الحروب والمنظومات الأخلاقية
طيب تيزيني
يكاد لا يخلو بحث أو مقالة يومية ضمن البلدان العربية من التحدث عما يحدث في هذه البلدان، خصوصاً ما يتصل بالحراك الشبابي. وعبر ضبط الموقف يمكن القول إن قسط سوريا من ذلك هو الأكبر، قياساً على حالة اليمن الآن وغيرها. وثمة وضعية مهمة تتعلق بمجريات الحروب والانتفاضات والثورات، وهي أنه إذا استمرت هذه المجريات طويلاً، نسبياً، دون الوصول إلى حسم لصالح أحد الفريقين المتصارعين، فإنه قد تنشأ حالة من الاضطراب وافتقاد الحوافز لمتابعة المواجهة أو الاحتراب. وقد تظهر هذه الحالة في كلا الفريقين معاً، مِما يُضعفهما معاً، إلا إذا حصل ذلك في واحد من الحقلين، ليتعافى لدى الحقل الآخر.
وإذا نظرنا إلى المعطيات الواقعية في هذا البلد العربي أو ذاك مما تمرّ به هذه الأحوال (خصوصاً في سوريا)، وبتواتر متقارب لدى فرِيقيْ الاحتراب، يمكن أن تواجهنا حالتان اثنتان، تقوم الأولى على تعاظم حوافز الاحتراب لدى هاتين، مما يُطيل الصراع ويمدُّ أجله. وهذا هو المهيمن هنا، في الصراع بين الحركة الشبابية والنظام بسوريا. ويكون ثمنه غالياً، خصوصاً في دائرة الشباب المنتفضين وصغار العسكريين ضمن الجيش الوطني. ويكون الخاسر الحقيقي الوطن ذاته.
إنها حالة مأساوية وتفتقد الاحتكام إلى العقل الوطني، إضافة إلى التفريط بمنظومة القيم الأخلاقية وباستحقاقات الوطن. فإذا غابت القيم الأخلاقية الوطنية لأسباب معينة، فإن السؤال التالي لا يمكن أن يغيب لدى المعنيين من المحاربين، لأنه مقترن بكياناتهم الإنسانية: هل يتحول المقاتل إلى آلة صماء تغيب عنها العواطف والروادع الإنسانية الأخلاقية؟ كيف يخضع المقاتل إلى ما يجعله عارياً في عبثيته القتالية الدموية، مع أن ذلك يحدث بين مقاتلين ينتمون إلى وطن واحد؟ أليس ضرورياً أن يطرح هؤلاء أسئلة مصيرية على أنفسهم، من مثل السؤال المرير التالي: ماذا إذا غابت الحلول السلمية، لكن العادلة؟ إن أمراً واحداً على الأقل لا يمكن إلا يُقرُّ به، ذلك هو: حين يقوم جيل من الشباب بالتظاهر من أجل مصائرهم التاريخية، وذلك بطريق الدعوة إلى إصلاح يُعيد بناء حياتهم وحياة وطنهم، أليس ذلك من مقتضيات التطور والتحديث لبلد يضمهم ويمثل مرجعيتهم؟ في هذا السياق لِيطْرحْ المرء على نفسه سؤالاً بسيطاً ساذجاً، ولكن ضرورياً ضرورة الحياة نفسها: إذا ترك المرء بيته أربعين عاماً أو أربعين يوماً، دون القيام بمقتضيات الاهتمام به نظافة وجمالاً وصحة، إضافة إلى الانتباه إلى أي احتمال يدخل في ضرورات التحديث العميق له، أيضمن المرء، في هذه الحالة، الحفاظ على بيته هذا دون التآكل أو التصدع أو الانهيار؟
ليس في الدعوة إلى مثل ذلك الإصلاح ما هو شائن، وليس في ذلك رذيلة، أو مؤامرة، ولا يعني القول بذلك حالة من حالات الثأر أو الفوضى. إن الإصلاح في العالم العربي كله يمثل -في مرحلتنا- دعوة إلى ترسيخ التقدم التاريخي بكل أنماطه. ولابد من الاعتبار بأن إهمال إصلاح وطني ديمقراطي في البلدان العربية لم يعد يعني إهمالاً يذهب مع الريح فحسب، ولا تأكيداً على مصطلح “العالم الثالث أو الرابع فحسب”، إنه -مع عصر النظام العالمي الجديد- فتح أبواباً جديدة لقانون التبعية له، والعودة إلى عصر العبودية العالمية.
الاتحاد