الامة تريد إسقاط المثقف
د. خالد زغريت
وما ذا بعد أيها المثقف شاعراً كنت أو قاصاً، ناقداً أو مفكراَ، صحفياً أو فناناً، مسرحياً أو درامياً، كوميدياً هزلياً أو ملتزماً مخشباً أو معدَّ برامج تلفزيونية تربح المليون أو لا تربح، ترفد الأمة بسوبر حمار العرب أو بالاتجاه المخابث، أو بجيوب بلا حدود، ماذا بعد أيها المثقف! سواء كنت من زبالي قصيدة النثر أو من كنّاسي قصيدة العهر، كلاسيكياً أو حداثياً، روائياً غرائبياً أو رساماً تكعبياً، مهما يكن جنس إبداعك المخنث أو نوعه المدنس، ماذا بعد؟ .
خمسون عاماً أو خمسينات وأنت تحتل المنابر والمهرجانات والصحف مرة بسالفين كأذني كلب، وأخرى بغليون كذيل دبٍّ، وحيناً بشعر طويل كشعر خنزير يثير الاشمئزاز، خمسون عاماً أو خمسينات ولم تتجاوز مراهقتك، شعوب تموت وصحوات تعيش، وأنت تجادل بأحقية قصيدة النثر على قهر الناس، وتكتب عن غرفة شاعر جُمَلاً مقطَّعة مرةً، ومسجّعةً أخرى، بليدة حيناً ومبهمة أحياناً، خمسون عاماً وأنت تكتب لنفسك، وتجلد الجمهور الذي لا يريد أن يدخل نتانة غرفة، ولا يبكي لبحثك عن امرأة تهجرك لأنها تأنف من شكلك ورؤيتك وشاعريتك ولغتك، عن امرأة طلقت اللغة العربية، ولغة الوصف الجسدي في رواياتك وقصصك التي لم تخرج عن سرد مثل بساطير تدوس رقبة إنسانيتها، وخمسون عاماً تطلب الخلع من لوحاتك التي ضاعت أمةٌ من محيطها إلى خليجها وأنت تبحث عن تجسيد أفخاذ امرأة مرة بسوريالية وأخرى بتكعيبية، خمسون عاماً وخمسينات بظهرها، خمسون تنطح خمسين مرّت وأنت أيها المثقف تهرّج للسلطان تطبّل للقادم، وتزمّر للذاهب، خمسون عاماً وأنت تلهث بين باب تدقُّه على رؤوسنا برمضان وشعبان ورجب وبين جوارح وكواسر تكسر رؤوسنا على ذواتنا، وتجرحنا في نومنا بفنتازيا .. خمسون عاماً وخمسينات مرّت وأنت تحمل يافطة صحفي تدق أبواب التجار و أرباع المسؤولية تقتات على موائدهم وبعد الفتات تطالعنا بمانشيت أننا بخير، وأن صغار مسؤولينا على قدم وساق مع سكرتيراتهم يخدمون الشعب، لكن أيّ شعب ….فقد يكون شعبنا الذي تخدمه .. هو خالاتك وعماتك وخليلاتك فقط خمسون عاماً لم تكتشف سارق رغيف، ولا بائع مفاتيح بوابات الحدود، …خمسون عاماً وأنت صحفي في خمسين صحيفة، ومراسل في خمسين قناة فضائية … خمسون عاماً وخمسينات مرّتْ، ولم تكتشف إلى الآن أنّ الأمة تداعت من المحيط إلى الخليج، وأنّ الفساد نخرها من أخمص قدميها إلى أخمص رأسها التي تحولت إلى بسطار ثوري تورَّمَ، وملأته المساميرُ، خمسون ألف نكبة مرت على الأمة وأنت تروي حكايات ألف ليلة وليلة عن بطولة القواد في الدفاع عن حقوق دول عدم الانحياز ومناصرة القارة السوداء، ودعم أباطرة أمريكا اللاتينية، ومقاومة الشيطان الأكبر والأصغر، والدبّ القطبي، والفيل الهندي الذي قطع خرطومه احتجاجاً على نفاقك، خمسون عاماً وخمسينات، ولم تذكر أنّ العروبة تكلست في جيوب الثوريين وتعفّنت في أفواه القوميين، وتدجّنت في أيدي المعارضة وأكف السلطويين .. احتجَّتِ الحيطانُ والأبقار وخشبُ المسرح على بلادتك، وأنت ترسم كعب امرأة ترفسك حتى بالحلم، وتبصق على شِعرك غيابياً، وترمي رواياتك الواقعية الجديدة في زبالة الإقطاعيين الجدد… خمسون عاماً وأنت شريك الفساد والديكتاتورية تصفق للثوري، وتطبّل للملكي، وترقص لبين بين، مهرجاً هزيلاً وعلى الرغم من هزلك تشتمُ الشعوبَ التي لا تفهم لغتك، ولا تفقه خطَّ ريشتك ولاتهتز لغنجك كالخنثى بين أيدي السلاطين… وماذا بعد أيها المثقف! وها أنت الآن حين ثارت الشعوب واختلط الحابل بالنابل تصرخ في ليبيا أن الاستعمار عاد، والمؤامرة كبيرة، بينما تصفق في تونس لثورة الياسمين، وتعدّد خيانات الحكم البائد في مصر، وتركب دبابة الديمقراطية في بغداد، أنت مثقف ولا تخجل! تتقافز من فضائية لأخرى لتتحدث باسم الشعوب المقهورة في الواق واق والأنظمة الساقطة، وتخجل أن تطلق زفرة واحدة بحق نظام لم يبق منه إلاّ بلطجية يقامون اللحظة الأخيرة، لا تجرؤ أن تتحدث عن ديكتاتور واحد ما لم تتيقن بأمّ عينك أنه سقط، ولا تخجل أن تغني وتزأر بصوتك ولغتك مادام بسطاره لم ينسحب عن رقبتك، فهل تخجل إن عرفت أيها المثقف أن الشعب يريد إسقاطك وهو إن لم يصرخ فلأنه أسقطك منذ وجدت، ولا يقيم لك شأناً، فأنت ساقط منذ خمسين عاماً بالنسبة له، وإن فطن بك الآن فلأنه يشعر باشمئزار من رائحة زبالة إبداعك التي لم ترحل مع أكلتها بعد….
كاتب سوري
القدس العربي