الانتلجنسيا السورية
عيسى الشعيبي
قد لا تكون هناك فئة اجتماعية في سورية أكثر حرجاً مع قيمها، وأشد تنازعاً مع دورها وادعاءاتها، من فئة المثقفين المسكونين، كنظرائهم العرب، بآفة القلق ووخز الضمير والتباسات عدم اليقين، لا سيما في هذه الآونة التي يدخل فيها هؤلاء مكرهين إلى قاعة امتحان عسير، لإعراب المضارع السوري وتنوين مفرداته الجميلة، أو قل للإجابة عن أسئلة لا تقبل التأجيل، والإفصاح عن مواقف لا تحتمل التأويل، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية بالألف واللام.
إذ بحسب بعض الدارسين لتاريخ الانتلجنسيا العربية، فإن معظم المثقفين في بلادنا ينتمون إما إلى البرجوازية الصغيرة أو إلى الطبقة الفقيرة، الأمر الذي يجعل كل واحد منهم يحمل في مركب شخصيته قيم هاتين الطبقتين ودوافعهما، فترى المثقف لدينا في حاجة إلى ما هو أكثر من مجرد العيش بسلام مع نفسه ومع محيطه الاجتماعي، غير أنه على صعيد النية الذاتية الخالصة يرغب أن يوائم حياته مع مبادئه، وأن يتطابق مع أفكاره، وأن يعلو على انتمائه الطبقي.
وباعتبار أن للمثقفين دالة كبيرة، فقد باتت هذه النخب المهمومة دائماً بتبرير نفسها وتسويغ ترددها، مطالبة في زمن الربيع الديمقراطي العربي المهدد بالتصحر، بجلاء خطابها بلا تلعثم، وتحديد أفضلياتها من دون مكابرة، والمجاهرة بانحيازها لنداء الحرية بغير مراوغات إضافية.
وتشتد الحاجة إلى مثل هذا الموقف الذي لا يخالطه اللون الرمادي ولا تشوبه الذرائع، في الأقطار العربية التي فتحت أنظمتها البوليسية بعض النوافذ أمام المثقفين لديها، لكي يتكيف هؤلاء بالترغيب والترهيب مع متطلبات الوضع القمعي، ويتماهوا برشاقة مع اشتراطاته القاسية، بالتخلي من جهة أولى عن الدور النقدي المتمم لكل فعل ثقافي، والقبول من جهة أخرى بفرص عيش لائقة، مع فرض رقابة ذاتية صارمة على الأقوال والأعمال معاً.
فقد أدركت الأنظمة الاستبدادية، أن الدافعية لدى المثقف لا تنبع بالضرورة الحتمية من مثله وأفكاره، ولا تتساوق دائماً مع قيمه وأهدافه، وإنما مع ما يلبي طموحه الشخصي، وما يحقق له تراتبية اجتماعية معترفا بها، الأمر الذي جعلها تغض البصر عن بعض “حماقاته” الصغيرة، لتستدرجه فيما بعد إلى أفياء خميلتها الظليلة بالفرص النفعية والامتيازات، بشرط أن يواصل من جانبه كذلك غض البصر تارة، والتسبيح بحمد النظام إذا اقتضى الأمر.
ولعل المثقفين السوريين كانوا، بين أقرانهم، أكثر من تعرض لمثل هذا الاختبار القاسي، حيث رسب فيه من رسب، حتى لا نقول سقط سقوطاً مشيناً، ونجح فيه قليلون ممن رفضوا الجمع بين المتناقضات، والمزاوجة بين المستحيلات، الأمر الذي جعلهم يدفعون أثماناً باهظة في أوقات مبكرة، إلا أن ذلك أهلهم في وقت لاحق للقيام بالدور التاريخي المنوط بالمثقفين أساساً، ونعني به الاستجابة لنداء الحرية، والتماثل مع هموم شعبهم، والتعاطي الإيجابي الخلاق مع الثورة الشبابية السلمية ضد التسلط والأوتوقراطية وتلفيقات خطاب الممانعة.
ويزيد من درجة الاحترام لمثل هذا الدور الإيجابي الذي ينهض به المثقفون السوريون الحقيقيون في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلادهم، سطوة النظام البوليسي وتفلته من كل اعتبار إنساني، خصوصاً ونحن نرى الكلفة الشخصية التي يدفعها المثقف عندما يتمسك برأيه ويقول قولته من دون مجاملة، فيما نرى بالمقابل المآل الذي آل إليه مثقفون وأشباه مثقفين، ممن اختاروا دروب المساومة، وفضلوا التمتع برغد العيش، ولو كان ذلك بثمن يتم جبايته على الفور من سمعتهم، ومن رصيد إبداعاتهم وأعمالهم الفنية السابقة.
الغد