صفحات الثقافة

الجثث الثقيلة/ عبد العزيز الحيص

 

كنت في المطار، ومعي جهازي المحمول. شعرت أنه أثقل من المعتاد. السبب أنه كان معطلا، وحملته مضطرا معي، لكي أصلحه في وقت لاحق. إحساسي الغريب أنه أصبح “ثقيلا” كان بسبب الشعور أنه جثة. الأشياء التي تفقد الروح تتحول إلى جثة، تصبح ثقيلة الوطأة، مع أنها لا تزال تحتفظ بذات شكلها وحجمها. الإنسان يكون إنساناً حين يبقى كعادته، يمور كذات حية في دوائر من الأجساد الحية أيضاً، جسده نفسه، عائلته، أصدقائه، عمله، ودولته التي يخدمها وتخدمه. يموت الإنسان ويتجمد، حين تفقد أيٌّ من هذه الدوائر روحها، وهو، بدوره، قد يلعب دورا مميتا في هذه الدوائر، حين يقوم بدور الجثة.

ربما لم تكن فكرتي عن الجهاز كجثة فكرة ذكية. يبدو أنها من جثث الأفكار التي لا تستحق النفخ ولا السقاية. لكنها قادتني، وأنا في الطائرة، إلى تأمل أشياء كثيرة، قد تموت في حياتنا! تموت الأشياء بجفاف الحياة عن خلاياها، كما يجف الحبر عن الطابعة، شيئاً فشيئاً.

الأشياء تموت عبر غلطة في “الزمان” أو “المكان”. المكان الخاطئ يجعل روحك لا ترافقك. أما الرؤية للزمن فهي رؤية جوهرية للوجود، تباينت عبر الفلسفات المختلفة. وللعرب رؤيتهم الخاصة للزمن، وهي لا تبشر بخير عموماً، كما هي عادة الأشياء التي تتناولها، وتحكم عليها “ذائقة” العرب. العرب أثقلهم التاريخ، وسحبهم للعيش فيه. أسباب الحروب والأزمات الداخلية لدينا قدمت من التاريخ، بما في ذلك أثرة الحاكم الفرد بالسلطة أبد الدهر. التاريخ ليس سوى فكرة مغلوطة أننا يجب أن نراكم الأفكار، ولا نفتتح مقابر لميتها، ولذا، هو مصدرنا الأول للجثث. الانتماء للحظة، وامتصاص نخاعها، والتخفف مما يكون خارجها، هو الحياة ببساطة. تترنم سيلفيا بلاث أن “كل لحظة هي حياة، وكل لحظة تمضي هي موت”.

ما الذي يجعل الأشياء تحيا أو تموت؛ هذا الموت “الرمزي” المرير. بالتأكيد، ليس كثرة أفكارنا، أو علمنا عنها، وليس طبائعنا وأوضاعنا الاجتماعية، ولا المال الذي لا ينفخ الروح في شيء!

” أسباب الحروب والأزمات الداخلية لدينا قدمت من التاريخ، بما في ذلك أثرة الحاكم الفرد بالسلطة أبد الدهر. التاريخ ليس سوى فكرة مغلوطة أننا يجب أن نراكم الأفكار، ولا نفتتح مقابر لميتها، ولذا، هو مصدرنا الأول للجثث”

إن الأشياء تحيا في أرواحنا وتموت عبر “الذائقة” والشعور. ما تلامسه أرواحنا، وما تخلطه بشغفها وإحساسها هو ما يكسب العمق والبقاء. لقد استمات جان جاك روسّو في كتابه “دين الفطرة”، ليثبت أن الوجود ليس إلا “الشعور”، وأن شعورنا سابق على الفكر. فالعلوم والأفكار تأتينا من الخارج، ولا قيمة لها، إلا إذا أضفنا إليها شعورنا، القادم من داخلنا. الضمير، أقدس ما لدى البشر، ليس سوى الشعور، بحسب روسّو. كيف نرقّي الذائقة في مراحل الانسداد العربي. في زمن الكهنوت الذي يفصل لنا ملبوسنا في كل القضايا، وزمن مناهج تعليم، تعتبر الكابح الأول لروح وعقول الصغار، وزمن الحكومات “الجثة” التي تميت البلد، وتميت حيويته ومدنيته. الإنسان، سيد هذه الأرض، يظل صغيراً متقاصراً غريباً عن الفهم ومعرفة أي شيء حي، وأي شيء ميت في حياته. و”بكل أرض يُظلم الغريب” كما قالت العرب. مفردة الكرس في اللغة تشير إلى التجميع، وما تراكم فوق بعضه. ومنه الكرسي، وهذا أورث لدى العرب لوثة تجميع الأشياء، وتركيزها تحت ظل السلطة.

العرب نظامهم الاجتماعي والسياسي نظام “أبوي”، يخلق ثقوباً سوداء تجمد الحياة في كل ما عداها. ومبنى السلطة لديهم شاهق، تصغر بجواره كل عمارة المدينة. حين زار الفيلسوف السياسي الفرنسي، دوتوكفيل، الأميركيين قبل قرنين، قال إنه يحسدهم، لأن السلطة في مجتمعهم غير ظاهرة، بل تتمدد بشكل أفقي، ولا تتكدس بشكل عمودي، كما هي لدى بقية الأمم الأخرى. الذائقة سابقة على العلم والفكر. أعطني مجتمعاً ترقّت ذائقته وذوقه (بالمفهوم الاجتماعي)، وسوف يعطيك من نفسه كل الفكر والعمل والمرونة الاجتماعية التي تسعد بها أي أمة. الغرب كمثال، ترقت ذائقتهم قبل قرن من تنويرهم، ولولا هذا لما أتى ذاك. يذكر فونتنيل، مؤرخ عصر النهضة، أنه “عندما ابتدأت العلوم والصناعات، تولد من جديد في أوروبا بعد فترة همجية طويلة، كانت الفصاحة والشعر والرسم وفن العمارة قد سبقتها. فكانت أول من خرج من الظلمات، وأما العلوم الرياضية والفيزيائية، فلم تنهض إلا بعد قرن من نهوض الآداب والفنون”.

شكراً لعالم الاجتماع، بيير بورديو، والذي ذكر في أعظم أعماله المكتوبة “تمييز”، أن “الذائقة” أخطر شيء في المجتمعات. وهذا واضح، فحين تفسد الذائقة، ستفسد كل المعاني والقيم التي تتناولها هذه الذائقة. الأشياء ذات القيمة العليا، من الممكن أَن تصبح ذات قيمة معكوسة، حين تلامسها ذائقة رديئة، فالحرية قد تصبح دماراً، والفن خطيئة، والتغير نكسة… إلخ. إن شبكة الفكر والعلاقات المفاهيمية تحتاج دوماً إلى ذائقة رفيعة، تساعد على استخلاص الجانب المضيء والفاعل.

كيف نطمح إلى حياة ثرية حقيقية، والأشياء تموت في حياتنا كل يوم. تموت لأن الإنسان العادي، أنا وأنت، اختار الغياب. اختار أن يخفي رأيه ويتجاهل شعوره. أخبروه أنه لا يساوي شيئا فصدقهم. إننا نعيش حياة لا يصدق ظاهرها باطنها، وهذا موت، وعلامة حضور الجثث في غير أوانها.

قال المعرّي، وفي قوله كأنه يلخص حالنا اليوم:

على الذمّ بتْنا مُجمِعين وحالُنا * * منَ الرّعبِ حالُ المُجمعين على الشّكرِ

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى