الحل السياسي في سورية بين جنيف وسوتشي– مقالات مختارة-
الشرع مرشح موسكو لـ«رئاسة سوتشي»… ودي ميستورا غاضب من «تراجع» دمشق/ إبراهيم حميدي
المبعوث الدولي قدم وثيقة إلى مجلس الأمن عن ملفي الدستور والانتخابات
لا تزال موسكو تنتظر رد دمشق على اقتراح ترؤس نائب الرئيس السابق فاروق الشرع «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي بهدف تحقيق هدفين، هما تشكيل «لجنة دستورية» ومجلس لرئاسة مؤتمر الحوار، في وقت بدا أن دمشق قررت إرجاء البحث عن تسوية سياسية «قبل تطهير كامل الأرض السورية من الإرهابيين».
كما أن جهازي الاستخبارات في روسيا وتركيا منخرطان في مراجعة قائمة المرشحين إلى المؤتمر التي تضم 1500 سوري، إضافة إلى حوار بين وزيري الدفاع والخارجية الروسيين، سيرغي شويغو وسيرغي لافروف، والمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لفهم العلاقة بين مؤتمر سوتشي ومفاوضات جنيف، خصوصاً ما يتعلق بشرعية تشكيل اللجنة الدستورية وتسلسل العلاقة بين مساري جنيف وسوتشي.
بحسب مصادر دبلوماسية غربية، فوجئ دي ميستورا بـ«تراجع» وفد الحكومة السورية برئاسة السفير بشار الجعفري في القسم الثاني من الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف الأسبوع الماضي عن موقفه في قسمها الأول. وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «في القسم الأول، اشترط الجعفري أن تقوم الهيئة التفاوضية العليا المعارضة بسحب بيان المعارضة في مؤتمر الرياض، وخصوصاً ما يتعلق بالموقف من الرئيس بشار الأسد والمطالبة بخروجه من السلطة لدى بدء المرحلة الانتقالية قبل أن يوافق (الجعفري) على الانخراط في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة لبحث ورقة دي ميستورا إزاء المبادئ الـ12 لمستقبل سوريا والتفاوض حول ملفي الإصلاح الدستوري والانتخابات» بموجب القرار 2254.
لكن المفاجئ بالنسبة إلى دي ميستورا والمبعوثين الغربيين في القسم الثاني، هو تقديم الجعفري موقفاً جديداً مفاده رفض بحث ملفي الدستور والانتخابات قبل «تحرير سوريا من جميع الإرهابيين وقبل استعادة الدولة سلطتها على جميع الأراضي السورية»، بحسب المصادر. وقالت: إن الجعفري شرح للمبعوث الدولي وفريقه مناطق سيطرة «داعش» وباقي الإرهابيين في البلاد، ثم جرى تسريب فيديو عن هذه «المحاضرة» التي أعقبتها «جلسة أخرى» تناولت تاريخ سوريا و«مقاومة الشعب السوريين للاحتلال بما في ذلك العثمانيون». وأكد وزير الخارجية وليد المعلم موقفاً مشابهاً أمام البرلمان أمس. وقال: إن بقاء مناطق خفض التصعيد المنبثقة من اجتماعات آستانة في «وضعها الراهن، غير مقبول، في المرحلة المقبلة»، مضيفاً إن «الهدف هو تطهير جميع الأراضي السورية من الإرهابيين».
دي ميستورا، الذي حاول الحفاظ على موقفه وسيطاً دولياً بين وفدي الحكومة والمعارضة، قدم سلسلة من المقترحات لإجراء مفاوضات غير مباشرة أو مباشرة لتحقيق تقدم في ورقة المبادئ السياسية أو ملفي الدستور والانتخابات وعقد 11 جلسة مع وفد المعارضة و8 جلسات مع الوفد الحكومي «غير أنه لم يحدث أي اختراق كما كان يخطط بسبب تراجع وفد دمشق واتباع أسلوب المماطلة، ورفض التفاوض قبل السيطرة على الأراضي السورية»، بحسب المصادر الغربية. وأشارت إلى أنه على عكس الجولات السابقة «خرج دي ميستورا عن صمته وأبلغ مجلس الأمن مسؤولية الوفد الحكومي عن عدم تحقيق تقدم» في الجولة الثامنة. ونقل عن وفد المعارضة قوله: «إن الموقف من الأسد هو وجهة نظر وليس شرطاً مسبقاً».
هناك تفسيران، بحسب المصادر، إزاء موقف دمشق: الأول، إفشال مفاوضات جنيف، ونقل الرهان السياسي إلى مسار مؤتمر الحوار في سوتشي. الآخر، كسب الوقت والضغط على دي ميستورا للاستقالة، بحيث يتم تمرير الوقت إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الروسية في 18 مارس (آذار) المقبل. وقال مسؤول غربي: «ربما يكون هذا الموقف بإيحاء من طهران التي لم تكن موافقة على مؤتمر سوتشي وليست جزءاً من مفاوضات جنيف ورفضت أن تبارك اجتماعات آستانة مؤتمر سوتشي».
موسكو، التي تحاول الحفاظ على توازن بين أطراف متناقضة، لم تمارس ضغوطاً على دمشق لتقديم مرونة في مفاوضات جنيف، بل إنها وضعت شروطاً على المعارضة كي تكون مقبولة في العملية السياسية، وبعثت إشارات نقدية لموقف دي ميستورا ما رجح احتمالات الرهان الروسي على مؤتمر الحوار في سوتشي والضغط على الأمم المتحدة كي تكون جزءاً منه. وقال لافروف لدي ميستورا أمس: «هناك من يحاول عرقلة عملية التسوية السورية».
من جهته، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أبلغ موسكو بوجود شرطين لمشاركة الأمم المتحدة في سوتشي، بحسب المصادر، هما: أن يعقد المؤتمر لمرة واحدة فقط وليس سلسلة من المؤتمرات كما حصل مع مسار آستانة، أن يكون جزءاً من عملية جنيف وتنفيذ القرار 2254. (وهذا موقف دول غربية بينها أميركا).
لكن موسكو ماضية في السباحة بين مسارات جنيف وسوتشي وآستانة والإعداد لمؤتمر الحوار وتذليل عقبات عدة أمام حصوله. العقدة الأولى، التفاهم مع أنقرة على قائمة المدعوين بموجب نتائج قمة الرؤساء: الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان والإيراني حسن روحاني في سوتشي الشهر الماضي. وعلم أن اجتماعات روسية – تركية عقدت لمراجعة قائمة المدعوين التي قدمتها موسكو وضمت 1500 شخص، بينهم سياسيون ورؤساء نقابات وفنانون ومثقفون وعسكريون، بينهم مسؤولو نقابات أطباء البيطرة (أطباء الحيوانات)، إضافة إلى نخبة من خبراء الدستور والسياسيين. وأفاد مصدر: «أنقرة تريد التأكد من عدم وجود أي شخص قريب من الاتحاد الوطني الديمقراطي الكردي في حوار سوتشي».
تتعلق العقدة الثانية بدعوة الشرع إلى المؤتمر. وأبلغ مسؤولون روس محاوريهم بأن موسكو تريد حضور الشرع وأبلغت دمشق رسمياً بذلك وهي تنتظر الجواب الرسمي، في وقت لم يتبلغ نائب الرئيس السوري السابق دعوة رسمية، وإن كان يتمسك بـ«صلاحيات كاملة وضمانات لنجاح مؤتمر الحوار الوطني». وقال دبلوماسي روسي: «نريد أن يقتصر دور الشرع على رئاسة المؤتمر وتشكيل لجنة دستورية، وليس صحيحاً أنه سيكون رئيسا للهيئة الانتقالية».
أما العقدة الثالثة، فتتعلق بدور الأمم المتحدة؛ إذ إن موسكو تريد أن يتم تشكيل «اللجنة الدستورية» في سوتشي بحضور دي ميستورا على أن تعقد هذه اللجنة أول اجتماعاتها في جنيف، في حين يتمسك المبعوث الدولي بتشكيل اللجنة من الحكومة والمعارضة في مفاوضات جنيف على أن يتم دعمها وشرعنتها في مؤتمر سوتشي وتعقد اجتماعاتها في جنيف. لكن دمشق تراهن على خيار ثالث، وهو أن يتم عقد مؤتمر الحوار في سوتشي ليكون حدثاً إعلامياً يخدم بوتين في الانتخابات الرئاسية، ثم تعقد جلسات مؤتمر الحوار في دمشق، وتتم عملية الإصلاح الدستوري ضمن آليات البرلمان الحالي التي تضم بتعديل الدستور الحالي لعام 2012. وفي هذا السياق، قد تبدي دمشق «مرونة» بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في السنة المقبلة أو بعدها، علماً بأنها مقررة في 2020، ورفض تقديم موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في 2021 ما لم يتم تعديل الدستور ضمن أولويات دمشق.
ولا شك أن محادثات دي ميستورا في موسكو مع وزيري الخارجية والدفاع أمس واجتماعات آستانة بين الضامنين، روسيا وتركيا وإيران، ستكون حاسمة في تقرير مصير مستقبل مفاوضات جنيف ومؤتمر سوتشي. وقال دي ميستورا خلال لقائه الوزيرين أمس: «لم يكن لدينا لقاء جيد في جنيف، وأنتما تعرفان ذلك، وأنا أعرف ذلك. علينا أن نعمل من أجل أن تثمر جنيف عن النتيجة؛ لأنه لا يوجد هناك أي بديل لعملية جنيف، التي اعترف بها المجتمع الدولي والتي تجري برعاية الأمم المتحدة».
