الجمهور…الحاجة إلى ديمقراطية جديدة/ مولاي ارشيد أحمدو
بدأ العالم بالتشكّل من جديد بعد نهاية الحربين العالميتين وسقوط المعسكر الاشتراكي، مما جعل الكثير من المثقفين والمفكرين يظنون أن العالم يتجه نحو نهاية للتاريخ باستقراره على الديمقراطية الليبرالية، فعهد الكولونياليات والأنظمة الاستبدادية انتهى بالنسبة لهم. ورغم هذا التفاؤل الكبير، ظهرت أصوات معارضة لهذا النمط من التفكير، ومن أكثرها جدّة وأهمية مؤلفات الفيلسوفين الماركسيين مايكل هارت وأنطونيو نيغري خاصة في كتابيهما المشتركين “الإمبراطورية” والذي أُعطي من قبل البعض صفة البيان الشيوعي الجديد للقرن الحادي والعشرين، ثم كتاب “الجمهور: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية”، ويكمن الاهتمام الأكبر لهذين الفيلسوفين بالإمبراطورية الجديدة التي احتلتها العولمة في العالم.
ومصطلح الإمبراطورية يأتي بديلاً عند الفيلسوفين لمصطلح الإمبريالية، فبالنسبة لهما صاحبت عولمة السوق وعولمة دورات الإنتاج نظاما عالميّا جديدا، أو ما اعتبراه “ثوباً عالمياً جديداً” للسيادة، وبعبارة أكثر اختصاراً بداية للإمبراطورية الجديدة، فلم يتهيأ الانتقال إلى هذه الإمبراطورية الجديدة إلا باحتضار الشكل الحديث للسيّادة. لكن ما يجعل الإمبراطورية مختلفة عن الإمبريالية هو كونها لا تتميّز بوجود مركز إقليمي للسلطة أو حدود جغرافية ثابتة ومعروفة، فهي طريقة في الحكم لا مركزية، تمدّ يديها إلى كل شيء من الهويّات، هجينة إلى المبادلات التجارية الاقتصادية، منتجةً بذلك “قوس قزح إمبراطوري”، لتصبح بذلك هذه الإمبراطورية ذاتاً سياسية تفرض نفسها كمسؤولة عن تنظيم المبادلات العالمية وواسمة نفسها بصفة السلطة السيادية التي لها الحق في حكم العالم.
الإمبراطورية إذن، تحكم عالمنا، لكنه ليس بالعالم المثالي، فهو ممزّق بالحروب والانقسامات والثورات، وتبدو الحرب كحالة لا بدّ منها في ظل الترويج الكبير لعصر العولمة المسلح، مما يجعل من الديمقراطية حلماً بعيد المنال، فالعقبة الكبرى في وجه الديمقراطية هي الحروب، لذا ظلت دائماً “مشروعاً غير مكتمل في الحقبة الحديثة بكل أشكالها القومية والمحلية”، وبدلاً من أن تكون الديمقراطية هي الأداة التي تحكم، أصبحت الحرب هي من يحكم، ووجودها لم يعد هو حالة الاستثناء فقد صارت حالة عامة، قد تحصل هدنة هنا أو وقف للعداوات هناك لكن إمكانية العنف والحرب تظل دائماً قائمة وثابتة، والكل يظل جاهزاً لها في أي وقت.
يسعى الكتاب إلى القول إن الديمقراطية حتى ولو بدت نائية وحلماً بعيد المنال، إلا أنها ضرورية لعالمنا اليوم، فهي المخرج الوحيد من حالة الحرب الدائمة، ويهدف إلى شرح الأسس الفكرية التي يمكن أن يقوم عليها أي مشروع للديمقراطية. ولأن الكتاب فلسفيّ بالدرجة الأولى فلا يسعى إلى تقديم حلول ناجعة وخطوات منهجية لما يجب عمله لتجنب الحرب، والبدء ببناء مجتمع عالمي ديمقراطي. إن مهمة الفيلسوفين الأولى هيّ إعادة التفكير في المفاهيم الأساسية التي ظلت الحضارة الإنسانية تستنبطها لبناء المشاريع السياسية، مفاهيم من قبيل السلطة، والديمقراطية، والجمهور، والمقاومة.
ومن بين كل تلك المفاهيم سوف يركّز المؤلفان على مفهوم الجمهور، فهو البديل الموجود الآن بقوة داخل الإمبراطورية لخلق شبكة مفتوحة يتم فيها التعبير بحرية ومساواة، شبكة قادرة على إعطاء فرصا متساوية للجميع، من أجل خلق عالم قابل لأن يعيش فيه الجميع عيشاً مشتركاً. وبالنسبة لأنطونيو نيغري ومايكل هارت فالجمهور مختلف عن بقية المفاهيم الأخرى الاجتماعية كالشعب والكتل البشرية والطبقة العاملة. فإذا كان الشعب يتميّز بكونه كتلة واحدة تذوب فيها كل أنواع الفروق، فالجمهور عكس ذلك، إنه متعدّد ومؤلف من فروقات داخلية كثيرة ولا يمكن إرجاعه إلى وحدة أو هُوية واحدة، فالجمهور مكوّن من جميع الأشكال المتنوعة للإنتاج الاجتماعي، ويمكن اعتبار الإنترنت كأبرز مثال يعطي صورة جيّدة وأولية لنموذج الجمهور، فجميع نقاط الالتقاء في الإنترنت تظل مختلفة لكنها موصولة بشبكة واحدة، كما أن حدود هذه الشبكة الخارجية مفتوحة بحيث يمكن لأي قادم إضافة عدد من نقاط الالتقاء لا حصر لها.
يمكن تحديد مدى إسهام الجمهور في إقامة أي إمكانية للديمقراطية من خلال ميله للتنظيم السياسي والاقتصادي، ولعل هذا الميل للديمقراطية المتمثل في المقاومات والثورات وكل أنواع التمرد هو أكبر برهان على هذا الإسهام. وسيحاول الكتاب تقديم عدة أمثلة طيلة فصول الكتاب على هذا الميل ومدى تغيّر أشكال التمرد والثورة خلال القرن العشرين من البنى العسكرية التقليدية، إلى منظمات غوريلا، وإلى أشكال أخرى أكثر توزيعاً وتعقيداً.
فحركات التحرر والمقاومة في القرن الماضي لم يكن محرّكها الأساسي هو الصراع ضد الفقر والبؤس ولقمة العيش فحسب، لقد كانت الرغبة الحقيقية في الديمقراطية محرّكاً أساسياً لهذه الحركات، فحلم الديمقراطية هو البؤرة التي انطلقت منها كل الثورات العظيمة بما فيها ثورات الحداثة وإن كان حلماً لم يتحقق بعد، وما يوفره الجمهور اليوم هو إمكانية جديدة للصراع من أجل تحقيق هذا الحلم، صراع بوسائل جديدة وإنتاجية سياسية – حيوية لإقامة قوى جديدة للنضال من أجل تحقيق ذلك الحلم. صحيح أن ذلك الصراع صراع طبقي كأي صراع في تاريخ المجتمع الإنساني، لكنه أيضاً صراع لأجل قيام دول، ومن هنا الهجوم الحاد للمؤلفين على كل الدول باعتبارها دول غير ديمقراطية، بل أصبحت هذه الدول مؤسسات حربية فقط، لذا يجب الدعوة إلى القضاء على كل هذه الدول وإقامة عالم لا يقيم فيه إلا الجمهور، عالم “مقطوع الرأس” وفقط ذلك العالم هو ما “يجعل قيام الديمقراطية ممكناً لأول مرة”. ففي عالم يمجّد الحرب ستظل الديمقراطية معطًّلة، وكل وجود أو إمكان لقيام ديمقراطيات يتم وأده والرد عليه بالحرب من قبل القوى المسيطرة، فالحرب هنا وسيلة احتواء وليست استثناء، أي أنها أصبحت هي التعريف لأساس النظام السياسي، وليست وسيلة تستعمل في حالات محدّدة للدفاع عن السيادة.
ما يحتاجه الجمهور في مقاومته هو ابتكار أسلحة جديدة في سبيل إيصال المجتمع إلى الديمقراطية المنشودة، أسلحة لا تكتفي بالتدمير فقط وإنما تبني بعد التدمير، أي أن تشكّل قوّة تكوينية، قوّة قادرة على دحر جيوش الإمبراطورية، وهذه القوة ليست بالضرورة قوة سياسية منفصلة عن المجال الاجتماعي القائم، وليست فقط كما حاول كارل شميت وغيره أن يظهروها مجرّد تعبير عنفيّ محض عن القوة، فهي مختلفة بالكامل عن ذلك، إنها قرار يتم اتخاذه كنتيجة لعلاقات الإنتاج الاجتماعي العاطفية في المؤسسة المستقبلية لهذا المجتمع الجديد، فدور هذه القوّة هو الدفاع عن التقدّم التاريخي نحو الانعتاق والتحرّر، إن هذه القوة أو هذا الفعل يسميها المؤلفان بفعل “المحبة”، بالرغم من أن هذا المفهوم لم يعد يستخدم كمفهوم سياسيّ إلا أنه هو ما تحتاج إليه المجتمعات لكي تدرك القوّة التكوينية للجمهور، فهو مفهوم يتخطى حاجز الخصوصية والحصرية للأسرة الصغيرة ليصير فعلاً عاماً ومشتركاً. فالحاجة إلى إيصال هذا المعنى المادي والسياسي للمحبة هو أهمّ خطوة في سبيل تكوين أساس للمشاريع السياسية ولبناء مجتمع جديد، “فعدم المحبة عدم الوجود”.
إن الزمن الذي نعيش فيه زمن يمجّد الموت ومحاط بالأهوال من كل مكان، ولم يكن هدف الكتاب الإعلان عن قدوم زمن الخلاص أو القرار السياسي الثوري الذي سيجلب الديمقراطية للعالم، إنما الهدف الأقصى هو إعلان ضرورة دخول الجمهور في نقاشات سياسية جمعية حقيقية، فإن كان الحاضر ميتاً فإن المستقبل ما يزال حياَ وما يتوجب علينا فعله لإبقائه حياً وصالحاً هو القيام بالفعل السياسي الحقيقي أي فعل المحبة.
(كاتب موريتاني)
العربي الجديد