التحول التاريخي في المنطقة
سليمان تقي الدين
ما يجري على صعيد المنطقة العربية هو حدث تاريخي بكل ما للكلمة من معنى . خلاصة هذا الحدث تصفية أو تجاوز مرحلة حملت عنوان التحرر الوطني والاستقلال السياسي وما رافق ذلك من تجارب وحدوية . نشأت في هذه المرحلة منظومة سياسية عربية استنفدت إمكاناتها على التقدم منذ ربع قرن، صار واضحاً أن هذه المنظومة عاجزة عن تحويل الاستقلال السياسي إلى استقلال فعلي تؤكده القدرات الأمنية والتنمية الاقتصادية . لم تستطع الدول الأهم والأكبر والأغنى عربياً أن تبني الاكتفاء الذاتي، فظلت أسيرة شبكة علاقاتها الدولية التي تعطيها دورها ووزنها . الدولة “القطرية” بشكل أو بآخر أسهمت في إضعاف موقع العرب، إما لضعف إمكاناتها، وإما لأنها لم تضع سياسات وحدوية أو تكاملية أو تعاونية تؤدي إلى توحيد النظرة إلى الأمن القومي العربي . قامت الإمبريالية الأمريكية بتطويع معظم النظام العربي وأجهزت أخيراً على النزعة الاستقلالية في العراق وليبيا وجاء دور سوريا . احتفظت سوريا بحد واسع من الحماية الدولية من خلال سياسة مرنة مزجت الاعتراض بالتعاون والممانعة بالقبول، لكن سوريا فقدت موضوعياً الحصانة العربية مع انفضاض العرب من حول القضية الفلسطينية ونفورهم من الدور الإيراني واندماجهم المتزايد بالسياسات الخارجية وغياب التوازن الدولي . لم تعد سوريا تمثل في النظام العربي محوراً فعلياً من محاوره، ولا هي قادرة على أن تقود الحركات السياسية والشعبية التي تشكل تياراً معاكساً للنظام العربي يؤثر فيه ويقاومه .
تحولت سوريا إلى جزء من منظومة عسكرية أمنية تمتد من لبنان إلى إيران لكنها في جبهة غير متماسكة . فلسطين خرجت من نفوذ سوريا، ولبنان انقسم عميقاً، والعراق لم يتماسك بعد، والأزمة الداخلية في سوريا لا يحلها النظام الأمني ولا أي دعم خارجي مادي أو عسكري . معركة سوريا دفاعاً عن نظامها أو دفاعاً عن موقعها القومي وسياساتها “الممانعة”، ليست في أولويات المناخين الرسمي والشعبي عربياً . هكذا تظهر سوريا وكأنها دائرة نفوذ إيراني روسي، أو نظام تتقاطع عنده مصالح خارجية ويحمل مصالح داخلية فئوية، وليس دولةً قائدة لمشروع عربي آخر أو حاملة لنموذج وطني متقدم . ليس تقليلاً من أهمية الجمهور الذي هبّ دفاعاً عن كرامة سوريا الدولة والوطن تجاه التحديات الخارجية، ولا سيما الموقف العربي، ولكن هذا الجمهور لا يملك فعالية التصدي وحماية النظام مما تجتمع عليه من قوى داخلية وعربية ودولية . ربما كانت الفرصة ممكنة أو محتملة لو أن استباقاً سريعاً وجدياً في اتجاه خيار الهجوم السياسي بحركة تغيير بين تجميع القوى الداخلية والعربية إلى التحالفات الإقليمية والدولية . قد يكون ذلك متاحاً اليوم فقط بانقلاب النظام على نفسه لاستيعاب المتغيرات، ويبدو أن مثل هذه الرغبة في إنقاذ سوريا الدولة والدور، تتلاشى مع اتساع الفجوة الداخلية بين النظام ومعارضيه المتشددين، وبين النظام وخصومه في الخارج .
لم يعد توازن القوى الداخلية هو الأساس في النتائج طالما أن المعارضة المسلحة تستمر في الاستنزاف، والنظام يستمر في الاستجابة للتحدي الأمني .
ما يحكى عن “أوراق يمتلكها النظام” في مواجهة خصومه في الخارج، ليس قادراً على تغيير قواعد اللعبة . ربما كانت الحرب الشاملة في المنطقة هي التي تؤذي مصالح الآخرين، لكن هذه الحرب ذاتها كيفما جاءت نتائجها لن تعيد إلى النظام قوته وهيبته واستقراره وتأثيره في المدى الإقليمي .
هناك تحديات عدة ليس من السهل تجاوزها، التحدي الأمني والبيئة العربية والإقليمية والدولية المناهضة لسوريا . التحدي الاقتصادي الذي فاقم الأزمة الاجتماعية من خلال الفوضى الداخلية وكلفة النزاع والحصار والعقوبات . التحدي السياسي في إجراء التحول الداخلي وفي علاقات سوريا بما يسمى نفوذاً خاصاً في لبنان وفلسطين . جميع هذه التحديات لا يمكن معالجتها بمدى زمني قصير ولا يمكن حلها بعد هذا الحجم من التوتر في علاقات سوريا بالأطراف المعنية في هذه النزاعات . لقد أدى الزمن المتراكم (ثمانية أشهر) إلى تموضع جديد للقوى والتيارات وللجماعات في البيئة التعددية المشرقية، ولأول مرة تعيش سوريا منذ أكثر من نصف قرن في جو الأسئلة عن علاقات مكوناتها الإنسانية وهويات هذه المكونات الثقافية، وما هو دورها في مستقبل البلاد، وما هي علاقتها بالدولة ومدى حجم مشاركتها السياسية . أما لبنان فهو كذلك لأول مرة يعيش هذا الجو من النفور السياسي بين تياراته تجاه سوريا، لاسيما في البيئة الإسلامية وفي المناطق الحدودية المتدامجة والمتفاعلة يومياً على كل صعيد، ويصعب ترميم هذه العلاقات في ظل المشكلات الأمنية .
في واقع الأمر ثمة نظام إقليمي سيتشكل من كل هذه التحولات في المنطقة، أو على الأقل هناك ميزان قوى سياسي وأمني واقتصادي سينشأ ويغير المعادلات السابقة وطبيعة العلاقات بين الدول العربية وبينها وبين دول الجوار ومع النظام الدولي . فلا أحد يستطيع أن يتكهن بمستقبل النظام الإقليمي، ولكن الوجهة العامة فيه تغيرت وكذلك وظائف وأدوار الدول . خلال العقد الماضي طغت وظائف العنف على العلاقات ووقعت حروب ومواجهات وتوترات، أما اليوم فإن الحراك الشعبي السياسي سيفرز أوضاعاً جديدة تغيّر من طبيعة الدول ومن القوى الفاعلة فيها . عبثاً مقاومة هذا التغيير، وعبثاً التفكير بالاحتفاظ بصيغ الماضي .
الخليج