وكان لافتاً أن دي ميستورا خاض أمام مجلس الأمن في تفاصيل تصوراته للمرحلة المقبلة لاستباق مسار سوتشي. وقدم وثيقة إلى أعضاء مجلس الأمن تضمنت تصوراته لملفي الانتخابات والدستور، هنا نصها:
سلة الانتخابات
«بخصوص سلة الانتخابات، يعرب القرار 2254 عن دعم هذا المجلس لانتخابات حرة ونزيهة تبعاً لدستور جديد، تجري تحت إشراف الأمم المتحدة، ووفق أرفع المعايير الدولية للشفافية والمحاسبة، مع تمتع جميع السوريين، بما في ذلك أبناء الشتات، بالحق في المشاركة.
كانت الأمم المتحدة وفرت مساعدات انتخابية لغالبية الدول الأعضاء لديها، وجاء ما يقرب من ثلث هذه الحالات في غضون العامين الماضيين فقط ـ عليه، فإننا نملك خبرة كبيرة بهذا المجال ـ وغالباً ما جرت هذه الانتخابات في بيئات تعايش مرحلة ما بعد الصراع، وحرصت الأمم المتحدة على توفير شتى صور المساعدات الانتخابية. من ناحية أخرى، فإن ثمة حاجة واضحة لاحترام السيادة السورية على نحو كامل ما من شك هنا فيما يخص العملية الانتخابية الوطنية على أراضيها مع العمل في الوقت ذاته على تيسير إشراف الأمم المتحدة الذي أعلن هذا المجلس دعمه له.
بالنظر إلى القرار 2254 والآراء التي تعرفنا عليها من الأطراف المعنية، تمكننا من التعاون بعض الشيء مع كل من الأطراف المعنية، إضافة إلى المجتمع المدني والمواطنين السوريين العاديين وأن إجراء انتخابات حرة ونزيهة تبعاً لأرفع معايير دولية يتطلب إقرار جدول زمني واضحاً وتسلسل الأحداث المتفق عليه في القرار 2254 بخصوص إشراف الأمم المتحدة على الانتخابات الرئاسية منها والبرلمانية. وسيتعين العمل على ضمان تمتع الجميع بفرص متكافئة بحيث يتمكنون من المشاركة في الحياة العامة، وألا يخافوا من المشاركة بها. وسيتعين الاتفاق على مبادئ فيما يخص إطار العمل القانوني الانتخابي بحيث يتواءم مع أرفع المعايير الدولية ويضمن إدارة مستقلة للعملية الانتخابية.
ستكون هناك حاجة لإقرار معايير لأهلية الناخبين للمشاركة بحيث يصبح بمقدور جميع السوريين، بغض النظر عن الدين أو العرق أو النوع، المشاركة في التصويت، بما في ذلك أبناء الشتات، مع اتخاذ إجراءات خاصة لضمان مشاركة اللاجئين والمشردين داخلياً والسوريين الآخرين الذين تضرروا من الصراع. وسيتعين إقرار بند محدد لتعزيز مشاركة المرأة. ومن الممكن أن يتضمن إشراف الأمم المتحدة أدواراً داعمة لإطار العمل القانوني الانتخابي والمؤسسات والعمليات الانتخابية (بما في ذلك تصويت الشتات) ورفع تقارير إلى مجلس الأمن حول مستوى إجراء العمليات الانتخابية قياساً بأرفع المعايير الدولية التي تكفل الشمولية (التمثيل) والشفافية والمحاسبة. هذا كل ما يخص الانتخابات. إذا كنت ترغب في مشاركة الأمم المتحدة، فإن ذلك يستتبع عدة أمور معه: الاستعداد لاحترام السيادة، والاستعداد للعمل بجد، وهذا ما يعنيه عقد انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.
سلة الدستور
«بخصوص (سلة الدستور)، يدعو القرار 2254 إلى عملية تتولى الأمم المتحدة تيسير عملها لصياغة جدول وعملية لوضع دستور جديد قبل إجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة. عليه، سعت الأمم المتحدة خلال كل من الاجتماعات التي عقدناها نحو التعرف على وجهات نظر الأطراف المختلفة حيال هذا الأمر. وبناءً على هذه الجهود، دعني (دي ميستورا) أعرض 11 ملاحظة لرسم بعض الخطوط العامة ومحاولة إثارة مزيد من المناقشات إذا ما كانت ثمة رغبة حقيقية في تنفيذ عملية لصياغة دستور جديد تبعاً للقرار 2254. وبالتالي تحظى بمباركة الأمم المتحدة:
- على ما يبدو، يقبل الطرفان بأن سوريا في حاجة إلى مراجعة نظامها الدستوري على نحو يبلغ ذروته في نيل موافقة شعبية على دستور جديد، ونحن جميعاً نتفق على أن الشعب السوري وحده من يملك حق تحديد ملامح دستور المستقبل لسوريا. لن يجري طرح دستور تولى كتابته أي منا، أي دولة أو أي منا. في مقدورنا تقديم يد العون، لكن ينبغي أن يأتي الدستور نهاية الأمر من صنع أيدي السوريين أنفسهم.
