الجماعات المقاتلة: مرايا الفاشية ومصائرها
عزيز تبسي
-1-
ساهمت الطغمة العسكرية في تسهيل إنطلاق ثلاث حالات عسكرية فاعلة للسيطرة على سيرورة الإنتفاضة الشعبية الثورية وإحتجاز فاعليتها وتبديدأثرها إن أمكن بصراعات فرعية،وهي بمثابة مصدّات أو متاريس دفاعية عن نواتها الحربية الصلبة ومراكزها العصبية،إثنان منهما ثمرة لإتفاقات غير مرئية بذاتها ومرئية بأثرها :إتفاق مع حزب العمال الكردستاني لإطلاق يديه في الأماكن ذات الأغلبية الكردية مما دفعه لنقل مجموعات مدربة من مقاتليه من المعسكرات العراقية والتركية إلى سوريا والعمل على تجنيد شباب وفتيات من قاعدته السياسية وإخضاعهم لدورات تدريب عسكري في معسكرات نشرت صور بعضها المواقع الألكترونية في أطراف القامشلي وعفرين….لتتوسع فاعليته تدريجياً بإدارة حواجز العبور إلى المناطق ذات الأغلبية الكردية،وتمكينه من السيطرة على المواد التموينية وتوزيعها،وإنشاء مدارس لتعليم اللغة الكردية،وتحويل أبنية عامة إلى مراكز تحقيق وسجون خاصة….والأهم من ذلك حصار آثار الإنتفاضة في المناطق التي باتت تحت سيطرته والحؤول دون التمدد إليها ومعاقبة كل من ينضم إليها ،وإعادته التذكير من حين لآخر بالوضع غير المحسوم لحقوق الشعب الكردي في سوريا،وأن المعركة الأساسية للشعب الكردي تبقى مع السلطات التركية حيث أكبر توضع عددي للأكراد.
وإطلاق سراح مجموعات من المقاتلين السوريين والعرب،بموجب قرارات عفو خاصة، المعتقلين على ذمة الملف الجهادي العراقي وفتح الإسلام وسواهما وتسهيل دخولهم إلى الجغرافيا العسكرية للإنتفاضة،وتكفلوا بخبراتهم وعلاقاتهم غير المنقطعة في السجون-بعضهم كان بحوذته بتسهيل من الأجهزة الأمنية وإدارة السجن ثلاث أجهزة إتصال وهو في سجنه منها ما هو خاص بشبكة الثريا المرتبطة بالأقمار الصناعية والمحظور إستخدامها على السوريين-مع القواعد الجهادية في العراق ولبنان،لتأمين وصول مجموعات مقاتلة من الدول العربية إلى ساحة جهادية جديدة.وهاتين القوتين إعتبرتا ممارستهما السياسية والعسكرية جزء من الإنتفاضة الشعبية وأنهما مشاركتان بها وفق قناعاتهما وبرنامجهما.
الحالة الثالثة من الجنود والضباط المنشقين وأبناء القرى من الفلاحين والعمال المياومين والملتحقين بهم من طلبة الجامعات والمناضلين الثوريين،كانت ولم تزل نتيجة موضوعية للقمع الوحشي والجنون الفاشي البهائمي، هم من المناضلين السلميين الذين دفعتهم الشروط الفاشية القسرية لحماية أهلهم وممتلكاتهم وبذل حيواتهم في سبيل ذلك،وفق إمكانات محدودة من حيث التسليح والتدريب وتوفير المعدات والذخائر،وهذا التشكيل بعموم التسميات المتداولة عنه،مكون عضوي من الإنتفاضة في أفقها الثوري التحرري،ولا يمكن فصله عنها سوى بنوعية المهمات التي باتت شكلاً من تقسيم العمل الثوري في الشروط اللامركزية التي تحكمها.
-2-
تجرأت عموم الجماعات السياسية والمواقع الألكترونية التي تروج بتنويعات متعددة لخطاب الإنتفاضة على حزب العمال الكردستاني وجماعاته المتجددة بإسم الإتحاد الديموقراطي الكردستاني وهي محقة،في كونها تنتقد حزباً سياسياً يختار اللحظة الأكثر حسماً في النضال الشعبي الثوري للشعب السوري ليقايض كصيرفي ومرابي، بقضية عادلة لشعب أساسها الحرية وحقه في تقرير مصيره، على دور الشرطي الفاشي الصغير في دراما الإنتفاضة الشعبية الثورية،ولكون هذا الحزب قد وقع في زمن مضى وما يزال ضحية لفكره السياسي الإنعزالي وممارساته الفاشية السافرة رغم الأقنعة الأيديولوجية التي يتستر بها من لفظية يسارية إنتقائية،لمقايضة قضيته التي باتت إفتراضية مع عموم أنظمة الحكم المحيطة بتركيا،ولم يتمكن هذا الحزب في تاريخه الممتد إلى أكثر من أربعة عقود من إقامة أي تحالف مع القوى الثورية في كل الساحات التي يعمل بها،على العكس من ذلك ناصب معظمها العداء العلني، والعنفي إن مكنته الشروط من ذلك.وكأن في ممارسة هذا الحزب شكل مبتكر من العقابية الإستبدادية الجديدة التي تتكفل بإذاء الجماعات الثورية في البلدان الأربعة حيث التواجد التاريخي للشعب الكردي.
لكنها بالمقابل صمتت عن جبهة النصرة وبعض الجماعات التي يشكل التكفير ركناً عضوياً في ممارستها.والمناضلين الثوريين إشتبهوا من وقت بهذه الجبهة وعملياتها التي ذكرت بنشاطات لجماعات جهادية أخرى في زمن سابق برز فيها إسم أبو القعقاع وغرباء الشام وعموم التسهيلات الأمنية التي هبطت فجأة أمام من يريد الجهاد في العراق،وتصعيدها اللفظي وإنفراديتها،ومن إلتقاهم بمصادفة قال: أنهم يتمتعون بإمكانات مادية وعسكرية من عتاد وذخائر ماتفتقده معظم الكتائب المقاتلة،ولمس ميلهم للعزلة والسرية في عصر الثورة المفتوحة على الهواء الطلق من الحوارات والنقاش الثرية لا الإنقلابات التآمرية المغلقة،وإنتبه لتواجد مقاتلين من جنسيات عربية وغيرها في صفوفهم،وتبقى العزيمة الكفاحية العالية والرغبة بالتضحية الصفة السائدة عند مقاتليها…والإشتباه السائد هو علاقة بعض قياداتهم بالمخابرات السورية بشكل مباشر أو عبر حلفائها التاريخيين من التنظيمات الإسلامية:حركة حماس-منظمة الجهاد-حزب الله-الأحباش وسواهم ،ودخول هذا التنظيم في شبكات إرهاب دولية عاجز عن السيطرة عليها وتبصر مساراتها وأهدافها،مما يسهل الوقوع في أحابيل ما تخطط له.ولطالما سارعت هذه الجماعة لتبني عمليات عسكرية تبين بعد وقت قصير أنها من فعل الطغمة العسكرية وتخطيط ضباطها من جهة توقيتها الذي تلازم على الدوام مع مبادرة سياسية عربية أو دولية أو زيارة مبعوثين دوليين أو عرب،وأنها قررت التغريد خارج سرب الإنتفاضة الشعبية بإنتاج خطاب إنعزالي فاشي بعموم تكويناته الفكرية وإستهدافاته السياسية،ولا يحمل أي قيمة من قيم الإنتفاضة الشعبية الثورية.
-3-
في حمأة جنون العدوانية الفاشية الحربية،والتباينات في توجهات القوى الميدانية للإنتفاضة،تشق بعض الجماعات طريقها الخاص،في تغييب للبوصلة الثورية،والمناضلون الثوريون يفقدون القدرة تدريجياً في جدوى إعتماد خطة سد الذرائع،بعد الصمت عن حصار بلدتي الزهراء ونبل الشيعيتين في شمال حلب والذي تجاوز الأشهر،وعن السرقات المهولة لمستودعات المنطقة الحرة شمال حلب قرب بلدة المسلمية والتي قدرت بمئات الملايين،وعن الخوات التي يدفعها الصناعيون بصمت في منطقة الشيخ نجار الصناعية وسواها لحواجز الجيش الحر،حين إخراج بضائعهم من مستودعات مصانعهم،وعن الإيذاءات المتعددة للمنشآت الحكومية،وعن العمليات المنظمة لسرقة الآثار،وعن السلبطة على بيوت ومزارع المواطنين في الأرياف والمدينة.
وعن تحول مهربين معروفين إلى قادة كتائب في الجيش الحر في عندان “أحمد عفش”وإعزاز”عمار داديخي”.وعن الخطف بغرض طلب الفديات الكبيرة والذي بات يتوسع في مناطق تقع تحت سيطرة بعض كتائبه،وعن تجاوز نسبة الشبيحة السابقين وربما مزدوجي الإنتماء حتى اليوم، في بعض الكتائب لما يتجاوز أغلبيتها،وعن توسيع الكتائب المقاتلة دون تدقيق وتبصر لتشمل بينهم الزعران ومدمني المخدرات واللصوص وأصحاب السوابق واللواحق الجنائية….وعن كون الأحياء المحررة هي بالحقيقة أحياء بلا سكان،تركها معظم سكانها وإلتحقوا بأماكن المهجرين أو غادروا المدينة…….إنطلق الشعب بنوع من الطمأنينة للجيش الحر بكونه الحامي للكفاح السلمي وليس المحتمي بالسكان المسالمين والمتعاطفين معه ومع خيارات الإنتفاضة الشعبية الثورية والتي هي إنتفاضاتهم قبل سواهم.
-4-
تم غض البصر عن هذه الحقائق،لتكثيف النيران على الهدف المركزي للإنتفاضة،مشفوعين بقوة الإعتماد على فعالية مصول القوة الثورية الدافعة وقدرتها على تنظيف الِسيّر القبيحة والتواريخ الشائنة والممارسات التي تحمل الإرث الفاشي بعموم تلاوينه.تجاهل حقيقة أنه في مدينة حلب تتركز أكبر مافيات الجريمة المنظمة التي تتمتع بحماية فائقة من السلطة وتحت إمكاناتها قدرات مالية مهولة عملت ولا تزال في الأنشطة الأكثر ربحية الدخان والمخدرات والأدوية والأسلحة…..وأن في المدينة أحياء من الهوامش لا يمكن السير فيها ليلاً قبل 18 آذار2011 بسبب من حوادث الإعتداء والتشليح والإغتصاب،وكان من أقدار كتائب الجيش الحر أن ينشط فيها،وبات الكثير من قواعد المافيات جزءً من قواعده.
أمِل الشعب ولم يزل في الإنتفاضات الشعبية الثورية ودور العزيمة الكفاحية التي تتمخض عنها أن تساهم في تحقق المقدمات التاريخية لتحرر الصراع من مملوكيته التي تحكمت بالصراعات السياسية لقرون ماضية،وها إن الشعب الأعزل يجد نفسه عاجزاً عن التدخل في مجرياته،كأنه أسير حتمية إجتماعية-تاريخية لاتنفتح إلا لتغلق من جديد.لقد هيئت الطغمة العسكرية ساحة محددة للصراع السياسي وطردت منه بالإعتقال والقتل والترهيب كل المناضلين الممكنين والمرشحين للدخول به،ليقع أسير الحتمية العسكرية وشروطها الثلاثة المتناسلة من بعضها:العسكرة-الأسلمة العمياء-التبعية.
حلب تشرين الأول2012