطفال الذين ذبحوا بالسكاكين على أيدي النظام وشبّيحته، وسمعت بكاء أمهاتهم عليهم، لذا أنا لا أتعاطف مع ضحايا تفجير حي عكرمة ولا مع الأطفال القتلى هناك، هم علويون ويجب أن يحزن أهلهم عليهم كما حزن أهلنا على أطفالنا». الشاب لوز – حمص – الخالدية.
تُطوى صفحة هذه المجزرة، كما لو أنها لم تحصل أصلاً، وكما لو أن القاتل المسؤول عنها غير موجود… بعد مئات المجازر هنا وهناك، مات من مات، لكن القاتل انتقل من غياب إلى غياب.
وفي ظلّ غيابه المتواصل من مذبحة إلى مذبحة، تعلو سردية «مكافحة الإرهاب»، التي تغض النظر عن مقتلة هنا، وتكترث لمقتلة هناك، وكأن القتل هنا يختلف عن القتل هناك.
في الحروب تشرّع الغوغائية كقانون، وما بين ما يسمى الإرهاب والإرهاب المضاد يسقط المدنيون.
«لقد شاهدت بعينيّ ذبح أطفالٍ على يد موالين للنظام، لكن أطفال حي عكرمة لا ذنب لهم في كل ما يجري، لا أقبل تبرير هذه الجريمة… مشكلة ألا يوقف أحد كلّ هذا القتل، مشكلة ألا يحاسب القتلة». محمد – حمص.
حال ضحايا عكرمة، وكرم الزيتون، والحولة، وقتلى الكيماوي في الغوطة وغيرهم، كحال المدنيين الأربعة والعشرين الذين راحوا في الحسكة والرقة وريف إدلب ضحايا غارات التحالف الدولي والعربي… ومكانهم في ملف النسيان.
في فيلم «جوع» للمخرج البريطاني ستيف ماكيون، يقول المناضل الإرلندي بوبي ساندز قبل أن يقضي في سجن مايز في 1981 بعد ستة وستين يوماً من الإضراب عن الطعام: «ليكن موتاً… أضمن لك أنه سيكون هنا جيل من الرجال والنساء أكثر قوّة وتصميماً». يجيبه القس: «يستطيع البريطانيون التعايش بسهولة مع ما يسمّونه موت الإرهابيين».
تختلف هذه القصة في تفاصيلها عن تفاصيل الموت السوري، لكنها تأتلف معها في أن أصحاب السلطة هم من يقدرون على تحديد ما هو الإرهاب، وكيف يواجه، مشرّعين تحت هذا العنوان القتل والقمع والتنكيل، ولا رقيب ولا حسيب يحول دون تحويل إرهاب الدولة السرّي إلى إرهاب علنيّ عنوانه مكافحة الإرهاب.
أما ضحايا عكرمة والكيماوي وكرم الزيتون وذووهم وأصدقاؤهم فهم مدعوون إلى هذه الحرب بصفة مشاهدين فقط، كمراقبين لمسار الحرب على الإرهاب الذي ضربهم ولم يكن لهم خيار في ردّه أو قرار في مكافحته.
إنه مبدأ الشمولية، وهو يشبه إلى حدّ بعيد سياسة التحالف الدولي، الموت كقانون يطلق على الجميع، وأجسام الضحايا أحجار لحماية دوله من الإرهابيين.
وبذلك، يصبح هدف قتل مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» أهم من الحفاظ على أرواح المدنيين، وفيما يمارس النظام السوري والمتحالفون معه الإجرام الدموي المباشر بحق السوريين، تمارس دول التحالف ما يمكن تسميته الإجرام الدموي الاحتيالي.
الجرائم تلك تأتي مصحوبة دائماً بنظريات حقوقية جديدة، تغطّي الواقع «الاقتصادي والسياسي» للمتحالفين على القتل. بينما قلّصت فسحة التسامح بين من تركوا وحيدين يوارون جثامين قتلاهم بسبب تواتر الموت المستمر وتحريك المخزون المجتمعي والديني وتفعيل الانفعالات والهجيانات الشعبية وتمكين نفوذ المتطرفين، وإخفاء القاتل.
خلال السنوات الثلاث عاش السوريون في فضاء مغلق مقطوع، مراقب من كل الجوانب، حشر فيه المدنيون في مكان ثابت، حيث تراقب أقل حركة، الأموات والأحياء، المرضى والمصابين، حتى التبس كل شيء، إلى أن عمّت الفوضى. في الوقت الذي تتكاثر وتتكاثف فيه القوى المتسلّطة المجرمة وتزداد تفريعاً وتشعبياً.
مطالب الشعب السوري الذي انتفض على نظامه في 2011 لم تناسب الحلم السياسي للأنظمة والقوى المشاركة في تدمير سورية، فكان منهم تجاهها الإرهاب والإرهاب المضاد، إلى حين تفشّي الطاعون.
دفن أهالي حي عكرمة أطفالهم القتلى، كما فعل آلاف سكان المدن السورية على مرّ الأعوام الثلاثة السابقة، وبينما يحاول مرتكبو مجزرة عكرمة دفن أحداثها، يحفر سكان الأحياء المجاورة قبوراً أخرى لاستقبال قتلاهم في المجزرة المقبلة.
* صحافية سورية
الحياة