الحرب في المنطقة خيار مرغوب ومطلوب
غازي دحمان
يعتقد الكثير من المحللين أن حالة الانسداد السياسي التي تمر بها المنطقة تشكل بيئة خصبة لاشتعال الحرب، وذلك انطلاقا من قول الجنرال الألماني كالوزويتز -أشهر محلل للحروب- إن الحرب استمرار للمفاوضات بطريقة أخرى، على اعتبار أن الحرب تشكل نوعا من الحراك الذي من شانه إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، باعتبارها حالة شاذة في العلاقات الدولية، التي يجب أن تكون، وفقا لهذا الفهم، إما حربا أو سلما.
ويبدو أن وزير الخارجية الفرنسي السابق، هوبير فيدرين كان قد تنبه لهذه القضية قبل هذا الوقت في كتابه “زمن الخرافات في العلاقات الدولية”، حيث أكد أن “العالم قد دخل في مرحلة زمنية طويلة الأمد، تتحرك فيها الأقطاب وكأنها صفائح تكتونية ويعاد فيها توزيع الأوراق”.
في الشرق الأوسط، تتكاثر مؤشرات دخول المنطقة إلى مرحلة الحرب، حتى يمكن القول إن بعض شروطها قد نضجت، فيما يجري تسريع إنضاج بقية الشروط، وثمة تفاصيل تتلاحق لتكمل صورة مشهد الحرب القادمة وتحدد ساحاتها وفاعليها، وصولا إلى تبريراتها السياسية والاخلاقية، وحتى نوعية أسلحتها.
ولعل أهم مؤشرات الحرب ونذرها توفرها مخاضات التغيير العربية، خاصة في البلاد التي تتميز بتركيبة اجتماعية وسكانية متعددة، إذ رغم سلمية الحراكات الجماهيرية في هذه البلدان وتوجهاتها المدنية، فإنها تواجه بسياسات مضادة تسعى إلى حرفها باتجاهات أخرى، يعتقد القائمون عليها أنها تسهل القضاء على جذوة الحراكات وتنجز لهم الانتصار النهائي، لكن الوقائع على الأرض تشير إلى أن هذه السياسات وحالة الاستقطاب الحاد على هامشها لن تؤدي سوى إلى تسعير نار الأزمة وتفعيل ديناميات الحرب فيها، وأن الشيء الوحيد الذي يمكن القضاء عليه جراء هذه السياسات هو ممكنات التسوية السلمية وفرص الخروج من الأزمة، خاصة في ظل سياسات حافة الهاوية التي يمارسها بعض الفاعلين السياسيين في المنطقة.
وثاني مؤشرات نذر الحرب حالة الاستقطاب والفرز الحادين التي باتت تشهدهما المنطقة والاصطفافات الجارية بين مختلف الأطراف بالنظر لمواقف كل منهما تجاه المتغيرات الحاصلة، ففي الوقت الذي تشكلت فيه قوى دفع معتبرة باتجاه إحداث تغييرات، إن لم تكن جذرية، تتوافق مع الحد الأدنى مع مناخات التغيير العالمية، ثمة قوى لا تزال عند مواقفها ورؤاها في الحكم والتعاطي السياسي مع الوقائع السياسية، الأمر الذي من شأنه تكبير حجم الانقسامات والنفور الإقليمي ويهدد بإلغاء التفاعلات البينية التي تشكل في الواقع أساس العلاقات بين الدول وجذرها، وبالتالي يؤدي إلى خلق حالة إقليمية معطلة وذات تأثير سلبي تهدد المصالح الاقتصادية والاجتماعية في دول معينة، كانت قد تكيفت مع حالات الإيجابية الإقليمية التي سادت في مرحلة سابقة، على أمل إمكانية تطويرها.
ولنا في واقع العلاقات التركية مع كل من سوريا وإيران خير مثال على هذه الحالة، ففي الوقت الذي عملت فيه تركيا على إجراء تحول إستراتيجي في علاقاتها مع هذين البلدين، شمل ليس فقط تغييرات في العقيدة السياسية، ولكن تكييف البنية الإستراتيجية الاقتصادية بشكل عميق من أجل دفع هذه العلاقات إلى المجالات الإجرائية الأكثر فاعلية في عالم اليوم، نجد أن الأطراف الأخرى تعاطت مع هذا الواقع بمنطق توظيفي سياسي يخدم أهدافا مرحلية.
ثالث هذه المؤشرات حالة التأسيس التي تشهدها المنطقة لمرحلة، يبدو الصراع الساخن عنوانها ومبتغاها، فالكيانات السياسية في المنطقة تبدو في حالة قطع نهائي مع مراحل الاستيعاب والتفهم وتغليب حسن النوايا في العلاقات، وسيادة نمط متوتر من الأفعال وردود الأفعال، وهذا بحد ذاته توجه لتسريع مرحلة التأسيس للولوج إلى مرحلة أخرى أكثر وضوحا وصراحة في توجيه مؤشرات السلاح صوب مناطق بعينها.
وثمة مؤشر (يتولد عن المؤشر الثالث ويندمج معه) يتمثل بحالة الإلحاح على الحرب النابعة من وجود مصلحة وتوافق عند مختلف الأطراف عليها، وهي حالة قلما توافرت في مراحل سابقة، وتبدو اليوم ملحة وضرورية، فثمة أنظمة تعيش حالة فراغ شرعي فاضح، تعتقد أن الحرب تنقذها، ورغم أنها -الحرب- مغامرة فإنها تفتح على مصير أقل وضوحا من السقوط الحتمي، وثمة أنظمة أخرى تستشعر وجود نذر حراك داخلي تبتغي التخلص منه واستباقه بحرب تلغي الداخل باستحقاقاته الملحة وتدفعه للاصطفاف وراء حربها الخارجية.
ويشير تاريخ الحروب الكبرى في الشرق الوسط إلى أن هذه الأحداث، طالما كان وراءها دوافع عدة، لعل من بينها، وأميزها، دافع توظيف الحروب في إعادة هندسة الواقع الاجتماعي والسياسي في بلدان هذه المنطقة، وذلك بهدف ضبط آليات الحراك الاجتماعي ليتناسب وتوجهات النخب السائدة (الأنظمة الحاكمة)، أو أقله ليضمن إمكانية شرعنة سيطرتها على الواقع.
ولعل حرب عام 1967 تصلح مثالا تفسيريا لهذه المقاربة، فقد عمل الصراع الداخلي المحتدم في سوريا، إلى دفع البلاد للحرب عنوة، رغم إدراك القيادات العسكرية للضعف التقني واللوجستي للقوات المسلحة، وكل ذلك بهدف التخلص من النخب المدنية، وإنهاء تأثيرها الذي كان لا يزال موجودا، في محاولة لإظهار عجزها عن الحفاظ على التراب الوطني.
أما في مصر فقد شكلت الحرب محاولة من النخبة العسكرية للهروب من واقع فشل مشروع الدولة، الذي غرق في الاستبداد والفساد، وتدهور الوضع الاقتصادي، وانهيار مشروع التنمية القائم على إستراتيجية إحلال الواردات التي أثبتت فشلها الذريع، وكل ذلك في ظل معارضة يسارية وليبرالية عملت على كشف أخطاء النظام المتراكمة.
ولم تكن الأوضاع الاجتماعية على الجانب الإسرائيلي بأفضل حالا، فقد كانت إسرائيل تعيش إرهاصات صراع اليهود الشرقيين والغربيين، التي أخذت بالتمظهر عبر أنماط وصور عدة، خاصة لدى يهود الدول العربية، الذين كانت خسارتهم واضحة، وامتيازاتهم قليلة، وكانت النخبة اليسارية الغربية تسعى إلى تأكيد أحقيتها في قيادة الدولة الناشئة، وشكلت الحرب مخرجا مثاليا للخروج من حالة الصراع تلك، فضلا عن تكريسها لسيطرة الجيل الثاني من اليساريين تلاميذ بن غوريون ووايزمان.
وهكذا شكلت حرب عام 1967 مخرجا هاما للأزمات التي كانت تعاني منها الأطراف جميعا، كما أنها أسست لمرحلة كان يمكن أن تدوم لولا حدوث متغيرات مفاجئة، مثل موت جمال عبد الناصر وسطوع نجم الثورة الفلسطينية ووضوح تأثيرها في ما سمي ببلدان الطوق، فضلا عن متغيرات البيئة الدولية في ظل الصراع القطبي في ذلك الوقت، مما كان له أثر واضح في حصول حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
رابع هذه المؤشرات، وهنا ربما قد نلامس حقيقة دولية، وهي أن هذه الحراكات العربية باتت بحاجة إلى ضبط دينامياتها وعدم تركها تنفلت باتجاهات مختلفة ومتعددة، وصار الأمر بحاجة إلى إعادة صياغة المنطقة، بتحديد أهداف مكوناتها السياسية ومواقف مكوناتها الاجتماعية، فيما يبدو أنه استدراك لأهداف حرب العراق 2003، ويتزامن ذلك مع اقتراب الانسحاب الأميركي من العراق نهاية العام الحالي، وظهور مؤشرات خلاف حاد في مراكز القرار الأميركي حول جدوى الانسحاب في الوقت الحالي وأثره على الإستراتجية الأميركية الكبرى عموما، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصا في ظل المتغيرات التي تشهدها المنطقة وتأثير ذلك على المصالح الأميركية.
المؤشر الرابع يتمثل في الأزمة الاقتصادية العالمية التي يتضح من مؤشراتها أنها تتجه إلى نمط التناسل والتجذر، ولا يبدو أنها تقف عند حدود الاقتصادات الأضعف في المراكز الاقتصادية الكبرى (اليونان والبرتغال وإسبانيا) بل تمتد أثارها إلى البلدان الأكثر نموا، خاصة في القطاعات ذات القدرات التشغيلية الكبرى، ما يؤثر على فئات كبيرة من البشر ويحولها إلى جماعات مهمشة، وينذر تاليا بإحداث انقسامات اجتماعية لا تلبث أن تجد انعكاساتها السياسية في المشهد الغربي عموما، وهو ما يدفع مراكز القرار الغربية إلى البحث عن مخارج لهذه الأزمة تبدو الحرب واحدة منها.
ولعل المؤشر الأهم لنذر الحرب في المنطقة يتمثل في تحول الحرب بحد ذاتها إلى آلية ممكنة ومرغوبة لحل رزمة من الأزمات التي أفرزتها سياسات الاستبداد والتهميش والجشع، معطوفا بحالة العجز السياسي للنخب الحاكمة عن إيجاد مخارج للأزمات غير تلك التي تؤمن بقاءها واستمراريتها، مما يدفعها إلى سياسة (نحن أو لا أحد)، لعل الحرب تساعد على إعادة تموضعها الجديد بشروط تعتقد أنها ستكون مناسبة أكثر.
الجزيرة نت