- يجب أن تخضع أي مراجعة دستورية لملكية سوريا وقيادة سوريا، وأن تجري بناءً على القرار 2254 والذي نص، بحسب ما أشرت سابقاً، على ضرورة أن يأتي إقرار جدول زمني وعملية لصياغة مثل هذا الدستور الجديد في إطار محادثات بين ـ سوريا تحت رعاية وبتيسير من الأمم المتحدة. ويجب أن تجري صياغة الجدول الزمني والعملية لوضع مثل هذا الدستور في إطار محادثات بين ـ سوريا تحت رعاية وبتيسير الأمم المتحدة.
- يجب أن يحاول مثل هذا الجدول الزمني وهذه العملية تحديد واحتواء المبادئ الإرشادية، وجدول زمني تسلسلي وتحديد جميع المؤسسات المعنية التي يتعين إنشاؤها ـ بما في ذلك حدود سلطاتها وتكوينها وأسلوب تأسيسها.
- من أجل هذه الغاية، نعتقد أن عملية المراجعة الدستورية يمكن أن تسترشد في عملها بالمبادئ في قرار مجلس الأمن رقم 2254 وإعلان جنيف والمبادئ الـ12 الأساسية بين ـ السورية التي تطرح منظوراً لرؤية لمستقبل سوري يمكن للجميع التشارك به. ومثلما أشرت مسبقاً، توفر هذه المبادئ ضمانات مهمة للشعب السوري من حيث هدف أي مراجعة دستورية والتي يجب أن تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري.
- مع أن هذه المبادئ ليست فوق دستورية إلا إذا وافق على ذلك الشعب السوري، فإنه يمكن تطويرها وتجسيدها من قبل كيان معني بصياغة الدستور. ومن أجل ضمان المصداقية، من المحتمل أن يحتاج هذا الكيان المعني بصياغة الدستور وأي عملية لصياغة الدستور، إلى تناول كيفية التشارك في السلطة، وكيف ينبغي نزع المركزية عن السلطة داخل سوريا وممارستها على الأصعدة الوطنية والإقليمية والمحلية.
- حتى الآن، ظهرت مؤسستان من رحم المناقشات حول أهداف صياغة ومراجعة دستور جديد وإقامة عملية حوار وطني: «لجنة الدستور» و«المؤتمر الوطني». باستطاعة «لجنة الدستور» إعداد مسودة أولية وعرضها على «المؤتمر الوطني» في سوريا، الذي سيتولى بدوره الإشراف على حوار وطني ومراجعة وتنقيح أي مسودة دستور ثم طرحها على التصويت الشعبي بموجب القرار 2254.
- ينبغي إقرار حدود سلطات كل مؤسسة، وطبيعة سلطاتها وقواعد الإجراءات الخاصة بها، وأن تجري الموافقة عليها في إطار المحادثات بين ـ السورية في جنيف التي تتولى الأمم المتحدة تيسير عقدها. وستعمل الأمم المتحدة على ضمان توافق أي تشكيل يجري الاتفاق عليه مع قرار مجلس الأمن رقم 2254 وبناءً على أي معايير اختيار شاملة وموضوعية يجري تحديدها والاتفاق عليها في جنيف.
- ينبغي أن تضم المؤسستان، على الأقل، ممثلين عن الحكومة والمعارضة المشاركة في المحادثات البينية السورية، علاوة على عناصر إضافية من المجتمع السوري، بما في ذلك شخصيات دينية وسياسية وثقافية واقتصادية ونقابية، وكذلك سوريون من الشتات وخبراء قانونيون، مع وجود بند ينص بوضوح على ضم ممثلين عن المجتمع المدني وعناصر مستقلة والمرأة.
- ينبغي أن تكون مثل هذه المراجعة الدستورية شاملة، وتضم حواراً وطنياً مؤسساً على نحو جيد ويجري بشفافية ويتميز بقاعدة واسعة، وتضمن فرص نشر المسودات والنقاشات والمراجعات، وتجري اتصالات ومشاورات كاملة مع المجتمع المدني والأحزاب السياسية والجامعات وأبناء الحقل الأكاديمي والرأي العام فيما يخص صياغة الدستور.
- تقف الأمم المتحدة على أهبة الاستعداد حال تخويلها ذلك وتوفير مكاتب جيدة لها، لتقديم الدعم لأي «لجنة دستورية» تبعاً للوصف السابق و«مؤتمر وطني» تبعاً للوصف السابق تتفق عليهما الأطراف المشاركة في المحادثات البينية السورية، وكذلك توفير خبرة دولية.
- من أجل ضمان عملية حقيقية وشاملة لصياغة الدستور داخل سوريا، يجب بناء بيئة آمنة وهادئة ومحايدة لتمكين السوريين من مختلف أطياف المجتمع من المشاركة بأمان وحرية. ويتطلب هذا بدوره من الأطراف المشاركة في جنيف تحديد الإجراءات المعنية والمناسبة لمحاربة الإرهاب وحفظ الأمن وبناء الثقة، علاوة على اتخاذ ترتيبات حكم تشمل جميع الأطياف، وتخلو من أي نزعة طائفية يجري الاتفاق عليها عبر المفاوضات.
ويمكن من خلال اتخاذ توجه يقوم على تقسيم المهام تحديد العلامات الفارقة ومؤشرات الأداء. ومن شأن ذلك تعزيز عملية بناء بيئة إيجابية بدرجة بالغة عبر تحقيق تقدم ملموس على صعيد توفير المساعدات الإنسانية وإجراءات بناء الثقة ـ خاصة التعامل مع المحتجزين والمختطفين والمفقودين ـ وإقرار وقف إطلاق نار مستدام على مستوى البلاد».
الشرق الأوسط
سورية في مهب الريح بعد فشل “جنيف 8″/ برهان غليون
فشلت مفاوضات جنيف 8 السورية، وما كان من الممكن أن لا تفشل. وليس السبب أن وفد المعارضة قبل الذهاب إلى جنيف من دون شروط، أو بسبب نقص استعداده، ولا ضعف المرجعيات التي يتمسّك بها لتوجيه سير المفاوضات، ولكن لأن الطرف الذي يقف أمامه يرفض بكل بساطة أي سلام، ويضرب عرض الحائط بأي مفاوضات، سواء أكانت من أجل الاتفاق على مرحلةٍ انتقالية، أو تسوية سياسية وحل وسط، أو حكومة وحدة وطنية تشارك فيها المعارضة بمقاعد وهمية. ولن يقبل النظام عقد السلام، بل حتى الصلح، حتى لو تخلت المعارضة عن كل مطالبها، وقرّرت الانضمام إلى النظام ضد “الإرهاب”، أي ضد الشعب السوري الذي لا يرى فيه نظام الأسد سوى إرهابيين ومعادين للوطن وفلسطين والعلمانية والسيادة والتقدم والاستقلال، فالنظام ليس سعيداً باستمرار الحرب فحسب، إنما لم ينس لحظة واحدة، قبل الثورة وبعدها، أن حياته أصبحت معلقةً كلياً باستمرارها. ولو حصل، وتوصلت الدول التي تتصارع، من خلاله ومن ورائه، على تقاسم النفوذ في سورية، والسيطرة على المشرق، إلى تسويةٍ في ما بينها تقود إلى توقف الحرب، لما وفر وسيلةً يمكنه استخدامها لتخريبها، وإعادة إشعال نار الحرب وتسعيرها.
