صفحات العالم

الدولة والسلطة… القط واللحم المفقود/ حسن شامي

 

حكايتنا مع الدولة والسلطة في هذه المنطقة المرضوضة، والممعودة أيضاً تاريخاً وثقافةً واجتماعاً، باتت تشبه الحكاية المنسوبة إلى جحا حول القط واللحم. فالرجل الذي قالت له زوجته إن القط أكل كيلوغرامين من اللحم الذي اشتراه في الصباح أخذ القط ووزنه فكان وزنه كيلوغرامين. صاح الرجل: لقد وجدنا اللحمة ولكن أين القط إذاً؟ والحال أن وجوهاً كثيرة في المشهد العربي الحالي تفصح عن وضع من هذا القبيل: هناك الكثير من السلطة والقليل من الدولة. ولا نعلم على وجه الدقة ما يميز ويفصل بينهما. ما يطغى على سطح الانتفاضات العربية المندلعة منذ أربع سنوات تقريباً هو احتدام التنافس على السلطة على قاعدة التساوي في شهوة القبض عليها وتمكينها باسم مرجعيات وشرعيات متضاربة يصعب نظمها في منظار عقلاني واعد يحتمل الاتساق والاشتراك. تضارب الشرعيات، وارتجالها في حالات عدة، يعود إلى أوضاع اجتماعية معينة، من حيث المكانة أو الهامشية أو ضعف الحراك وتراجع فرص الترقي وانسداد الآفاق، وتعويلها على أيديولوجيات تكون بمثابة ملاذ او خلاص أو مكافأة.

قد تكون الحالة الليبية حالة قصوى في ما يخص اضطراب المشهد السياسي وانفلات الصراع «الثوري» على السلطة في بلدان الربيع العربي وتحليقات سنونواته، وغربانه الكثيرة. القول بأن حالة ليبيا قصوى لا يعني أنها استثنائية أو شاذة. صحيح أنها مغرية وجاذبة أكثر من غيرها لتنويعات من الصلف والسينيكية. ففي الحالة المذكورة لا يحتاج المراقب إلى حفظ اسم رئيس الحكومة ما دام هذا الأخير سينهي مهمته قبل أن يبدأ بها. قد يستقيل أو يتعرض لخطف تأديبي وقد يغادر البلد. لا أسماء تدوم في قمة السلطة في ليبيا. فتكليفه أو انتخابه من المؤتمر الوطني العام، أي من السلطة التشريعية والرقابية، يبدو أشبه بعملية تهريب فيما ينظر لاعبون كثيرون إلى ساعة أيديهم لقياس الوقت المتبقي لظهور اللاعب الطارئ. حتى القائد المفترض للثورة، أي مصطفى عبدالجليل الذي قدم الغطاء الداخلي لتدخل القوات الأطلسية، والفرنسية خصوصاً، لإسقاط القذافي وتفضيل اغتياله بطريقة بربرية على محاكمته، هذا القائد لا نعرف أين هو.

لا نحتاج إلى حفظ أسماء رؤساء الحكومة في ليبيا لأنها موقتة وعابرة. دائماً أو على التوالي وتواتر التداول. كأن المجتمع المتذرر إلى وحداته القبلية والجهوية يثأر بهذه الطريقة من أبدية السلطة القذافية. ففي العهد المديد جداً لمعمر القذافي، امتص اسم القائد البلد كله. اسمه الذائع الصيت والممتلئ بنفسه، جسداً عائلياً وإقليماً ومشاريع تحديث وتنمية وطموحات قارية، هو عنوان ليبيا وبوابتها الوحيدة. وبهذه الصفة احتكر هو وحاشيته الثروة والعنف والقتل والخطف والأسر. مع ذلك يمكن نظرة سينيكية صلفة أن تجد في سلطانية القذافي فضيلة وحيدة هي منع مكونات المجتمع الليبي من التقاتل. ومن مفارقات الأمور أن مشهد ما بعد القذافي تكشف عن سيرورة تذرر تشي بتأميم، كي لا نقول دمقرطة، كل الصفات الاستئثارية لفردانية السلطة القذافية ووحدانيتها. يتكشف في السياق ذاته كم كان الكذب كبيراً لتبرير التدخل العسكري الأطلسي بدعوى الضرورة القصوى لمنع أرتال الدبابات القذافية الزاحفة على بنغازي من ارتكاب مجزرة وشيكة. ومع أن الطريق إلى بنغازي طويل وصحراوي ومكشوف، لم تستطع الأقمار الاصطناعية ولا طائرات الاستطلاع أن تلتقط صورة واحدة لأرتال الدبابات. وحده المقاول الإعلامي الفرنسي برنار هنري ليفي رآها بأم عينيه. ولا غرابة في الأمر، فهو احترف، كمثقف مؤثر بقدرة قادر في صناعة الرأي العام، التزوير والتضليل والتأنق.

سيكون علينا اليوم، وحتى إشعار آخر، أن نحفظ اسم اللواء المتقاعد خليفة حفتر. فهو يقود منذ أيام «عملية كرامة ليبيا» ضد المجموعات المسلحة المتشددة. ويبدو أنه يحقق تقدماً ميدانياً وسياسياً إذ أخذت تنضم إليه وحدات عسكرية وقوى سياسية كما تلقى تأييداً من المرشح الأكبر للرئاسة المصرية عبدالفتاح السيسي فيما تتهمه جماعات أخرى بتنفيذ انقلاب عسكري لا نعلم ضد من. بل ذهب السيسي إلى حد إلقاء المسؤولية عن الأوضاع المضطربة في ليبيا على الغرب الذي أسقط السلطة القذافية والدولة في آن معاً وترك حبل الأمور على غاربه. وليس مستبعداً أن يكون حفتر في صدد استلهام تجربة السيسي في مصر مما يفسر تصدي الإسلاميين له وتهديده من جانب المرشد العام بـ25 مليون قطعة سلاح متوافرة في أيدي الجماعات المقاتلة. من المبكر الجزم بأن مشروع حفتر يؤسس لانقسام سياسي على أسس مختلفة. لكن المؤشرات على ذلك وارتسام خريطة اصطفافات مختلفة تجيز الظن بانطلاقة جديدة لإعادة تشكيل محاور الصراع. الموقف الأميركي لافت. فقد أعلنت متحدثة باسم الخارجية أن بلادها لا تدعم العملية الجارية ولا تؤيدها.

الحالة الليبية التي تبدو أشبه بدوامة ومتاهة ليست، للأسف، هامشية. فهي تفصح على طريقتها، وبالنظر إلى تاريخ اجتماعي وثقافي يرقى إلى ما قبل القذافي وحجزه القاسي والحاجب للبلد في قوقعة سلطته، تفصح عن وجوه تشترك فيها مع حالات اخرى مثل الحالة اليمنية. الحالة السورية هي أيضاً، على تباين الظروف والمكونات والاعتبارات، لا تعدم وجوه شبه مع المتاهة الليبية. هذا في الأقل ما آلت إليه مسيرة حراك شعبي وشرعي عالجته السلطة الأسدية بالقسوة الأمنية المعهودة، فيما سارعت قوى أخرى، تنسب اليها هامشية اجتماعية ريفية، إلى عسكرة ريعية فاقعة، ثأرية بقدر ما هي مقلع نزاعات داخلية مسلحة وشرعيات مرتجلة تدور كلها على البيعة والإمارة وانتزاع الولاء والطاعة. ومن مفارقات الأمور ربما أن يكون المشهد المعارض في سورية أكثر تذرراً وأكثر إرهاصاً بحروب أهلية متنوعة من المشهد الموالي الذي يضم كتلاً تترجح علاقات تأييدها للسلطة بين المحاباة والمحسوبية والدفاع عن مصالح وامتيازات وبين الحاجة إلى الأمن والاستقرار العاريين والخوف من سيطرة الإسلاميين ومشتقات السلفيات الجهادية.

 

في خلفية التذرر الواعد بالمزيد من التصدع الوطني، ثمة إشهار لفكرة عن المساواة جرى تمثلها ولا يزال على نحو مضطرب قد لا تكفي الانتخابات مهما كانت درجة نزاهتها للجم جموحاته. فالخلط بين المساواة في المعنى السياسي والحـــقوقي وبين التماثل الكلي كارثي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى