صفحات سورية

بين فأر ابن خلدون وعصفور ميشيل كيلو


معتصم صالحة

من قرأ أو سمع قصّة ميشيل كيلو؟ تلك الحكاية التي كتبها ورواها عن ذلك الطفل الذي التقاه ووالدته في السجن، هي ليست فقط حكاية تعبّر عن سوريا برمتها، بإمها وأبيها وما حدث ويحدث فيها، بل انها حكاية كل الشعوب العربية ‘من المحيط إلى الخليج’ ومنذ قرون.

فجأة، بعد قراءة أو سماع هذه القصّة يُخيّل إليّ انّ الموت والدمار الذي نراه يحدث الآن في سوريا، على فظاعته، ليس أسوأ مما حدث لهذا الطفل وأمه. بل على العكس، تشعر بأنّ ما يحدث الآن هو النتيجة الطبيعية لما حدث من قبل، وكأن الحياة تنتقم لنفسها من سكوت الناس على الذل والمهانة التي لحقت بها في ذلك البلد الذي اخترع الأبجدية للعالم. لا أدري إذا كنت الوحيد الذي شعر بذلك ولكنني ومنذ سماعي لميشيل كيلو يروي تلك القصّة، ورؤيتي لدموع زينة يازجي اثر سماعها لها، وأنا أشعر بحزن ممزوج بخوف لا قرارة له. ماذا لو كنت أنا تلك الأم أو ذلك الطفل؟.

لمن لم يقرأ أو يسمع القصة فملخصها يقول: في أحد المرات التي كان فيها ميشيل كيلو معتقلاً في أحد السجون السورية لنظام البعث، وهي كثيرة. طُلب منه في احدى الليالي أحد الحراس الذي أقام معه نوعاً من الصداقة أن يأتي معه لكي يحكي حكاية لطفل صغير في زنزانة مجاورة. يقول، كيلو، بأنه دخل إلى غرفة صغيرة جداً فرأى سيدة في نحو 25 من العمر مع طفلها البالغ من العمر حوالي 4 سنوات. اعتقلت هذه السيدة كرهينة منذ 6 سنوات حتى يسلم والدها نفسه. اغتصبت وانجبت ولداً في السجن. حاول، كيلو، ان يحكي له حكاية فلم يستطع لأن الطفل لا يعرف شيئاً عن الحياة خارج السجن. فمثلاً عندما قال له: كان هناك عصفور …. سأله الطفل: ما هو العصفور؟ وهكذا حتى ان، كيلو، ذلك المثقف المخضرم لم يستطع ان يروي له فعلاً أية حكاية. ويصف، كيلو، حالته بعد هذا فيقول:

‘لم يعد لساني قادرا على قول أي كلمة، فقبعت هناك متكورا على نفسي. بعد قليل جاء الحارس لإعادتي إلى زنزانتي، عندما فتح بابها واطمأن إلى أن أحدا من زملائه لم يشاهدنا، سألني إن كنت حكيت حكاية للطفل. عندما رأى الدموع على خدي، أغلق الباب وراءه وانصرف’.

منذ أكثر من 600 سنة كتب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، قصة رجل كان وزيراً وانتهى به الحال في السجن ومعه ابنه الصغير. فكان كلما حاول أن يشرح له شيئاً عن الحيوانات كان الولد يسأل والده:

أتراه كالفأر يا أبت؟ فهو لم ير سوى الفئران في السجن ولذلك لا يعرف غيرها.

ما أشبه اليوم، العربي السوريّ بالبارحة التونسيّ _ الجزائريّ المغربيّ المصريّ (ابن خلدون ولد في تونس ولكنه عاش في كل تلك الدول)، والعربي بشكل عام.

كيف يُترجم أو يُفهم هذا؟ منّا نحن العرب المعنيين مباشرة بهذه الحياة التي نحياها ونؤسسها لنا وللأجيال القادمة. أو من الآخر الذي ينظر إلينا ويراقبنا، أحياناً، وكلٌّ لغاية في نفسه.

نحن العرب، كيف نفسّر هذا؟ أنا عن نفسي، حتى الآن، لا أعرف ولا أفهم هذا! حتى ان عقلي يعجز عن فهم ماذا كنا نفعل طوال هذه السنين! ما هذه الأمة التي لا تنجب إلا نفسها دون أي تعديل أوتطوير لا في الشكل ولا في المضمون. 600 عام مرّت والحال كما هو، سجن وظلام، وكأن شيئاً لم يكن. لا نعرف لا مُقدمة ولا خاتمة. لا نعرف ابن خلدون ولا ابن رشد. ولا نعرف من كان قبلهما ولا من جاء بعدهما.

