صفحات الرأي

مصادر العنف المقدّس في الثقافة الإسلامية/ هلا رشيد امون

يُقال إنّ الإسلام قد رسّخ ثــقافةً أصيلةً علّمها لأبنائه، تؤسّس أصول التسامح لا التعصب، المحبــة لا الكراهــية، الحــوار لا الصــدام، الرحمة لا القـسوة، الســلام لا الحــرب. فمــن أيــن جــاء إذن كلّ هذا العنـف المقدس في المجتمع الإسلامي؟

العنفُ تعريفاً هو كلُّ خطابٍ أو فعلٍ مؤذٍ أو مدمِّرٍ، يقوم به فردٌ أو جماعةٌ ضد أخرى. ويميّز العلماء بين نوعين من العنف: «العنف الشرعي» بوصفه حقّاً للسلطة المقبولة اجتماعياً، كي تسيطر على «العنف غير الشرعي» المهدِّد للمجتمع، وغير المصدّق عليه اجتماعياً. ويشير هذا التقسيم للعنف، إلى التعارض بين «الحق الاجتماعي» الذي يقرُّه القانــون والمــكانة والعادة أو القبـول الاجتــماعي، و«التــبرير الأخــلاقي» الذي يقرّه الاستنجاد بالتعاليم الدينية والاحتكام إلى المبادئ والحجج الأخلاقية. إذ يمكن لشخصٍ في موقع سلطةٍ قانــونية، أن يقوم بفعل شرعي، ولكنه غير أخلاقي، وبالمقابل، يمكن أن يقوم عضوٌ في مجموعة اجتماعية محسوبة شريرة، بعملٍ غير شرعي، ولكنه أخلاقي.

وعبر التشويه الإيديولوجي الذي يسعى لتأمين شرعيةٍ ما، يمكن تحويل فعلٍ عنيف، عبر عدسات الحق الاجتماعي والتبرير الأخلاقي، إلى سلوكٍ مقبولٍ إجتماعياً، بل وإلى وصف كلِّ مَنْ يعارضون سبيل تحقيق أهدافنا عبر هذا الفعل العنيف، بأنهم غير أخلاقيين وغير مؤمنين ولا عقلانيين أو منحرفين، فقط لأنهم يختلفون معنا، أو يقدّمون «بدائل» قادرة على زعزعة نظامٍ معين، أو الاحتجاج عليه أو التشكيك فيه. وبذلك التحويل، تصبح منظومة الاعتقاد أو الايديولوجيا، قادرةً على تسويغ العنف والاقتصاص من المعارضين والمشكِّكين، من دون الشعور بالحاجة إلى وجوب تغيير ذاتها. فوظيفة الأيديولوجيا، سواءً أكانت دينية أو سياسية، تكمن في تعزيز السلطة وتعزيز الإيمان بها وتقديم التشريع لبناها – لاستباق إمكان نقدها أو معارضتها أو تغييرها – وذلك من خلال توظيف المعتقدات الرسمية والموروث التاريخي والديني، لإرساء ثقافةٍ بعينها، بحجة تأمين الاستقرار والوحدة والبقاء، في مجتمعٍ قابلٍ للتفتيت، بفعل المصالح المتباينة الفاعلة في الواقع والتاريخ.

ومن خلال عملية تسويغ العنف تلك، يتمُّ تصوير معتقدات «خاصّة»، بأنها المعتقدات العقلانية الوحيدة والصحيحة بشكلٍ كُلّي، وكما يقول ماركس: «إنّ كلَّ طبقةٍ تضع نفسها في موقع طبقةٍ حاكمةٍ قبلها، تُجبَر، لمجرد تحقيق هدفها، على تصوير مصالحها بوصفها مصلحةً عامةً لكل عضوٍ في المجتمع».

ويُعتبر الموروث الديني مصدراً بارزاً من مصادر تشريع العنف المقدس، ومسوّغات استخدامه من قِبل بعض الأفراد والجماعات الدينية والجهادية والتكفيرية، باعتباره جزءاً أصيلاً من عقيدتهم وتاريخهم. حتى ليمكن القول إنّ بعض الأفراد الذين وصلوا إلى عتبات العنف المرتفعة جداً، يتصرفون وكأنهم مبرمجين وراثياً، ليكونوا عنيـفين وعدوانيين. ما أدّى إلى ما نراه من غــرق المجتمعــات الإسلامــية في متـاهات مفرغة من العنف الذي شرّعه الإيمان الديني، أو التقييم المعرفي للعنف القائل: إنّ العنف هو تعبيرٌ عن الغضب والاحتجاج والإحباط، وهو وسيلةٌ مقبولة ومطلوبة لدفع المظلومية وتحاشي وقوع عنفٍ أعظم، ولإصلاح المجتمعات وحسم الصراع بين الخير والشر، الحق والباطل، الكفر والإيمان. أي أن العنف لم يعد خياراً، يمكن للفرد استخدامه من أجل الحصول على ما يريده، بل صار حتميةً وضرورةً في كل زمان ومكان.

