الجيش والسياسة – إشكاليات نظرية ونماذج عربية.. لعزمي بشارة
في كتابه الجيش والسياسة – إشكاليات نظرية ونماذج عربية، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يعالج عزمي بشارة نظريًا بعض العناصر الرئيسة في إشكالية الجيش والسياسة، انطلاقًا من واقع البلدان العربية، ويقارب تحليليًا نماذج عربيةً، استنادًا إلى التجربة العينيّة، ويفحص نظريًا مقولات رائجةً من مصادر أكاديمية غربية، بناءً على التجربة. كما يبحث في العلاقة بين الجيش والسياسة انطلاقًا من أنْ لا جدارَ فاصلًا بين الجيش والسياسة بحكم تعريفهما؛ إذ يتدخل الجيش في الحكم ويتحول إلى قوّة قمعية، تدافع عن النظام القائم، أي عن سلطته وامتيازاته.
جيش نظامي
ألّف بشارة كتابه المذكور من ثلاثة فصول. ركّز في الأول، الجيش والحكم عربيًا: إشكاليات نظرية، على تطلّع الجيش إلى السياسة بالمعنى الضيق، “أي ممارسة الحكم والاستيلاء عليه”، مميزًا بين “الثورة” و”الانقلاب” قبل أن يقف على تجارب أدّى العسكر فيها دورًا مهمًا في عملية التغيير السياسي والاجتماعي.
بدأ بشارة بإيراد تحديدات لازمة، أولها تشديده على أنّ الجيش هو الجيش النظامي حول نواة من المحترفين المتفرغين للحياة العسكرية في زمني السلم والحرب، فهو لا يقصد القوى غير النظامية المسلحة في خدمة عقيدة أو طبقة أو قضية أو حزب، ولا “فيالق فرسان يلبّون الدعوة إلى الخدمة العسكرية، ومعهم جنودهم، وينضمّون إلى حملة عسكرية بناءً على طلب الملك أو الإمبراطور، ويديرون إقطاعيةً في حياتهم العادية، أو يَجبون الضرائب للسلطان، مع أنّ هذه الأخيرة سُمّيت جيوشًا في الماضي”. ثاني هذه التحديدات هو التمييز بين الاحتراف والمهنية في تحديد سلك الضباط. وثالثها أنّه ما من جيشٍ بعيد عن السياسة بحكم تعريفه، من منطلق تطلّع الجيش إلى السياسة بمعناها الضيق، “أي ممارسة الحكم والاستيلاء عليه أو المشاركة فيه أو اتخاذ القرار في شأنه، وهي ليست قائمةً في الدول الديمقراطية”.
الثكنة دولةً
ينتقل بشارة في هذا الفصل إلى مسألة الانقلابات العسكرية متسائلًا عن توقّف الانقلابات في العقود الأخيرة في دول عُدّت بلدانَ انقلاباتٍ، مثل سورية والعراق. وإذ يقابل بين الانقلاب والثورة، يقول: “من ناحية الديمقراطية والتحول الديمقراطي، لم يثبت أنّ الثورة الشعبية أكثر كفاءةً للوصول بمجتمع ما نحو الديمقراطية، من الإصلاحات من أعلى، سواء أقامت بها قيادة عسكرية بعد انقلاب أم قيادة سياسية، أم كلتاهما سويّةً. فالثورات من زاوية نظر الديمقراطية مخاطرة كبرى يمكن أن تقود إلى فوضى أو إلى أنظمة شمولية، وحتى إذا انتهى بها المطاف إلى الديمقراطية، فهذه لا تتولد من الثورة مباشرةً، بل بعد سلسلة إصلاحات دستورية وقانونية وحوارات ومساومات سياسية تتلوها. الثورة تغير النظام، وهذا لا يغني عن دور الإصلاح في بناء الديمقراطية بعد تسلّم السلطة”.
الوهم المدني
يختم المؤلف فصله الأول مسلطًا الضوء على الجيش بوصفه وسيلةً للترقي الاجتماعي – الاقتصادي في مجتمعات فلاحية، إذ “أصبحت العسكرية في الدول النامية والمستقلة حديثًا المسار الرئيس لتقدّم أبناء الفلاحين وأصحاب المهن صعودًا على السلم الاجتماعي، وذلك بعد أن كانت البنى التقليدية وثقافتها تحدد مسار حياتهم وتقرر مصائرهم سلفًا وتمنعهم من تغيير مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية”.
عسكرة وتطييف
في الفصل الثاني، فشل بوتقة الصهر العسكرية وبروز الولاءات ما قبل الوطنية في الجيش – الحالة السورية، يدرس بشارة مراحل تطييف الجيش وعسكرة الحالة الطائفية في سورية: مرحلة الاحتلال والانتداب الفرنسي على سورية حتى الجلاء التي اتّسمت ببروز الوحدات الإثنية الطائفية والأقوامية في داخل الجيش، كما يدرس مرحلة الكتل العسكرية العقائدية والجهوية المتصارعة التي انقسم فيها التنظيم العسكري العقائدي إلى كتلتين كبيرين؛ إحداهما تحريرية، نسبةً إلى حركة التحرير العربي التي أسّسها أديب الشيشكلي، والأخرى اشتراكية، وقد كان أكرم الحوراني أبرز الفاعلين فيها، يضاف إليهما الجناح العسكري للحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة العقيد غسان جديد، ومجموعة الضباط اليساريين المتأثرين بالحزب الشيوعي السوري. كما انبثقت كتلة ثالثة كبيرة هي كتلة “الضباط الشوام” التي التفّت حول العقيد عدنان المالكي، ثمّ المرحلة الأولى للجيش العقائدي، وقد تمّ فيها تبعيث الجيش وفق عقيدة رسمية قومية يسارية جديدة، وكان الضباط المهنيون الذين رفضوا الانضواء الحزبي رفاقَ سلاحٍ لا رفاقَ عقيدةٍ، وفُكِّكت مجموعاتهم سريعًا أو أُحيلت على مواقع مكتبية وتدريبية هامشية، ثمّ المرحلة الثانية للجيش العقائدي وتحوّلاته في أثناء إعادة بناء الجيش السوري، وذلك بعد حرب 1973، وبروز رفعت الأسد وجيشه الخاص ضمن الجيش السوري، ثمّ إخفاق انقلابه في أواخر عام 1982؛ وأخيرًا مرحلة “قائدنا إلى الأبد … الأمين حافظ الأسد”، أي مرحلة توقيع العسكر ولاءهم لحافظ الأسد بدمهم، وإحداث الحرس الجمهوري.
خزان النظام والثورة
يتناول بشارة القاعدة الاجتماعية للبعث السوري، فيردّ عملية الترييف التي حصلت إلى استناد البعث في انقلابه عام 1963 إلى نخبة عسكرية تنتمي في جذورها إلى الريف السوري، تجمع بين أفرادها توجّهات ريفية متشابهة، “وكان لانتماء ضباط اللجنة العسكرية إلى طبقة فلاحية زراعية (ريفية) آثارٌ غير محدودة في المجتمع السوري؛ إذ بدأت طبقة الفلاحين تتوسع ويزداد تأثيرها وترتقي اقتصاديًا واجتماعيًا بخلاف العهود السابقة، لتُوازِن طبقة سكان المدن، وتتحكّم بها في مراحل لاحقة. وبالطبع اتبعت اللجنة العسكرية سياسات اقتصادية واجتماعية لمصلحة الريف”.
يقول المؤلف إنّ أشدّ الحركات المقاوِمة للنظام السوري هي التي شكّلت في الماضي القواعد التاريخية للبعث، “إذ شارك في الثورة عشرات الآلاف من العمال والفلاحين والمثقفين الذين كانوا أعضاءً في حزب البعث. ولوحظ ذلك في محافظة درعا التي كانت تُعتبَر، باللغة السياسية السورية الدارجة، خزّان البعث، كذلك شاعت طرفة تقول إنّ معظم الأنصار والأعضاء العاملين في فرع إدلب للحزب هم محرّكو الثورة ومؤجّجوها”.
الذئاب الشابة
يختم بشارة هذا الفصل بتحليلٍ لصعود فئة “الذئاب الشابة” ونظام “التشبيح والتشليح” في سورية، من أبناء الأغنياء القدامى والجدد والنخبة الأمنية والسياسية، فيقول إنّ “هذه الشريحة الاجتماعية – الاقتصادية المتداخلة بالأمن والسياسة والمستفيدة من النظام، والمستفيدين مباشرةً منها، هي نواة النظام الصلبة التي تشمل الأمن والأسرة الحاكمة. ومن نافل القول إنّ هذه الفئة حرصت على علاقات ممتازة بدول الخليج والدول الغربية وتركيا، وأيدت عملية السلام مع إسرائيل. وللحفاظ على مصالحها، فإنها لا تولي أيّ اعتبار لقضايا مثل المقاومة والممانعة وقضية فلسطين. فالنظام بالنسبة إليها ليس ممانعةً ولا مقاومةً ولا حتى طائفةً، بل مصالح اقتصادية ونفوذ اجتماعي واقتصادي ونفوذ أمني وسياسي في خدمة هذه المصالح. ومن الواضح أنها تفضّل نمط حياة ليبراليًا غربيًا ومنفتحًا في سورية، لكنها كانت مستعدةً دائمًا لأن تساير اعتبارات النظام، وأن تكتفي بنمط حياة يُشكّل نوعًا من الثقافة الفرعية الخاصة بها في بيوتها وفنادقها ومرافقها التي أتاحها النظام في ظل حكم مَن ينتمي إليها أكثر من انتمائه إلى الحزب، وهو بشار الأسد”.
مراحل مصرية
يعرض بشارة في الفصل الثالث، تحولات الجيش المصري، ثلاث مراحل مرّ بها تطور المؤسسة العسكرية في مصر وعلاقتها بالسياسة والمجتمع: هيمنة العسكر وتداخل سلطات الجيش والرئيس، وخضوع الجيش لمنصب الرئاسة، والصفقة التاريخية واستقلالية الجيش.
في المرحلة الأولى، بحسب بشارة، لم يهدف عبد الناصر إلى إقامة دكتاتورية عسكرية، “بل أراد حكمًا جمهوريًا شعبويًا مسنودًا من الجيش. ولأنه أدرك من تجربته الخاصة أهمية الجيش السياسية ودوره الانقلابي المحتمل، رغب في إبعاد الجيش عن التدخل المباشر في السياسة. أمّا الضباط الذين انتقلوا إلى العمل السياسي من مجموعة الضباط الأحرار، فطَلَب منهم خلع بزاتهم العسكرية”.
لكنّ عبد الناصر لم يرغب في عودة كاملة للجيش إلى الثكنات وإقامة حكم مدني تمثيلي. وهذا الموقف يلخص التناقض التاريخي الرئيس لعلاقة الجيش بالسياسة في مصر منذ ثورة تموز/ يوليو 1952، وقد انعكس في شكل صراعات قادت العسكريين السابقين في الحكم إلى محاولة تأسيس قواعد شعبية من خارج الجيش، تشبه الحزب السياسي للنظام.
خضوع للرئاسة
في المرحلة الثانية، صار وزير الحربية قائدًا عامًّا للقوات المسلحة، “فلا هو موظف عند القائد العامّ، ولا هو مسؤول سياسي يخضع له القائد العامّ، بل هو القائد العامّ نفسه، وهو أعلى مرتبةً من رئيس الأركان في التراتبية العسكرية”.
تكوّنت قيادة الجيش الجديدة من الجيل الثاني من الضباط الذين لم يكونوا من الضباط الأحرار، بل كانوا ضباطًا مهنيين، لا ضباطًا ثوريين. كما أحكم الرئيس سيطرته على الجيش وصارت ترقية الضباط – منذ عام 1968 – من رتبة عقيد فما فوق من صلاحيات الرئيس، وصار وزير الحربية ممثّله عمليًا لدى الجيش. وأُنشئ مجلس الدفاع الوطني، وقوات الأمن المركزي التي تحولت جيشًا خاصًا بعد وفاة عبد الناصر وفي عهد أنور السادات، الذي أُخضع الجيش لإمرة منصب الرئاسة وحيّده عن الصراعات السياسية، فـ “نضج التحوّل من دولة عسكر إلى دولة أمنٍ، واكتمل هذا في عهد مبارك” بحسب المؤلف.
يقول بشارة إنّ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 كانت الحرب التي أعادت إلى الجيش المصري هيبةً فقدها بهزيمة عام 1967، من دون أن يعود فاعلًا مباشرًا في السياسة، وهي “الحرب التي استغلها السادات للنأي عن العرب باتجاه التحالف مع الولايات المتحدة، ليكون ذلك جزءًا من الثمن الذي دفعته مصر لتحقيق السلام مع إسرائيل”. وساهمت التغييرات التي فرضتها معاهدة كامب دايفيد في إضعاف الجيش ومكانته.
شبه حكم ذاتي
في المرحلة الثالثة، دفعت التطورات تجاه إقصاء الجيش عن المجال السياسي، حتى برزت حاجة النظام الماسة إلى تدخله لقمع تمرّد الأمن المركزي عام 1986. وشهد الإعلام المصري نقاشًا حاميَ الوطيس في شأن دور الجيش، بدأ بمطلب خفْض الميزانية العسكرية وتحديد دور الجيش الاقتصادي، ووصل حدًّا تدخّل فيه حسني مبارك مدّعيًا أنّ خفض عدد أفراد الجيش ودوره “يعني أن تبقى إسرائيل القوة الوحيدة المتفوقة في الإقليم”.
في عهد مبارك، جرت تسوية كبرى صار بموجبها وزير الدفاع الرجل القوي داخل الجيش فحسب. ونشأ كيان سياسي للضباط غايته الحفاظ على امتيازات الجيش واقتصاده ومواقع ضباطه المتقاعدين الذين يُعينون في مناصب رسمية، في حين تُرك لمبارك إدارة البلاد بالتعاون مع الاستخبارات والأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية.
يختم بشارة الفصل بالقول إنّ كثيرين أخطؤوا بعدم توقعهم حدوث ثورة في مصر، حين اعتقدوا أنّ الجيش يحكم مصر: “والحقيقة أنّ الجيش كان مقصًى عن حكم مصر عشية ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، لكنه كان يتمتع بحكم ذاتي. ولم يكن النظام الحاكم متجانسًا، خلافًا لما بدا لكثيرين؛ إذ على سبيل المثال، مسّت عملية خصخصة الاقتصاد المصري في مرحلة تزايد نفوذ جمال مبارك ووزرائه بالاقتصاد العسكري المصري، وبتوجهات العسكريتاريا المصرية عمومًا”.
المدن