الانتظار السوري القاتل
د. نور الله السيّد
لا يزال الغموض سيد الموقف في سورية بالرغم من تغيرات يمكن للمرء أن يبني عليها آمالاً بانتهاء قريب لهذه الأزمة التي ستدخل عامها الثالث في هذه الأيام، ولكن هذه الآمال سرعان ما تتبدد عند النظر إلى الأزمة من الجانب الآخر.
فقد كشفت الأيام الماضية عن إمكانية تغير في الموقف الأمريكي يمكن اختصاره بأنه يعبّر عن رغبة في إنهاء الأزمة القائمة في سورية مع تفضيل واضح للحل السياسي، وأيضاً بعدم ممانعتها في أن يقوم الآخرون بتسليح المعارضة وأنها ستقدم معونات ومساعدات لا يمكن استخدامها للقتل. ولكن متابعة تحركات كيري وتصريحاته تقول بأن الموقف الأمريكي غير قاطع بعد وهو يقبل التطور باتجاه وبعكسه، وهذا ما ظهر في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع وزير الخارجية السعودي حيث كان تردد كيري واضحاً، ثم عاد ليصبح ‘أكثر’ وضوحاً في مؤتمره الصحفي مع وزير خارجية قطر.
تبع ذلك قرار من الجامعة العربية يتيح للدول التي تريد تقديم المساعدة لسورية (المعارضة السورية) فله أن يفعل ذلك، إضافة إلى موافقتها المبدئية على شغل الإئتلاف لمقعد سورية في الجامعة العربية حينما يشكّل جهازه التنفيذي.
وفي الطرف الآخر يظهر النظام السوري متمسكاً بمقترحاته في حوار يريده على مقاسه ويحدد فيه مَن يمكنه من معارضيه المشاركة في الحوار، وهو حوار يقوم على قاعدة أن النظام باق ولكنه مستعد لبعض التغييرات التجميلية. ولكن ما قام به هذا النظام من فظائع ضد شعبه لم ولن يسبقه إلى مثيلها نظام آخر في العالم تجعل إمكانية الحوار معدومة وكذلك أي حل يكون النظام هو الفاعل الرئيسي فيه.
وفي الطرف الآخر أيضاً لا تزال إيران عند موقفها من النظام، وهو موقف يمكن أن يتغير ذلك أن إيران تبني سياساتها الخارجية على حسابات دقيقة بعيدة عن الحماقة فيما يخصها، ولكنها تدفع بالآخرين إلى الحماقة. وكما بينت العقود الثلاثة الماضية، فهي ماهرة في التلطي وراء وكلائها كما فعلت في أفغانستان ولبنان والعراق واليمن ومن ثم جني الثمار. فهي حتى الآن تدعم النظام السوري بما لا يخفى على أحد ولولا هذا الدعم لما صمد النظام حتى اليوم. وهي تبعث برسائل واضحة عن حروب مذهبية على لسان مسؤوليها من الصف الثاني ولسان المالكي بطائفيته المعروفة. وهي رسائل يستخدمها المالكي على المحورين السوري والعراقي، وهي في المحور السوري تهديد سافر موجه للسوريين بأن الآتي أفظع من الحاضر. كما تبعث إيران برسائل واضحة عبر حزب الله اللبناني بتدخله المباشر وعلى أكثر من جبهة. جبهة القصير/حمص وجبهة الزبداني التي لا ترد أخبارها كثيراً ولكنه من المؤكد أن حزب الله قصفها بالصواريخ من منطقة بعلبك ومن الخلف ولأكثر من مرة. أضف إلى هذا وذاك ما تقوم به إيران من تنظيم وتدريب لجيش المليشيات السوري (جيش الدفاع الوطني) الذي يناط به حالياً القتال المباشر والذي يمكن استخدامه للتهديد بإطالة الحرب الدائرة في سورية إذا سارت الأمور في سورية بغير ما يشتهي آية الله في إيران. وفي هذا الخصوص فهم يهددون بتقسيم سورية كما جاء على لسان لاريجاني عندما قال في خطابه خلال مؤتمر ‘الدفاع الوطني’: ‘الغرب بأنه مصمم على بعثرة وتمزيق سوريا ويساعده بعض دول المنطقة’، وهو كلام كان الأسد قد نطق بمثله في شباط عام 2012 أثناء استقباله نائب وزير الخارجية الصيني.
ميدانياً، لا تزال المعارك محتدمة وعلى العديد من الجبهات. المعارضة المسلحة تحقق انتصارات هنا وهناك. وجيش النظام يحاول مستميتاً تحقيق انتصار بما يعيد إليه الأمل في إمكانية تحقيق الانتصار النهائي الذي يتحدث عنه منذ سنتين. فهو يحاول أن يستعيد المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر في حمص منذ أكثر من سنة بدعم من جيش الدفاع الوطني الميليشي ومجموعات مقاتلة من حزب الله لا تزال صغير العدد حتى الآن ولكن يمكن لهذه المشاركة أن تتوسع لتحقيق هذا النصر الذي أصبح أكثر من هام لاعتبارات عسكرية ونفسية وسياسية. ولكن مثل هذا الانتصار، إن تحقق، وهو أمر ليس بالسهل على الإطلاق، فقد خفف سقوط الرقة من قيمته، ذلك أن هذا السقوط يمثل هزيمة نكراء لأن النظام كان يعتبر هذه المحافظة محافظة موالية ذهب إليها الأسد لصلاة العيد أواخر عام 2011 . وعدم تمكن الجيش الحر حتى الآن من تحقيق انتصارات حاسمة ضد جيش النظام هو افتقاره إلى أسلحة تمكنه من مثل هذا الانتصار، وهي ليست بالأسلحة الهائلة أو الاستراتيجية، فكل ما قيل عن وصول شحنات من الأسلحة النوعية إلى الجيش الحر مضخّم جداً، والجيش الحر كما نراه في دمشق لا يزال يقاتل النظام بأسلحة النظام نفسها، ومثال داريا خير شاهد.
يجتمع نائبا وزيري خارجية روسيا وأمريكا في لندن للسير قدماً في تحديد حل سياسي، ولكن المسافة لا تزال غير قابلة للتجسير بين روسيا-إيران-النظام السوري وبين المعارضة السورية (السياسية والمسلحة)-أصدقاء سورية. كلاهما لا يزال يراهن على أن تجلب الأيام القادمة الترجيح لكفتها دونما اكتراث لأعداد القتلى الذين يسقطون والدمار الحاصل في كل يوم، وترجيح الكفة هذا قد يكون ثمنه آلاف وربما عشرات الآلاف من دماء السوريين!
الإيرانيون غير مستعدين بعد لتقبل خسارة سورية، وهم سيتابعون مساعيهم في دعم الأسد. وكذلك الروس لن يرضوا بهزيمة سياسية ستكون مدوية لو حدثت. ومن غير المعروف أيضاً مدى الدعم العسكري الذي سيتلقاه الجيش الحر والثمن الذي ستدفعه سورية في حال تحقيقه انتصارات جليّة على جيش النظام. فإيران أولاً وعبر وكلائها ستدفع باتجاه توسيع دائرة القتال إن حدث مثل هذا الانتصار، ولن تتردد روسيا في تقديم الدعم بالسلاح والدعم السياسي. وقد لا يعني مثل هذا الانتصار جلب السلام النهائي إلى السوريين وإنما بداية حرب أخرى مع ما تقوم إيران ببنائه حالياً من بؤر ميليشيات تطيل من أمد الأزمة السورية.
الأفضل لمثل هذا الدعم العسكري للجيــــش الحر أن يكون بحيث يفرض على النظام السوري وإيران وروسيا السير جدياً في حل سياسي على أساس يُبنى على تفاهمات جنـــيف، بما يحقق مطالب السوريين على نحو معقول ويقلل من الخسائر ومن تدمير سورية تدميراً كاملاً، مادياً وإنسانياً. ومثل هذا سيتيح لكل الأطراف أن تجد نفسها على نحو، ذلك أن الأزمة السورية لم تعد سورية منذ أكثر من عام ونصف وهي أزمة إقليمية دولية يحاول فيها الجميع الخروج على الأقل بلا غالب ومغلوب وعلى رأسهم أمريكا.
بانتظار الغد، يتزايد عدد الشهداء وأعداد البيوت المدمرة وقوافل اللاجئين والنازحين والمشردين. هذا هو الربيع الثالث في عمر الانتفاضة السورية، دفع فيها السوريون أثماناً عالية. أثمان مؤجلة ومتراكمة كانوا سيدفعونها في يوم من الأيام على كل حال، فنظام مثل النظام السوري لن يرحل بورود الربيع ولكن بمناجل الصيف ومحاريث الأرض، فأرض سورية تأخر حرثها سنوات طويلة.
اكاديمي سوري
القدس العربي