نظام الحرب الأهلية الدائمة
ولد النظام في سورية في الحرب، وعاش فيها ومارسها نظام سيطرة وإكراه وإخضاع، خلال أربعة عقود، قبل أن يضطر إلى إعلانها شاملةً مع انطلاق أول شرارة لثورة مارس/ آذار 2011، ومع خروج أول تظاهرات شبابية إلى الشارع. ولهذا لم يقبل يوماً، قبل ذلك، وقف العمل بقانون الطوارئ الذي هو إجراء حربي بامتياز، بل الإطار القانوني للحرب الأهلية المعلنة من جانب واحد. وخاض، من دون تردد، حروبه ومجازره المتكرّرة، في حماة
“ولد النظام في سورية في الحرب، وعاش فيها ومارسها نظام سيطرة وإكراه وإخضاع، خلال أربعة عقود، قبل أن يضطر إلى إعلانها شاملةً مع انطلاق أول شرارة لثورة 2011”
1964، وفي أكثر مناطق سورية عام 1973، وفي المدن الرئيسية منذ عام 1979، ومنذ إعلان ربيع دمشق عام 2001. وحل، في هذا الإطار، جميع مجالس النقابات شبه المنتخبة، وعين بديلاً لها من صنعه، وقضى من الجذور على أي حرياتٍ مدنيةٍ لا سياسية فحسب، فصارت أجهزة المخابرات، أي أجهزة العنف والإكراه والقهر والابتزاز، هي المسؤولة المباشرة عن تعيين دور المواطنين وعملهم، وعن محاسبتهم على أقوالهم وأفكارهم وانتماءاتهم، أو عن تردّدهم في إعلان خضوعهم وإذعانهم. وشكل بناء السجون وتوسيعها الاستثمار السياسي الأكبر، إن لم يكن الوحيد للنظام خلال نصف قرن، إلى جانب أجهزة الجيش والأمن والإعلام المتخصص في الكذب والدس والتشهير والتحريض والتسميم الإعلامي الذي أتقن فنه، كما لم يحصل لأي نظام سابق، وربما لاحق. وهو لم يكفّ، منذ إعلانه الحرب الشاملة على مؤامرة الشعب “الكونية”، عن قطع أي طريق للإصلاح أو المصالحة أو حتى الاستسلام على خصومه، أملاً بأن يبيدهم، ويقضي عليهم بالمطلق. ولم يحترم، في أي وقت، اتفاقات المصالحات ووقف التصعيد التي أجبر عليها في بعض المواقع، وكذلك تحت ضغوط بعض حلفائه الأكثر مرونةً وحنكةً سياسية، لكنه استخدمها لخداع معارضيه، والإيقاع بهم، لقتلهم أو سجنهم وتعذيبهم. وتقصّد، في كل مرةٍ فرضت عليه الظروف والدول الحليفة الدخول في جولات مفاوضاتٍ شكلية، أن يفرط في استخدام العنف وزرع المناطق التي لا تخضع لسيطرته بالمجازر والموت بكل أشكاله، حتى يدفع معارضيه إلى اليأس وفقدان الأمل، ويجعل من مشاركتهم في المفاوضات عاراً عليهم. وعلى الرغم من ضمانات الروس والأميركيين والترك والإيرانيين والمصريين، لم يتردد لحظة في تقويض اتفاقات خفض التصعيد التي جهد الروس لتمريرها، من أجل تحييد فصائل في المعارضة المسلحة، وتجميد الجبهات لتوفير مزيدٍ من القوى المتحرّكة للنظام. وفي يوم افتتاح مفاوضات جنيف 8، حرص على تصعيد القصف بشكل جنوني على المدنيين، ومنع قوافل الأمم المتحدة من إدخال المساعدات للمحاصرين في الغوطة الشرقية لدمشق، ليؤكد إرادة الحرب، ورفضه الانصياع لأي مطلب آخر سوى مطلب الإجهاز على خصومه، واستكمال مشروع الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير القسري، مهما كان الثمن. وسواء بقيت سورية دولةً، أم تحولت إلى مزرعة تعيث فيها مليشيات وعصابات محلية وأجنبية فساداً، وتتحكّم بأجزائها جيوش الاحتلال الأجنبية.
نهاية الحل السياسي
لا ينبغي على المعارضة أن تضحك على نفسها. نظام الحرب لا يمكن أن يتحول، بقدرة قادر، إلى نظام سياسة ومصالحة وتسوية وسلام. ولن يغير من هذا الواقع الذي يعزّزه انتصار إيران في المواجهة الإقليمية، التمسك بقرارات مجلس الأمن، ولا قبول ما تسمى المنصات المعتدلة أعضاء في وفد المعارضة، ولا تأكيدها الدائم حسن نياتها وسعيها، بأي ثمن، وراء الحل السياسي، ولا حتى تنازلاتها في أستانة، وربما قريباً في سوتشي. يمكن لاعتدالها، الشكلي أو الفعلي، أن يستدر لها شفقة المجتمع الدولي، وربما احترام بعض العواصم الخائفة وتقديرها، لكنه لن يحرّك أي إحساس، ولن يضمن لها التقدّم على أي مسار.
وتكذب المعارضة على نفسها، إذا اعتقدت أن روسيا تسعى إلى الحل، لأنها لا تريد أن تغرق في “المستنقع السوري”، أو أن الولايات المتحدة الأميركية مسكونة بهاجس قطع الطريق على التمدد الإيراني، أو أن إسرائيل أكثر ميلاً إلى وضع حد للحرب، بعد أن حققت أكبر أغراضها في تحويل الدولة السورية إلى حطام، أو أن إيران وحدها تتمسك بحالة الفوضى والتقسيم والاقتتال، لتحقق حلمها الامبرطوري الألفي، بالوصول إلى مياه المتوسط وفك عزلتها الدولية. لن يتوقف أي طرفٍ من هذه الأطراف عن القتال، ولا عن المخاطرة باستخدام أكثر الأسلحة فتكاً إذا احتاج الأمر، ما لم يحقق أهدافه، ليس في سورية فحسب، ولكن خارجها ومن حولها وبواسطتها. فالحرب مستمرة في سورية وعليها، ومن خلالها، طالما لم يكن هناك بعد إمكانية لتفاهم الأطراف، لا على تقسيم سورية ومناطق النفوذ فيها، ولا على بقائها موحدة وحيّة. موت سورية الحقيقي كما نشاهده اليوم هو المحصلة الطبيعية لغياب إمكانية التفاهم وتباين، إن لم يكن تناقض، أجندات جميع الأطراف. وليس لبقاء الأسد وحياته أو الإبقاء عليه وظل حكمه ونظامه سوى وظيفة واحدة، هي التغطية على هذا الموت السريري وتمديده في الوقت نفسه. بشار حي، وسيبقى حياً طالما بقيت سورية ميتة وجثة هامدة. ووجوده أكبر ضمانة لغيابها.
“سيبقى الوضع السوري فترة طويلة في حالة استعصاء، خارج إمكانية الحلين، السياسي والعسكري، معاً، أي في حالة اللاحل. وهذا يعني تكريس الوضع القائم”
يبحث الروس عن حلٍّ بالتأكيد، لكنه الذي يضمن لهم تحقيق رهاناتهم وأهدافهم، لا ذاك الذي يضمن الحد الأدنى من العدالة للسوريين، ولا من باب أولى عودة الحياة إلى سورية المستقلة الحرة المزدهرة. والإيرانيون يرون السلام في تمكّنهم من بسط نفوذ مليشياتهم الكامل على جميع الأراضي السورية، وفي كل مستويات حكمها ونظامها. والأميركيون لا طموح لهم سوى الاحتفاظ بالقواعد التي أقاموها، والمناطق التي انتزعوها، بدعم مليشيات محلية أو من دونها، ضمن استراتيجية سيطرتهم الإقليمية، بصرف النظر عن مصير سورية. والإسرائيليون لا يهمهم سوى إبعاد الصواريخ الإيرانية قليلاً عن “حدودهم”، أما الأتراك فليس لهم قضية اليوم سوى الدفاع عن أمن تركيا وحرية حركة قواتها ضد أي خصوم محتملين، داخليين وخارجيين.
وجود بشار الذي لا يعني شيئاً لأيٍّ من هذه الأطراف، وهو ليس مهمّاً لما يمثله سياسياً، وإنما لأنه الضامن الوحيد لتقسيم سورية الراهن بين قوىً لا يمكن أن تتفق أو تتفاهم على أجندة واحدة، سورية أو إقليمية أو دولية. إذا ذهب بشار، سوف يخسر الجميع المكاسب الاستراتيجية الكبرى التي حققوها على حساب الشعب السوري، ويضطرون إلى التفاوض عليها مع حكومة وطنية، ذات شرعية فعلية، وبالتالي حق بالسيادة والاستقلال. ليس تعطيل مسار السلام إرادة أسدية اليوم، بمقدار ما هو إرادة جماعية للدول المستفيدة من تقاسم إرث نظامه المحطم على أشلاء الشعب السوري. وليست إرادة القتال التي لا يكفّ النظام وممثلوه عن إظهارها في جنيف، وعلى الأرض السورية، بعكس ما يحلو لبعضهم الاعتقاد، إلا التعبير الرسمي عن إرادة الاحتلال التي تسكن الوحوش المتعدّدة التي تتجمع حول الفريسة السورية، والتي يقدم لها بقاء الأسد بين الموت والحياة، الذريعة لالتهام ما تستطيعه منها. وبالمثل، ليس تسويقهم لانتصار الأسد سوى تأكيد لانتصارهم هم على سورية، وشعبها الأبي.
لا يعني ذلك أن على المعارضة السورية أن تهجر الساحة السياسية، فمن دونها لن تستطيع أن تحافظ حتى على ظل وجودها، لكن المفاوضات الحقيقية لن تكون مع الأسد، وإنما مع أسياده الحقيقيين، أعني الدول التي يشكل حكمه الهمجي اليوم ضمانتها الوحيدة لشرعنة احتلالها، وتكريس مكتسباتها والبقاء في البلاد. وفي جميع الأحوال، لا ينبغي على المعارضة أن تراهن على تناقضات المصالح بين الوحوش الضارية التي تتكالب على الفريسة السورية للوصول إلى حل، فالتناقضات القائمة، والحقيقية في أكثر الأحيان، هي تناقضات مصالح وتنافس على اقتسام الغنائم. ولا يمكن أن تصل إلى مستوى التناقضات الاستراتيجية، طالما أن احتفاظ كل منها بمكاسبه لا يتحقق إلا بالتفاهم على تحييد السوريين، وإخراجهم من المنافسة، وقطع الطريق، بكل الوسائل، على عودة سورية دولة مستقلة وواقفة على قدميها. وليس اتفاقها جميعاً على بقاء الأسد سوى عنوان التسوية القائمة اليوم في ما بينها، وأساس التفاهم على قتل سورية وتقاسم أشلائها.
