الحسم الأمني يترجّح بين الورطة والحلّ
قد يكون من باب المؤكد أن الحسم الأمني لن ينتهي عندما يحين موعد الاستفتاء العام على الدستور السوري الجديد في 26 شباط. كلاهما، الخيار الأمني والحلّ السياسي، يُسابق الآخر بآمال ضعيفة، من غير أن يتضح إمكان إخراج تسوية تزاوج بينهما تحت سقف النظام والرئيس
نقولا ناصيف
منذ قرّر الرئيس بشّار الأسد، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، الحسم الأمني ضد معارضيه المسلحين، دخل في ورطة مُربكة تصطدم بها باستمرار كل محاولة لحسم عسكري يريد المحافظة على تماسك النظام، وهو يتوخى استعجال إنهاء النزاع الدموي، ويُراهن على عامل الوقت، ويتحوّط من المفاجآت. ورغم أن أياً من العناصر الثلاثة هذه لم يُهدره بعد قرار الرئيس السوري، إلا أن وطأة الصعوبات التي تجبه الجيش السوري، تكمن في مواجهته ثلاثة أفرقاء يملكون السلاح، هم التيّارات السلفية والإخوان المسلمون والمنشقون عن الجيش، فضلاً عن مجموعات مطلوبين وفارين من السجون وعصابات، ولاعبين آخرين في النزاع الداخلي يُموّلون شراء السلاح ويهرّبونه من الحدود مع لبنان وتركيا، وجزئياً مع العراق.
بالتأكيد، تبدو المعارضة السلمية في حسابات النظام أضعف خصومه، سواء بسبب انقساماتها في الداخل، أو بين الداخل والخارج، أو من جرّاء عدم انتزاعها حتى الآن شرعية دولية. في أحسن الأحوال، لم تطمئن الأميركيين والاتحاد الأوروبي، إلى الآن على الأقل، إلى قدرتها على خلافة نظام الأسد، لا على إسقاطه فقط.
تدخل في قرار النظام الحسم الأمني بضعة معطيات:
أولها، أن لا ضمان في أن الحلّ الأمني ينهي الأزمة برمتها، بل يمثّل للنظام أحد مخارجها. كان الرئيس قد سمع من كبار ضبّاط الاستخبارات والجيش بضع ملاحظات حيال هذا الحلّ، التقوا في نهاية التقويم على أنه لا يوفر ضماناً كاملاً، لكن في المقابل لا خيار للنظام إلا مقاتلة المسلحين وضربهم بقسوة وتصفيتهم.
ثانيها، أن نجاحه في هذا الحسم يمكّنه من منع المسلحين من السيطرة على مدن وبلدات وقرى، ويحول دون تكرار تجربة بنغازي في سوريا، تمثل مركز انطلاق الحملة المضادة على النظام لتقويضه بالقوة، وإيجاد منطقة عازلة تحظى بحماية خارجية تمنع الجيش من مهاجمتها. ورغم إخفاق محاولة إيجاد منطقة عازلة في درعا بداية، ثم في جسر الشغور، لم تيأس المعارضة المسلحة من تكرار المحاولة الثالثة عبر جعل حمص منطقة عازلة، يُساعدها اتصالها بالحدود السورية ـــــ اللبنانية في شمال لبنان، كي يشكّل منفذاً لإمدادها بالمال والسلاح والمسلحين، وتوفير ملاذ آمن للفرار عند الاقتضاء إلى داخل القرى السنّية في الشمال.
بيد أن الجيش السوري قطع أوصال خطوط الإمداد هذه، عندما وجّه حملة عسكرية هي الأقسى على حمص في الأيام الأخيرة لمنعها من التحوّل إلى حماه جديدة، بعد تجربة احتلال المسلحين هذه المدينة قبل أشهر وإقفالها تماماً في وجه النظام. إلا أن نجاح الحسم الأمني مع حماه، ثم مع حمص، يبرّره موقعاهما في وسط البلاد، بعيدتين من منطقة حدودية، ما يسهل على الجيش مهاجمتهما بعد تطويقهما وقطع طرق الاتصال إليهما، من غير أن يُواجه بتدخّل خارجي.
كان قد نجح أيضاً في الحؤول دون تحوّل الزبداني إلى منطقة عازلة بسبب قربها من الحدود الشرقية مع لبنان.
في خلاصة تقويم النظام، أن المدن الكبرى مستقرّة إلى حدّ بعيد. خطوط التواصل بينها آمنة بعد سيطرة الجيش على ريف دمشق، وخصوصاً على دوما ومضايا وحرستا والغوطة وزملكا وعربين. لم يكتفِ المسلحون عندما سيطروا على هذه القرى بتطويق العاصمة فحسب، بل تمكّنوا لبعض الوقت من قطع الطريق إلى مطار دمشق.
ثالثها، أن نجاح النظام في حسمه الأمني لا ينهي النزاع الدامي مع المعارضة. وهو مكمن الورطة التي قد يجد نفسه في المرحلة المقبلة على أبوابها، وهي الانتقال بالصراع من حرب شوارع على نحو ما هو دائر منذ أسبوعين، إلى حرب تفجيرات واغتيالات تحتاج إلى وقت طويل، وإلى جهد استثنائي للاستخبارات، لإنهائها.
والواقع أن المعارضة المسلحة، وأخصّها التيّارات السلفية والإخوان المسلمون، يقلبون مع الأسد الابن معادلة النزاع الدموي الذي دار بين والده الراحل والإخوان المسلمين بين عامي 1976 و1982، عندما بدأت المواجهة سرّية مع الرئيس حافظ الأسد بالاغتيالات والتفجيرات، سرعان ما انتهت بحملة عسكرية رهيبة دمّرت حماه على رؤوس سكانها والمسلحين الذين أحالوها قلعتهم. حينذاك، رغم وجود الإخوان المسلمين بكثافة في حمص أيضاً، إلا أن نيران الحرب لم تدق أبوابها بسبب دور بالغ التأثير اضطلع به رئيس استخبارات المنطقة الوسطى (حمص) الرائد غازي كنعان الذي نجح في حمل السكان على التروّي والتخلي عن أسلحتهم، وتجنّب تعريض مدينتهم للتدمير.
في الأزمة السورية الحالية، بدأ الصراع بمواجهة علنية في الشوارع، وهو ينتقل الآن في مرحلة الحسم الأمني إلى حلقته التالية، الطويلة ربما، عبر اغتيالات وتفجيرات تنهك النظام وتدفع البلاد إلى عدم استقرار وانهيار اقتصادي ووضعها في رعب متواصل.
وخلافاً للحسم الأمني الذي أحاطه الأسد الأب بسرّية، ولم يُكشف عن نتائجه إلا متأخراً، سرعان ما اتسمت ردود الفعل الدولية، القليلة آنذاك، بغموض من جرّاء ربط هذا الحسم بمكافحة الإرهاب، يجري الحسم الحالي على مرأى العالم ومسمعه، ويحظى بغطاء دولي وإقليمي بمقدار حظيه بتنديد إقليمي ودولي أيضاً.
رابعها، تمثل التيّارات السلفية الخطر الأدهى على النظام، نظراً إلى تنظيمها الذي جعلها تتفوّق على الإخوان المسلمين. وينتشر السلفيون في أرياف دمشق وحمص وحماه وإدلب. وهم نشأوا بمعرفة النظام في السنوات المنصرمة، بعدما انطلق هؤلاء من دعوات دينية ربيت في ظلّها تيّارات عقائدية وسياسية مسلحة. وأُرغِم النظام على التغاضي عنها، بعدما تصاعدت في سوريا أقاويل عن توسّع التشيّع فيها على نحو حمل السعودية ـــــ في عزّ علاقاتها الودّية بدمشق ـــــ على التدخّل لدى الأسد ومفاتحته بهذا التشيّع. اضطره ذلك إلى دعوة مسؤولين سعوديين، بعضهم في جهاز الاستخبارات، للتجوّل في المناطق التي قالت الرياض إن التشيّع يتزايد فيها، والتأكد من ثمّ من عدم وجوده.
أفضى ذلك إلى إغضاء النظام النظر عن تكاثر الجمعيات الدينية. وتمثّل إدلب اليوم أحد المعاقل المهمة للتيّارات السلفية، الأمر الذي يُعد، تبعاً لبعض المعلومات الأمنية، لحملة عسكرية على جبل الزاوية مشابهة للحملة على حمص.
خامسها، يعتقد النظام بدور كبير يضطلع به تنظيم «القاعدة» في تصعيد الفوضى والاضطرابات في سوريا. وهو يواجه اليوم أولئك الذين عوّل عليهم في الصراع مع الأميركيين إبّان احتلالهم العراق منذ عام 2003 حتى السنة الماضية، وشكّلوا المقاومة المسلحة السنّية. لم يكتفِ بتوفير السلاح والعتاد والأفراد لهؤلاء لانطلاق عملياتهم وهجماتهم داخل العراق، ولا العبور الآمن عبر حدود البلدين، بل ساهم في إقامتهم في الأرياف. أتاح لهم ذلك، بمرور الزمن، التكيّف مع المجتمع السوري، ولا سيما منه الفقير والمتخلّف، والاندماج في أسلوب حياته وتقاليده وتداخل مجتمعاته. عرفوا الشوارع والأهالي والبيئات المختلفة، وتوغّلوا في الأحياء والبلدات، وحصلوا على كمّ كبير من المعلومات سرعان ما انقلب استخدامها ضد النظام عندما انفجر الصراع بينه وبين المعارضة السلمية والمسلحة، فاتخذوا مواقع لهم في قلب هذا الصراع.
الأخبار