ولكنني أعرف أننا أمة لا تقرأ. وربما كان هذا هو من أحد الأسباب الهامة جداً، والتي قد تُفسّر بعض ما نحن عليه، إن لم يكن أهمها. أكتب هذه ‘الكلمات’ وأخاطب نفسي قائلاً: كم عدد الأشخاص الذين سيقرؤون هذا؟ ولكنني أواصل الكتابة وأتمنى أن يقرأ بعض ممن يقفون موقف سلبي ضدّ ما اتفقنا على تسميته ب ‘الربيع العربي’. هذه ‘الكلمات’ التي قد تعطي فكرة صغيرة عن سبب هذا الموت الذي نحياه، ‘بفخرٍ’. عندما كنت أدرس في الجامعة في انكلترا منذ عدة سنوات، كنت أنظر تملأني الأسئلة، إلى الطلبة العرب يقدمون أنفسهم وهم يتباهون بأصولهم وانتماءاتهم، عربي سعودي، عربي فلسطيني، عربي جزائري، عربي… الى آخر السبحة العربية. وكان معنا الكثير من الطلاب الصينيين بل الأكثر من أي جنسية أخرى والذين كانوا الأكثر ذكاءً وتواضعاً. مرة كنت أتحدث إلى أحدهم وعندما أبديت إعجابي بالنهضة الصينية، على اثر الخبر الذي سمعناه في ذلك اليوم، من ان الصين أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم قال وبتواضع شديد، ما معناه: لم نفعل شيئا يستحق الثناء، ما زلنا في بداية الطريق، لدينا عمل كثير لنقوم به وطريق طويل لنمشيه. الصين التي يوجد فيها حوالي 10 مدن بعدد سكان أكثر من 10 مليون. الصين التي من المتوقع أن يتخطى اقتصادها اقتصاد الولايات المتحدة في عام 2025 والتي هذه الأخيرة، مدين اقتصادها بالمليارات من الدولارات للصين. كل هذا والصيني لا يفاخر بأنه صيني عندما يعرف عن نفسه. عندما استخدم الباص أو القطار في بريطانيا، أرى الكل صامتاً يحدِّق في الكتاب أو الجريدة. وأكثر ما يثير إعجابي عندما أرى البعض يقفون في الطابور ينتظرون الباص أو القطار ويحملون بيد المظلة لأن الدنيا تمطر دائماً، وتحت المظلة اليد الأُخرى تحمل كتاباً مفتوحاً يُقرأ. زرت السويد الصيف الماضي ومن ضمن الأشياء التي اكتشفتها هو انهم ألغوا عزف النشيد الوطني السويدي في مدارسهم، لماذا؟ لأنهم لاحظوا بأنه ربما كان هناك طلاب أجانب، من غير الجنسية السويدية، من المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء من عرب وأكراد وجنسيات مختلفة، في صفوف الطلاب الذين ربما لا يحبذون سماع هذا النشيد.

نستمع إلى معظم الناس في عالمنا العربي تتكلم أو تكتب، بإعجاب شديد، عن الحضارة الغربية التي، وان نظر كل واحد منا إلى كل ما حوله يستخدمه أو يلبسه هو نتاج هذه الجضارة إما فكرياً أو مادياً. ولكن عندما نتكلم عن هذه الحضارة، نفسها، التي تُقدّس الحرية ، تثور الأكثرية مُحتقرة وكارهة لهذه الحضارة.

أما كيف يترجم الآخر ويفهم ما نحن عليه فهذه قصّة أُخرى مثيرة للإهتمام حقاً.

مثلاً، يقول جان بيير فيليو في مقدمة كتابه الأخير ‘الثورة العربية: 10 دروس من صعود الديمقراطية’، ما معناه، كان يشار إلى العرب في العقود الأخيرة في النقاشات العالمية على انهم حالة فريدة من نوعها. ولكن ليس بالمعنى الإيجابي لهذا التعبير، يشرح فيليو، بل بمعنى أنهم: ويعدد عدداً من العناوين للدراسات التي دُرست عن الحالة العربية أو المؤتمرات التي عقدت لمناقشة هذه الحالة مثل، ‘اليأس’، ‘المأزق’، ‘الطريق المسدود’، ‘هناك خطأ ما’، ‘ضياع في ضياع من المحيط إلى الخليج’. وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

في برنامج فكاهي ساخر، باللغة الإنكليزية، على بي بي سي راديو 4، كان هناك تعليقاً على ضوء الزيارة التي قام بها،مؤخّراً، رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى السعودية ودول الخليج العربي، حيث يقول، التعليق، ما معناه:

‘يزور رئيس الوزراء ديفيد كاميرون السعودية والخليج العربي لنشر الحرية والديمقراطية والأسلحة’، في إشارة إلى صفقات بيع الأسلحة التي وقّعها، كاميرون، في زيارته الأخيرة. زوجتي وهي انكليزية، عندما يسألها أحد ما هل أنت انكليزية؟ تجيب: نعم، أنا آسفة.

من خلال مراقبتي لمؤتمر المعارضة السورية الذي عُقد في الدوحة مؤخراً، أحاول فهم ما جرى ويجري في هذا المؤتمر الذي من المفترض أن يُشكل إطارا موّحدا للمعارضة السورية، نلاحظ:

استقالات من ‘المجلس الوطني السوري’ احتجاجاً واتهامات وتخوين بين معظم الفرق والتشكيلات السورية المعارضة.

يقول كونفوشيوس بأن الثقة هي من أهم الأشياء التي يجب على السياسة، أية سياسة، ان تُبنى عليها. إذا انطلقنا من هذه المقولة العظيمة، وكما يُمكن معرفة مُكونات البحر بأخذ قطرة منه وتحليلها، يمكن أن نعرف ونتعرّف على المجتمع العربي بأكمله، كيف يفكر وكيف يعمل، بأخذ المعارضة السورية نموذجاً. يتبيّن لي ولأي مراقب، باختصار وبجملة واحدة، كل واحد في هذه المعارضة يُريد أن يكون زعيماً! يُخيّل إليَّ، عندما أراهم على هذا النحو ، بأنهم ليسوا من سوريا وبأنني لا أعرفهم. وأحياناً أفكر، ربما كنت أنا هو من تغير ولم أعد سورياً.

الأسوأ في كل هذا ان الكثيرين من الصامتين الذين لا مع الثورة ولا ضدها في سوريا والذين أتكلم معهم يقولون لي: هل هذه هي المعارضة التي تريدنا أن ننضمّ إليها؟ معارضة تتسكع في عواصم العالم، تتخبط ولا تفعل شيئاً إلا السجال فيما بينها.

لم تثر الناس في سوريا أو أية دولة من دول ‘الربيع العربي’، لتستبدل نطاما سياسيا ديكتاتوريا بنظام سياسيّ آخر وحسب، بل ثارت الناس لكي تستبدل حياة الذل التي كانت تحياها بحياة حرّة كريمة. الثورة هي ثورة على الذات أولاً لمحاولة تغييرها. الثورة هي ثورة على السائد والشائع، على الفكر والمخيلة، على الثقافة والقيم والتقاليد الاجتماعية السائدة. من أجل كل هذا ضحّى أكثر من 40000 شهيد في هذه الثورة بنفسهم، ثم يأتي ‘المجلس الوطني السوري’ وينتخب أمانته العامة الجديدة المؤَلفة من 41 عضواً كلهم من الرجال. لا يوجد ولا حتى امرأة واحدة. كيف يتوقع هذا المجلس أن يلتف السوريون حوله كممثل لهم إذا كان نصف الشعب غير ممثل فيه؟.

ولكنني عندما أرى المتظاهرين في الشوارع، أشعر بأنني إلى هذا أنا أنتمي، وهذه هي المعارضة التي أدعوا إليها فلماذا لا تروها، أقول لهؤلاء الصامتين.

كلما مرّت الأيام أكثر، وكلما راقبت تطورات الأحداث على ما يجري في هذا ‘الربيع العربي’، كلما ازددت اقتناعاً بصحّة ذلك البيت الشعري المحرَّف، مُؤخراً: ‘إذا الشعب العربي أراد الحياة فلا بُدَّ له من أن يرحل’. فربما بعد عدة قرون، سيعود أحفادنا بعد أن يكونوا قد تعلّموا الحرية والديمقراطية، ليحرروا وطننا من أيادٍ ستكون وقتئذٍ زائلة.

بين فأر ابن خلدون وعصفور ميشيل كيلو، ربما كان ‘ربيع من نوع ما’ هو ما ينقصنا لنغير أنفسنا كأفراد قبل أن نشرع بتغيير الأنظمة. ربما يجب أن يبدأ كل واحد منا ‘بربيعه الداخلي الخاص’ لنحرر أنفسنا أولاً، كما فعل السويدي أو البريطاني أو الصيني.

‘ كاتب سوري يعيش في بريطانيا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى