التحضير للمجزرة/ صادق عبد الرحمن
يعتمد النظام السوري على البدء بحملات دعائية واسعة، فيها نسبة مرتفعة من الأكاذيب والأخبار المضللة عبر وسائل إعلامه وصفحات
التواصل الاجتماعي، للتمهيد لأي أعمال عسكرية وما تستتبعه من أعمال عنف بحق المدنيين، تنوي قواته ارتكابها في أي منطقة.
ما حصل في قرية “البيضا” بريف بانياس يعد مثالاً صارخاً على هذا النهج، حيث كثر الحديث قبل المذبحة عن أعمال عنف وإرهابيين عرب وأجانب في القرية، وعن هجمات لا دليل على وقوعها أصلاً تعرضت لها قوات النظام في المنطقة، ثم تم رفع سوية التحريض على أهالي تلك القرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتأتي بعدها المجزرة المروعة هناك.
قرية “المتراس”، في أقصى شرق محافظة طرطوس على تخوم محافظة حمص تعاني حالة مشابهة من التحريض اليوم وسط مخاوف من أن تكون على موعد مع مخطط مماثل.
تقع قرية “المتراس” إلى الغرب من وادي النصارى في محافظة حمص، وهي قرية صغيرة تابعة لريف صافيتا في محافظة طرطوس، لا يتجاوز عدد سكانها خمسة آلاف نسمة من المسلمين التركمان، ومعهم ما يزيد على ألفي نازح من مناطق سورية متعددة أهمها حمص وريفها.
ويعتمد سكان القرية في كسب رزقهم على الزراعة والثروة الحيوانية، كما يعمل قسم منهم في صناعة الفحم، حيث سُمح لهم مؤخراً بقطع مساحات واسعة من أحراش القرية لاستخدامها في صناعة الفحم خلافاً للقانون. وبدا ذلك كما لو أنه غض نظر متعمد من قبل الأجهزة الرسمية لامتصاص نقمة السكان وتعاطفهم مع الثورة.
أما منطقة وادي النصارى المتاخمة لقرية “المتراس” فتعدّ من المناطق شديدة الحساسية والتداخل الطائفي في سوريا، حيث تقطنها غالبية مسيحية وتقع فيها بلدة الحصن التي يقطنها مسلمون سنة. وهي البلدة التي تعرضت لحملات عسكرية عنيفة خلال العامين الماضيين، ووقعت فيها وعلى تخومها معارك ضارية استخدم فيها الطيران الحربي عدة مرات، وأسفرت عن مقتل عدد من أبنائها بين مسلحين
ومدنيين.
كما نفذ مسلحوها هجمات في المنطقة أسفرت عن مقتل عدد من عناصر ما يعرف باللجان الشعبية وبعض المدنيين أيضاً. ويستغرب كثير من أهالي وادي النصارى استمرار المعارك في الحصن طيلة هذه الفترة، وهي بلدة صغيرة مطوقة من كل الجهات ومعزولة إلى حد بعيد عن البيئات الأهلية الثائرة الأخرى.
وكثيراً ما يقال إن النظام لا يريد إغلاق الملف الأمني والعسكري في المنطقة لأسباب تتعلق بتوظيف التداخل الطائفي فيها، وإشعار الأكثرية المسيحية في وادي النصارى بالتهديد الدائم.
على الرغم من تعاطف سكان قرية “المتراس” الواضح مع الثورة السورية، وقرب القرية النسبي من بلدة الحصن حيث تُسمع فيها أصوات القصف الذي يحدث هناك بوضوح، فإنها لم تشهد أحداثاً تذكر طيلة فترة الثورة السورية، ذلك باستثناء تظاهرة يتيمة بتاريخ 30/4/2012 تبعتها حملة اعتقالات في القرية.
وكانت هذه التظاهرة قد خرجت أثناء تشييع أحد أبناء القرية وهو جندي في الجيش النظامي فارق الحياة تحت التعذيب بعد رفضه إطلاق النار.
بعيد مجزرة “البيضا” في بانياس قيل إن أهل “المتراس” بادروا إلى تسليم ما لديهم من مطلوبين ومن أسلحة فردية خفيفة لتجنب أية مجزرة مماثلة، ولضمان استمرار الهدوء في قريتهم، ولكن ثمة ما يوحي بأن هذا قد لا ينجح.
بتاريخ 9/9/2013، قام مسلحون يعتقد أنهم من اللجان الشعبية الموالية للنظام بتصفية عائلة من قرية “المتراس” تتألف من أب وأم وطفلين كانت تعمل في مزرعة في قرية “تنورين” المجاورة.
وبتاريخ 28/9/2013 حدث انفجار في أحد منازل القرية أسفر عن مقتل عدد من سكانه، قالت وسائل إعلام النظام وصفحات التواصل الاجتماعي الموالية له إن الانفجار وقع في مستودع ذخائر وأدى إلى مقتل عدد من “الإرهابيين” أحدهم أردني الجنسية.
وبالتأكيد فإنه لا مجال اليوم للتحقق مما حصل في القرية ومن عدد الضحايا وهويتهم، إذ تبدو القرية مطوقة بشكل كامل من قبل النظام السوري، بحيث لا يجرؤ أحد من سكانها على التواصل مع أية وسيلة إعلامية خارجية أو جهات محايدة.
لكن بات واضحاً أن القرية على موعد مع أحداث عنف في الفترة المقبلة. فبعد أيام على التفجير المذكور، بدأت صفحات الموالاة على مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث عن تسلل لمقاتلي المجموعات المسلحة بكثافة إلى الحصن والمتراس، وعن أنهم يهدفون إلى فتح طريق من الحصن نحو المتراس عبر قرى “حبنمرة وبحزينة ومشتى عازار” المسيحية، وذلك استعداداً لفتح معركة في الساحل السوري. ودعت الصفحات الموالية أنصار النظام في ريف صافيتا ووادي النصارى للاستعداد لمعركة إيقاف هذا “المخطط الخطير”.
ويُخشى أن قرية “المتراس” الصغيرة ستكون لقمة سائغة لمليشيات النظام السوري. ومما لا شك فيه أن الكلام عن عمليات عسكرية لقوات المعارضة انطلاقاً منها كلام لا تفسير له، وهو ما يفتح السؤال على مصراعيه عن أسباب هذا التحريض الممنهج الذي يعتمد على دعاية كاذبة، وعن الأسباب التي قد تدفع النظام السوري لاقتحامها وما قد ينتج عن ذلك من قتل لمدنيين.
أسباب يميل بعض من سكان وادي النصارى إلى تبريرها بالقول إن مليشيات “الشبيحة” تهدف إلى سرقة أموال أبناء “المتراس” التي جمعوها من العمل في الفحم، لكن هذا على أهميته بالنسبة لمجموعات اللجان الشعبية لا يفسر شيئاً، ليبقى خيار الإمعان في توريط المجتمع السوري في النزاعات الطائفية، وافهام مقاتلي المعارضة أن أي تفكير جدي بنقل المعارك إلى الساحل السوري سيدفع ثمنها المدنيون بالدرجة الأولى، هو الأكثر قدرة على تفسير ما يجري من حملات تحريض.
المدن