الاعتذار ليس عيباً
حسام عيتاني
لعل جهاد مقدسي، المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية السورية، الأصدق مع نفسه بين منشقي ربع الساعة الأخير عن النظام. ردد مرات لا تحصى في الأشهر العشرين الماضية أن ما تشهده بلاده مؤامرة أميركية – إسرائيلية – تركية، فانتهى إلى تصديق ما قال وذهب منشقاً إلى رأس المؤامرة: وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
اختفى المقدسي الذي يقال انه موجود الآن في الولايات المتحدة ينقل إلى الأميركيين كل ما يعلم عن نظام بشار الأسد. لم يتوجه إلى مواطنيه بكلمة ولم يعلن انشقاقه. ظل حتى في فراره من دمشق وفياً لإرث الانتهازية والرثاثة المثيرة للغثيان التي زرعها نظام البعث في اتباعه. وكأن الصغار لا يستطيعون إلا أن يكونوا صغاراً، بغض النظر عن الجهة التي يقفون فيها.
انشقاق المقدسي، أو «إجازته الإدارية» – على ما يعتبر مسؤولون في النظام- جاءت في سياق تزايد فرار مسؤولي أجهزة الدولة الذين شعروا بدنو أجل حكمٍ رفعهم إلى مناصبهم الحالية. مع رفض كل تعميم والتشديد على إيجابيات عمليات الانشقاق في أي لحظة جاءت.
المدهش أن الأكثرية من هؤلاء الذين سجلوا شرائط مصورة يعلنون فيها، ببزاتهم العسكرية أو ببدلاتهم الأنيقة، تخليهم عن النظام والتحاقهم بالثورة، لم تقل كلمة اعتذار واحدة عما فعلت أثناء العهد السائر إلى نهايته. لم تصدر إشارة واحدة إلى الندم أو الاستعداد للخضوع إلى المساءلة القانونية أمام محاكمات عادلة. مسؤولون في أجهزة الأمن والجيش تابعوا ممارسة المهمات التي كلفهم النظام بها إلى اليوم الذي ضمنوا فيه سلامتهم الشخصية فانتقلوا إلى صف الثورة. ثم ظهروا بقيافتهم الكاملة للحديث عن «النظام الأسدي المجرم». وكأن الأسد كان يعمل منفرداً ومن دون آلة قمع وقتل واسعة ومتشعبة تشمل بعضاً ممن ينشق في هذه الأيام. وكأن دماء السوريين التي سالت غزيرة، سفكت على أيدي مجهولين قدموا من كوكب آخر.
معلوم أن الاعتذار علامة ضعف عندنا. وعلامة على نقص في الرجولة واختلال في نصاب الذكورة التي ينبغي أن تتجسد في كل من يتولى وظيفة عامة. أما الإقرار بالمسؤولية عن الأخطاء والجرائم المتراكمة منذ نصف قرن والاعتراف بالشراكة في نهب المال العام أو قتل المتظاهرين، فأمور لا يمكن أن تخطر في بال أي منا.
تحمّل المسؤولية لا يليق «بالرجال الرجال» الذين تستعد شريحة مهمة منهم للعودة إلى وظائفها السابقة، حاملة الثقافة السياسية والاجتماعية ذاتها، ما إن يختفي بشار الأسد من المشهد. هذا على الأقل، ما تقوله تقارير صحافية غربية تتحدث عن تشكيلات للحكومة الانتقالية لا تخلو من أسماء من شاركوا النظام البعثي في كل موبقاته على امتداد عقود. الأقلية التي أبدت أسفها على ما بدر منها تبدو استثناء من النوع المؤكد للقاعدة.
لا يعني الاعتذار مسحاً للوح الماضي ولا بداية ناصعة مطهرة من درن سابق، بل يشير إلى استعداد الموظفين الأمنيين والعسكريين المنشقين أخيراً لبدء مرحلة جديدة يتحملون فيها تبعات وعواقب أفعالهم مثلما هي الحال في الدول التي تقيم وزناً للإنسان. والمرحلة الجديدة هذه شديدة الأهمية ليس في سورية وحدها، بل في كل «الإقليم» الذي تأثر أثراً سلبياً من سياسات عهدي الأسد الأب والابن، وخصوصاً لبنان وفلسطين.
لا جديد في أن «ثقافة» الحزب الحاكم ضربت عميقاً في النسيج السوري، وحري بالثورة العثور على طريقة لائقة للتعامل مع منشقي اللحظات الأخيرة، حتى لا يكون في داخل كل منهم «جهاد مقدسي» صغير.
الحياة