الانتخابات السورية المستحيلة/ نائل حريري
يمكننا بمساعدة آلة حاسبة عادية جداً أن نكتشف مقدار لهفة النظام السوري للمضي في مسألة الانتخابات الرئاسية بأسرع ما يمكن. عينا صانع القرار السوري معلقتان على التقويم ومركزتان على تاريخ انتهاء ولاية الأسد الحالية: السابع عشر من تموز.
«في مدة لا تقل عن ستين يوماً ولا تزيد على تسعين يوماً من انتهاء ولاية الرئيس القائم». هكذا ينص الدستور الحالي. تسعون يوماً هي أقرب ما يمكن، نطرحها من تاريخ 17 تموز (يوليو) القادم فيصادف اليوم الموعود 18 نيسان (أبريل)، وهو يوم جمعة يليه يومان آخران من العطلة الرسمية بمناسبة عيد الفصح. إذاً فليخرج رئيس مجلس الشعب بإعلانه في 21 نيسان. لا مزيد من الانتظار أو التروي أو حتى مراجعة الشركاء الاستراتيجيين، يجب التعجيل في مسألة إعادة انتخاب الأسد.
يكشف هذا التعجل تعامي النظام السوري عن كل ما حوله، وعودته للعب ورقة «المسألة الداخلية» التي أصبحت ذات فائدة الآن: الانتخابات السورية مسألة داخلية والقرار هو قرار الشعب السوري. ذلك تناقض صارخ مع خطاب المؤامرة الكونية والشركاء الاستراتيجيين والأزمة التي تحولت إقليمية في أضيق مناظيرها. لكن سر النكوص إلى الخطاب القديم واضح المعالم، فالشركاء الاستراتيجيون أنفسهم ليسوا مرحبين بذلك. وإذا كان موقفهم المبدئي الراسخ معنياً بدعم الأسد وتسويقه، فالتوقيت لا يلائم تطلعاتهم ولا غاياتهم السياسية التفاوضية.
تلك مسألة واضحة: لن تعرقل هذه الانتخابات السورية المسار السياسي للأزمة، المعرقل أساساً، كما صرح الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وحسب، بل ستدفنه تماماً. والشركاء الاستراتيجيون، كما الأعداء الاستراتيجيون، مهتمون بالتفاوض على المصالح، لا بمصير النظام بشكل مفرط في راهنيته.
إنما لنتجاهل كل هذه العوامل الدولية، ونتجاهل مواقف القطبين الدوليين منها، ونتجاهل كذلك تراخي الأمم المتحدة عن طلب الرقابة الدولية المفترضة – والتي رفضها النظام ضمنياً في ورقته المقدمة إلى مؤتمر «جنيف 2» تحت بند «السيادة الوطنية» – ولنتجاهل الشعب السوري بأكمله الذي يتم الحديث باسمه: ربعه مهجر خارج البلاد، وربع آخر نازح داخل البلاد، وقسم لا يستهان به في المعتقلات والسجون السورية بلا تهم واضحة ولا مصير معروف. وعلى فرض أن كل هذه الظروف غير مؤثرة وأن الأمور مستتبة ومجهزة لهذا «العرس الديموقراطي»، فكيف ستتم هذه الانتخابات المستحيلة؟
الطامة الكبرى التي تواجه النظام تبدأ من تطبيق مبدأ الانتخابات للمرة الأولى في تاريخ سورية الأسد. تلك نقطة لا يمكن للعقلية الأمنية السورية أن تستوعبها. كيف يمكن السماح لحملة انتخابية «لا أسدية» في شوارع «سورية الأسد»؟ كيف سيراقب صناديق هذه الحملة أفراد جيش وعناصر أمن وقوات دفاع وطني تحمل صور الأسد على بزاتها العسكرية؟ وكيف سيوافق 35 عضواً من مجلس الشعب على تزكية مرشح رئاسي ليس الأسد؟ وعلى فرض أن مجموعة معينة من هؤلاء النواب تلقت توجيهات عليا من القيادة السياسية لحزب البعث (غير الحاكم وفقاً للدستور) تسمح لهم بارتكاب هذه الخيانة العظمى خدمة للمصلحة العليا، فماذا سيحل بهم أمام دوائرهم الاجتماعية وعائلاتهم وناخبيهم وقراهم ومدنهم؟ وكيف يمكن ألا يصل الحد ببعضهم إلى الوقوع ضحية الاغتيال أو الاعتداء بتهمة الانشقاق عن النهج الخالد للقائد المفدى؟
المشكلة التالية هي المرشح المنافس نفسه. هل سيسمح له بالظهور في وسائل الإعلام «الوطنية» السورية وغير السورية كي يتحدث عن برنامجه الانتخابي ورؤيته المخالفة لرؤية الأسد؟ كيف سيتحدث عن دوافع ترشيحه؟ وما هو الواقع الذي يريد تغييره؟ وكيف سيجرؤ على الحديث عن تغييره؟ هل ستمنعه هذه المحطات الإعلامية من الظهور؟ وإذا منعته فهل يعني ذلك أنها ستتجاهل وجوده؟
المشكلة الأبسط، لولا الظروف الحالية، هي الرئيس الأسد، الذي كاد يختفي تماماً في العام الأخير عن الظهور العام أو توجيه خطاباتٍ شعبية، واكتفى بجلسات تلفزيونية ومقابلات مبسترة أغلبها مع الإعلام الخارجي. فماذا عن ضرورة ظهوره في خطاب جديد في إطار حملته الانتخابية؟ وهل سيقدم نفسه كمرشح أم كرئيس؟ وهل سيقدر على تبني خطاب ديموقراطي معاكس تماماً لتراكم ما قدمه في ثلاث سنوات؟ وهل سيظهر في لقاء حي من الشعب أم سيكتفي بتسجيل تلفزيوني خوفاً على سلامته والتزاماً بالدواعي الأمنية؟ وإذا ظهر فعلاً في إطار حملته فهل يعني هذا أنه سيظهر وحيداً فقط؟ أم سيجمعه لقاء ثنائي أو مناظرة بالمرشح الخصم؟ هل يجب الالتزام بشكليات الألعاب الديموقراطية إلى هذه الدرجة؟ أم ببعض منها؟ أم أن الأمر لا يستحق العناء؟
جميع هذه التفاصيل لا تملك إجاباتٍ حتى الآن، لا في تصورات الشعب السوري ولا في تصورات السلطة الحاكمة وقياداتها الأمنية وواجهاتها السياسية. تلك دولة لا تستطيع أن تخرج من قالب الأسد، ولن تكون قادرة على المضي في هذه اللعبة، بل هي غير قادرة على تصورها أصلاً. ولذلك فالانتخابات من داخلها مستحيلة، بعيداً من كم التعقيدات والتشابكات التي قد تضفيها عليها تجاذبات المصالح وتنافراتها، والتي كان أقربها بين النظام السوري وحلفائه الإعلاميين.
الاحتمال الوحيد الذي يبدو قابلاً للتصديق بأي عقل هو أن يبقى الأسد بلا منافس، ويقرر النظام السوري أن لعبة التفويض الشعبي هي الحل وأن الديموقراطية لا تلائم هذا الشعب، لا لعيب في الشعب نفسه ولا في قيادته الحكيمة، بل لأنها الحتمية على طريقة غابرييل غارسيا ماركيز: «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه».
الحياة