وبعد العثور على التبرير الديني والأخلاقي، يصبح من الضروري تعديلُ الدافع العدواني، من عدوان مؤذٍ ومدمِّر، إلى عدوانٍ إصراري دفاعي بوصفه «نقمةً مبرّرة أخلاقياً» أو «دفاعاً عن مقدّسات مهدّدة»، أو «إثباتاً صحيّاً للهوية والخصوصية»؛ وإعطاءُ أسماء مقبولة (الجهاد، الاستشهاد، الموت في سبيل اللّه، التضحية بالنفس من أجل حماية الجماعة)، لما تبدو عليه وسائل العدوان العنيف ذاته (إعتداءٌ غير مبرّر، قتلٌ جماعي، موتٌ عبثي، انتحار).

أفرد الموروث الديني، مساحاتٍ كبيرة جداً من منتجاته الثقافية، للحديث عن القتال والجهاد وغزوات المسلمين ضد المشركين وانتصاراتهم المؤزّرة عليهم. وقد لاقت فكرةُ القوة ومنطقُ استخدام العنف هوىً وقبولاً وجاذبيةً عند بعض المسلمين، مصدرها الأساس بعضُ الآيات القرآنية التي تحضُّ على القتال، والإفتتانُ بالقصص والروايات التي تتحدث عن الفتوحات الإسلامية التي بنت مجد الإسلام العسكري. ومع أن هذه «التجربة» قد فقدت معظم نقاط قوتها، وأصبح من المستحيل تكرارها، بعدما تغيرت أساليب الصراع والقتال وطرقه ووسائله، إلا أنّ المفكّر الإسلامي الذي يكون استخدام الوسائل العنفيّة، جزءاً من مشروعه السياسي، يُصرُّ على إستعادة الصورة التاريخية الكبرى لأحداث ظهور الإسلام، وكيفية إدارة الرسول للصراع الميداني والعقائدي مع الأصدقاء والأعداء، في المراحل التي مرّ بها بناءُ دولة الإسلام في مكة والمدينة، واستخراج المعاني والدلالات والرموز لكل حدثٍ أو موقفٍ، ومن ثم إسقاطها على واقعنا الراهن.

ولكي يُسخِّر هذا المفكّرُ المقدّسَ الدينيَ، لخدمة أهدافٍ خاصة، فإنه يستخدم «المنهج الانتقائي» في الاستشهاد بالآيات والنصوص والأحداث التاريخية، معتبراً إيّاها، بعد تجريدها ممّا تلبّس بها من ظروفٍ بيئية وزمانية وتركيباتٍ نفسية ونظمٍ أخلاقيةٍ واجتماعية ومعرفية خاصّة، رُخصةً أو إذناً يشجع على استخدام العنف المتفلّت من أيِّ ضوابط، بل ويحضُّ عليه. فهو يتغافل عن الكثير من الحقائق والوقائع التي كانت وثيقة الارتباط بزمن النبوّة، ومنها أن «التجربة النبويّة» قد خِيضت في بيئةٍ بدائية قبلية، يشيع فيها صفاتُ القسوة والغلظة وإنعدام التسامح بين الخصوم والنـزوع إلى الصراع والتناحر والتنازع على الرياسة والزعامة؛ ويغلب على أفرادها الروح القبلية المشبّعة بالثأر والانتقام والتشفّي؛ المتوقّدة بالحقد والعصبية الجاهليين؛ التوّاقة إلى سفك الدماء وضرب الأعناق وأكل الأكباد واستئصال شأفة الأعداء وبترهم عن طريق الغزو المسلح واستخدام العنف؛ المتفاخرة بالأنساب والأحساب وبامتلاك البأس والشكيمة والقوة الجسدية والخبرة القتالية والثبات في المواجهة والتأهُّب للزحف والإغارة. ولذلك فإنّ «القوة» في هذا المجتمع البدائي الصحراوي، كانت تتمتع بمنـزلةٍ عالية وقيمةٍ مرموقة، وكان القائد العسكري محترماً ومُهاباً في مجتمعه، فما بالك إذا كان هذا القائد مؤيّداً بمددٍ إلهي يرافقه أنّى توجّه ويُسدّد خطواته ويرفدهُ بجنودٍ لا يراها الناس تحارب معه في غزواته، ويقذف الرعب في قلوب الأعداء حتى يتمكن المؤمنون من تحقيق النصر عليهم؟!

أنّ اقدم ما وصل إلينا عن أيام الرسول، يعود إلى العهد العباسي، وليس فيه مؤلَّفٌ مكتوب أو نصٌّ مدوَّن، يعود إلى أيام الرسول أو إلى العهد الأموي، بما فيه سيرة الرسول، ولم يبقَ غير اقتباسات ونتفٍ نجدها في بطون كُتب المغازي والسير والتواريخ والأدب. أما أيام الرسول والخلفاء الراشدين، فلم يُعلم أن أحداً قد قام فيها، بالتأليف أو التصنيف أو التدوين أو الجمع، باستثناء القرآن الكريم الذي أُنجز بشكله الحالي، بعد سنتين أو ثلاث على وفاة الرسول. ممّا يطرح أكثر من علامة استفهام حول دقة أو صحّة هذا التاريخ، ويدعو إلى توخّي الحذر والتبصُّر في التعامل مع الأخبار والروايات الواردة فيه، وإلى إخضاعه للنقد والتعديل والجرح.

ومهما يكن من أمر هذا التاريخ، يبقى القرآن هو الأصل الأول في الإسلام، وهو غنيٌ بالشواهد والأدلّة التي تُسعف مَنْ يريد تأصيل العنف، أو بالعكس مَنْ يريد نبذه وإدانته. ففي نصوص القرآن نجد آيات التشدد والإكراه والعنف والحضّ على القتال والإلغاء والإقصاء والقسوة والعصبية، وفي سورة «التوبة» وصلت الدعوة إلى القتال إلى ذروتها القصوى، حتى ليمكن اعتبار هذه السورة بمنـزلة إعلان حربٍ على أئمة الشرك والكفر. ويُقال إنّ الرسول قد أمر أن لا تُكتب البسملة في بدايتها، لأن البسملة تعني الأمان، وهي نزلت لرفع الأمان بالسيف. ولذلك فهي تسمى أيضاً بسـورة القتال أو سورة العذاب. ولكننا نجد في القرآن أيضاً، آيات التسامح والرحمة والحوار والانفتاح والعفو والحثّ على قبــول الآخــر. ممّا يعــني أنــه لــيس من الصواب أن نصــف ثقافتنا بالانغلاق والتعصُّب والعنف، أو التشدّق بأنها ثقافة السلام والوئام والمحبة. ففي النصوص الدينية تتداخل وتتجاور كل القيم السلبية والإيجابية، إلا انّ القوى السياسية والثقافية التي تكون في موقع السلطة والتأثير والقرار، هي مَن يستثمر هذا المخزون الفكري، ويوظّفه في اتجاهات مختلفة، ويفرض التأويلات الملائمة ضمن سياقات ثقافية معينة، وخلال فترات زمنية وشروط محددة.

وبنتيجة هذا التشويه الأيديولوجي والتلاعب بالمقدس الديني، نجد أن الصراعات الدموية والتكفير والإخراج من الملّة والتعصب والاحتراب والقتل، هي ظواهر موجودة بكثرة في تاريخ الثقافة الإسلامية، وقد بلغت حدّ اللامعقول واللامفهوم وحدّ العبث، بعدما تحولت شرعية استخدام العنف بوجه المعارضين والمخالفين، إلى سلاح تمّ استعماله بأشكالٍ عشوائية مختلفة في أزمنةٍ مختلفة، بغرض التخلّص من الخصوم الفكريين والسياسيين.

لا شك في أن أبناء الأمتين العربية والإسلامية يشعرون، ومنذ عقود مديدة، بالغبن والانسحاق والقهر وانعدام العدالة الاجتماعية وبفقدان أي وسيلةٍ لدفع الظلم والفساد والاستبداد، ممّا ساهم في توليد ذهنيةٍ تتسم بالغضب والاحتجاج والإحباط، مهّدت الطريق أمام بروز خطاب القوة واللاتسامح، وممارساته العُنفيّة الهوجاء والمدمّرة التي تستمد من الدين والمقدّس والتاريخ شرعيةً منتحلة ومشكوكاً في أمرها، لتقويض الأنظمة الفاسدة والجائرة والمستبدة. ولا سيما أنّ المسلم يؤمن أنَّ التشريعات القرآنية ليست وضعيّة تتعلّق بقومٍ بعينهم في لحظةٍ تاريخية بعينها، بل هي تشريعاتٌ تتعدّى واقع مجتمع النبوة، إلى تشريعٍ عام للإنسانية جمعاء وللمجتمعات كلها، على تعدد أحوالها وصورها ودرجات تحضُّرها أو تخلُّفها. ومن هنا عودة هذا المسلم المتكررة إلى الموروث وما يرويه من قصص وحكايات تمّ إعطاؤها بُعداً فوق إنساني، حتى اقتربت في الذاكرة الجمعية من النموذج الأسطوري الذي تتجلّى فيه فكرة البطل أو المخلّص أو المنقذ للبشرية (نبي، صحابي، إمام…) الذي يمارس عنفاً مشرّعاً ومقدّساً، في كفاحه النبيل للسيطرة على «العنف غير الشرعي».

وهكذا أصبح الموروث بكل رموزه وتأويلاته وقصصه مصدراً مهماً من مصادر تشـريع وتبرير ممارسة العنف على النفس وعلى الآخرين، استغلّته كلُّ الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون، السلفية الجهادية، حزب اللّه..) لتسويغ وتفعيل ممارساتها السياسية والسلطوية، ولإرساء معايير ومفاهيم وتشريعات ومعتقدات بعينها، من خلال إعادة ترميز العنف، عبر إعادة تفسير «التجربة الأولى»، والتي انتهت إلى تأصيل وتكريس نزعات العنف المتوحّشة في مجتمعاتنا، حتى بتنا، في قسوتنا وغلظتنا وتعصُّــبنا وتعطُّشنا إلى سفك الدم، مستحقّين لاسم «أحفاد قريش»!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى