الثورة تأكل أبناءها: قراءة في فلسفة هيغل السياسية/ حسام أبو حامد
هاجس الفلسفة عند الفيلسوف الألماني فردريك هيغل هو إبراز الوقائع المفككة في صورة عقلية مترابطة، أي الكشف عن الترابط بين الأحداث وضرورتها، الذي لا يترك مكاناً للعرضي والعفوي. فموضوع الفلسفة عند هيغل هو الكلي، أي الفكر، لا الوقائع العينية.
الفلسفة فكر الفكر، إنها بومة مينيرفا (حسب تعبير هيغل) التي تصحو لتطير بعد أن تكون الحياة ونظمها قد دبت بين الناس. ولا ترمي الفلسفة السياسية الهيغلية إلى وضع الأسس التي تبنى عليها الدولة المثالية، فهي ليست يوتوبيا تحصر نفسها في ما ينبغي أن تكون عليها الدولة، لأن مهمة الفلسفة، كما يؤكد هيغل: “أن تفهم ما هو موجود، لأن ما هو موجود هو العقل”.
بين التفسير والتغيير
حين تضع الفلسفة لوناً رمادياً فوق لون رمادي، إيذاناً بأن صورة من صور الحياة قد شاخت، فإن ذلك لا يعني تجديد شباب الحياة، بل فهمها فحسب. ولا يقف هيغل عند حدود فهم العالم بدون تجاوزه لتغييره، كما يروج الماركسيون، فيخصون هيغل بمقولة ماركس حول فيورباخ بأن «الفلاسفة لم يحاولوا إلا تفسير العالم فحسب، مع أن المهم على العكس هو تغييره».
كذلك، لم تكن فلسفة هيغل السياسية إعادة إحياء لأفكار المعارضين القدامى للمجتمع المفتوح (كارل بوبر)، لقد كان هيغل ثورياً، لكنه لم يكن راديكالياً يدعو إلى العنف، ولم تكن اللعبة السياسية عند هيغل أداة تحقيق مصالح الدولة من الأعلى، ومصالح الأفراد من الأسفل (شوبنهاور)، فاهتمامات هيغل السياسية لم تأت مصادفة، بل كانت ثمرة اهتمام متصل طوال حياته، بدءاً من سن العشرين، وحتى وفاته عام 1831.
انطلق هيغل من واقعه السياسي الذي عايشه بداية في بيرن في سويسرا، ويؤكد أن الإنسان منا هو ابن عصره، ولمّا كان من الحمق أن نتصور إمكان تخطي الفرد لعصره، فمن الحمق أن نتصور تجاوز الفلسفة زمانها الخاص. الفكر السياسي عند هيغل لا يحلّق في الخيال، بل همه فهم الواقع، الذي بعد تعمقنا العميق فيه لن نجد شيئاً سوى العقل قد تموضع، وأن الأفكار العقلية قد تحققت في موضوعات خارجية.
مع ذلك لا تؤسس فلسفة هيغل انسلاخاً عن الواقع، إذ يؤمن بقيمة العمل، فإن تحقيق أصغر عمل “لهو أكبر قيمة من أجمل فكرة لم تستطع أن تتجاوز دائرة الإمكان، فبقيت مجرد مشروع”.
في انتظار الثورة
حين يدبّ المرض في المجتمع فإن الشعب لا يموت، ولا بد من تغير النظم الاجتماعية والسياسية لعلاج هذا المرض. ومما له دلالة مهمة، على صعيد هواجس الفلسفة السياسية عند هيغل، أن أول الأعمال السياسية لهيغل الشاب كانت ترجمته رسائل جان جاك كارت، المحامي السويسري الذي فرّ من بلاده إلى فرنسا ليهاجم رجعية نظام بيرن، ولا شك أن قيامه بالترجمة والتعليق عليها يدلان على تعاطفه مع كارت، بل تبنيه مواقفه ونقمته على الحكم الفاسد.
وفي عمله السياسي الثاني “حول الشؤون الحالية في فورتمبرج لا سيما قصور الدستور المحلي” يرفض هيغل الاستسلام للأمر الواقع واليأس من تعديله، ويهاجم في “فلسفة الحق” من يحاولون ترقيع النظام السائد، المخدوعين بقدرة المؤسسات والدساتير والقوانين على البقاء على الرغم من أنها لم تعد تناسب حياة الناس.
يعوّل هيغل على الفلسفة لتبرهن على حقوق الإنسان وعلى أن النظام السياسي القائم لن يصمد أمام الأفكار الجديدة التي تنقض عليه فيعلن “انتظر ثورة ألمانيا”.
الإصلاح المؤجل
يدعو هيغل المستضعفين إلى المشاركة في رفع الظلم عنهم، فلا ينبغي للمواطن أن يقف موقف المتفرج، بل عليه أن يشارك في هدم البناء المتداعي، اللامبالاة مدانة عند هيغل، لأنه عمل غير شريف ومنافٍ لكل إحساس أن يقف المواطن متفرجاً على البناء وهو ينهار في كل مكان، وإن لم يشارك في هدمه سيكون عرضة لأن تسحقه دعائم هذا البناء لحظة انهيارها.
للظلم عند هيغل عقابه الخاص، ويحذر الظالم في كل حين ومكان من مصير شبيه بمصير لويس السادس عشر، الذي أدرك ضرورة الإصلاح لكنه ظل على موقفه المتراخي، ليجد رأسه في النهاية تحت المقصلة. الثورة قادمة لا محالة، لكن حين تدقّ الأبواب بعد إصلاح مؤجل تتحول الثورة إلى صراعات تكتسح كل شيء.
في “فلسفة الحق” تضّح أفكار هيغل السياسية حول الإصلاح المؤجل الذي لا يفعل شيئاً سوى تأصيل شوق الناس إليه وتجميع سخطهم وغضبهم ليتحول في النهاية الى انفجار مروع. لكن الإصلاح الاجتماعي السياسي لا يعني “التوقيع”، بل لا بد أن يكون جذرياً وشاملاً. لذا يرفض مشروع الإصلاح النيابي في إنكلترا، محذراً من أن محاولة إحياء أنظمة ميتة محاولة محكوم عليها بالفشل مسبقاً، فيعلن في “دستور ألمانيا” أن «الغنغرينة لا تعالج بماء معطر».
الثورة تأكل أبناءها
وجد هيغل في الثورة الفرنسية صراع القانون العقلي الدستوري ضد القوانين الوضعية، والامتيازات التي كبّلتها، لقد شكلت الثورة الفرنسية بالنسبة لهيغل نقطة تحول في التاريخ نقلت الناس من جهود التحرر إلى وعي التحرر. وعلى الرغم من اقتناعه بفشل الثورة الفرنسية حافظ على تمسكه بمبادئها التي فشلت هي في تطبيقها. فالحرية والمساواة والإخاء ظلت مجرد شعارات. ولكن لماذا؟
يذهب هيغل إلى أن الإرادة المطلقة لا تتعيّن، ولو فعلت لما كانت مطلقة، والأفكار حين تتحول إلى واقع فعلي تصبح قيداً على الإرادة نفسها، لأنها تصبح تعييناً للحرية، فلو طبّق أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية حقوق الإنسان التي أعلنوها لأصبحت قيوداً عليهم.
هذا الجانب الصوري من فعل الإرادة هو حرية سلبية تدمر كل شيء يقف أمامها حتى لا يحد من حريتها. إنها حرية “الفراغ التي تصل إلى مرتبة الهوى وتتخذ شكلاً واقعياً في العالم… تتخذ في الدين والسياسة شكل التعصب الهادم”.
لقد حطم الثوار الفرنسيون من جديد المؤسسات والتنظيمات التي أقاموها بأنفسهم. هذه الحرية السلبية ترفض النظام وهنا تبقى القوانين التي تحكم قوانين أخلاقية بطبيعتها الذاتية، وتسيطر المبادئ المجردة للحرية على نحو ما توجد في حدود الإرادة الذاتية، أي الفضيلة التي تشطر المواطنين قسمين: من يتخذون موقفاً ودياً، ومن يتخذون موقفاً عدائياً. هكذا تتحول الثقة إلى اشتباه، والفضيلة الذاتية القائمة على الاقتناع الذاتي نظاماً من الطغيان في ظل وجود الدستور والمجلس النيابي والحكومة. وعبر بقاء القوانين مجردات تمكّن “اليعاقبة”، أصحاب محكمة الثورة والمقصلة، من ممارسة السلطة باسم الديمقراطية وسيادة الشعب.
يحمّل هيغل فلسفة روسو، التي كانت بمثابة إنجيل الثورة الفرنسية مسؤولية ما حدث، حين أقام الدولة على مبدأ الإرادة بوصفها إرادة فردية، ونظر إلى الإرادة الكلية لا من حيث هي عنصر عقلي مطلق في الإرادة، بل من حيث هي إرادة عامة تصدر عن هذه الإرادة الفردية، وجعل من وحدة الأفراد في الدولة تعاقداً، فقامت الدولة على أساس العقد الاجتماعي، ليردها بذلك إلى إرادة الأفراد التعسفية، ورأيهم الظني، فسادت المبادئ المجردة التي قوضت التجربة الثورية بمنتهى الفظاعة والإرهاب.
الدولة بوصفها ذاتاً شاملة
إن اعتبار الفرد منطلق النظرية السياسية حسب هيغل يغفل حقيقة التاريخ البشري، وتطور الفرد عبر التاريخ كي يصبح فرداً ويحصل على وعي بفرديته. فالإنسان بوصفه فرداً يعي إنسانيته بإدراكه مراحل تطور وعيه بطريقة جدلية، حتى يصل إلى تحقيق غاية مطلقة. والحق الطبيعي لا يصدر عن الطبيعة البشرية بل هو حالة تاريخية ترتبط بالإنسان، ليس باعتباره فرداً له حق في ذلك، بل باعتباره كائناً له روح ووعي وإرادة. فلا يتخلّى الناس عن جزء من حريتهم لتأسيس الجماعة السياسية، بل عن إرادتهم الهوجاء، والعنف، والهمجية الناتجة عن اختفاء النظام السياسي. فليست هناك حريات أو حقوق طبيعية تسوق الدولة أو الجماعة السياسية.
يرفض هيغل الحق الطبيعي بوصفه حقاً فردياً، بل هو حق جماعي، لا أحصل عليه عبر إرادتي الذاتية، بل عن طريق إرادة أشخاص آخرين كوني مشاركاً في إرادة عامة مشتركة. حقوق الفرد ليست سابقة على الحالة المدنية، وبالتالي فالنظام لا يحميها، وهي ليست أسباباً لظهور السياسة، بل مجرد حالة افتراضية، أما الدولة فهي حالة واقعية، ولا يمكن للواقعي أن ينشأ عن الافتراضي. فما يوصف بأنه حقوق طبيعية ينبغي أن تكون الغايات النهائية للاجتماع السياسي.
الحرية لا تتحقق خارج الدولة، بل في الدولة التي لا تقوم سلطتها على اتفاق المصالح المختلفة في المجتمع، بل في إدراكنا أن هناك حقيقة عقلية مستقلة عن المصالح المختلفة تتحقق بوجود الدولة، الذات الشاملة، والغاية النهائية في مراحل نمو وتطور المجتمع المعاصر. وحين تعلو الدولة على المصالح الخاصة (المجتمع المدني) وتوفر الأساس لانتقال المجتمع إلى مفهوم الرفاهية العامة. هنا يغدو هيغل المؤسس لمفهوم دولة الرفاه الذي جسدته أوروبا في لحظة تطورها الراهنة.
ديمقراطية ولو عرجاء
كان موقف هيغل من الديمقراطية سبباً لكثير من الانتقادات الموجهة إلى فلسفته السياسية. إذ يتوجس هيغل من خطر الديمقراطية المباشرة، ويدعو إلى ديمقراطية بالوصاية، فيمكن للبرجوازية المستنيرة أن تقوم برعاية حقوق الشعب ريثما يصل إلى درجة من التربية والتعليم، ومن ثم إلى درجة من الوعي السياسي المنشود.
هيغل الشاب المتحمس لأفكار الثورة الفرنسية، في الحرية والإخاء والمساواة، الذي رأى في نابليون بونابرت الروح المطلق وقد تجسد على حصان. توجس من مآلات الثورة الفرنسية في عهد الإرهاب، ما جعله يبتعد عن تدعيم المشاركة المباشرة في الديمقراطية، فمن المغامرة أن تمنح حق التصويت فجأة لشعب عاش طويلاً تحت حكم استبدادي، فأصبح فاتر الشعور، وغير مبالٍ، ليناً مطواعاً. هذا النوع من الجماهير، التي اعتادت الخضوع والطاعة العمياء، قد تحطم البناء السياسي تحطيماً كاملاً.
وإن كان إرهاب الثورة الفرنسية يفسر موقف هيغل من الديمقراطية المباشرة، فإنه لا يشكل عذراً، فالديمقراطية العرجاء خير من استبداد مطلق، وأخطاء الديمقراطية لا تصححها إلا الديمقراطية نفسها، وقد برهن شرقنا المستبد، حيث تراكمت الألوان الرمادية، وغابت الدولة، وتشظّى المجتمع، كم كان ثمن تأجيل الإصلاح باهظاً لحظة حتمية الثورة، وكم كان تأجيل الديمقراطية سبباً في غياب الوعي بالحرية.
مع ذلك تبقى العودة إلى هيغل ضرورة معرفية ومنهجية، في لحظة غياب النظرية السياسية الشاملة، لمصلحة شعارات أيديولوجية لهويات طائفية، وعدم الاتفاق حول فكرة عن الحق جامعة، علّها تشكل منطلقاً لبحث إرهاب “الربيع العربي”، وإرهاب النظم السياسية في آن معاً.
ضفة ثالثة