هذا يعني أنه، بعكس ما يردّد جميع الفاعلين، بما في ذلك الأمم المتحدة وممثلوها، كالببغاء منذ أكثر من ست سنوات، وهم يعرفون أنهم كاذبون تماماً، لا يوجد حل سياسي للمسألة السورية. طريق الحل السياسي مسدود تماماً، وهذا لا يعني أن طريق الحل العسكري هو المفتوح والمتاح، فلن تسمح أي قوة كبرى لغيرها بأن تبسط سيطرتها الأحادية على سورية مهما كان الثمن. سيبقى الوضع السوري فترة طويلة في حالة استعصاء، خارج إمكانية الحلين، السياسي والعسكري، معاً، أي في حالة اللاحل. وهذا يعني تكريس الوضع القائم، وبالتالي المزيد من التعفن والدمار والوهن والانهيار.
خيارات المعارضة
لا يضير هذا الوضع النظام في شيء، بل إنه يوافق مصالحه وهواه. فهو الوضع المثالي الذي يسمح له بالبقاء والتمادي في القسوة والوحشية وإظهار عدم مسؤوليته واستهتاره بحياة الناس والمجتمع معاً، أي بتحقيق ذاته نظام حرب أهلية دائمة. لكن هذا الوضع يدمر صدقية المعارضة، ويخرجها من أي حساب، ويجعلها مجالاً للسخرية والاستهزاء. وهذا ما يسعى إليه النظام أيضاً من خلال جرجرة المعارضة إلى مفاوضاتٍ فارغة من المعنى، وتقصُّدُه المبالغة في العنف والقصف الوحشي، خلال المفاوضات. وفي ما وراء ذلك تحطيم المجتمع وزرع اليأس والإحباط عند السوريين، وتحويل حلم التحرّر والانعتاق الذي جسّدته الثورة إلى كابوس لا يطاق. من مصلحة المعارضة وحدها أن تكسر هذا الاستعصاء، حتى لا تتحول إلى ألعوبةٍ في يد المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة، أو إلى كرةٍ تتقاذفها الدول المتنازعة والنظام. وليس أمامها في نظري سوى خيارين.
الأول أن تعيد تنظيم قواها العسكرية المتبقية لتجعل منها قوة مقاومةٍ وطنيةٍ، تعمل تحت قيادة سياسية واحدة، لكسر هذه الحلقة المفرغة والقاتلة معاً، وتوفير ذراع عسكرية تعطي لوجودها السياسي ومفاوضاتها ثقلاً ومعنى، وتضمن من خلالها الحفاظ على المطالب الشعبية وتطلعات السوريين نحو الحرية والدولة الديمقراطية التعدّدية، وتحرم نظام الحرب الاهلية، وحليفه المتجسد في الاحتلالات الأجنبية، من أي أمل في الحصول على شرعية الأمر الواقع. وهذا يقتضي تفاهماً بين أطراف المعارضة المسلحة والسياسية، على برنامج عمل وطني واستراتيجية متكاملة.
الخيار الثاني هو انتزاع فكرة المؤتمر الوطني من الروس، وقلب الطاولة على مؤتمر سوتشي الذي يسعى الروس من خلاله إلى استثمار ما يعتقدون أنه نصرهم الكبير، والعمل، بالتشاور مع الدول المختلفة التي ليست ذات مصلحة في الحفاظ على الوضع القائم في سورية، على تنظيم مؤتمر وطني، سوري بالفعل، تعدّ له لجنة تحضيرية سورية، تحظى بثقة جميع الأطراف، وتشرف على تحضير وثائقه، وتحديد جدول أعماله، ووضع قائمة المشاركين فيه من جميع الأطياف السياسية والاجتماعية السورية، يعقد تحت إشراف الأمم المتحدة وقيادتها، وربما في مقرّها أيضاً. وينبغي أن يكون، بعكس مؤتمر سوتشي الذي تتحكّم بكل شيء فيه موسكو، وتريد منه أن يكرّس مكاسبها الاستراتيجية في سورية، مؤتمراً مفتوحاً حتى التوصل إلى تفاهم وحل سياسي بين السوريين.
“أثبتت السنوات الست الماضية أنه لا توجد مصلحة لأحد غير السوريين في حل سياسي”
وحبذا لو أمكن الجمع بين الخيارين: إعادة تشكيل الفصائل المقاتلة في صيغة مقاومة وطنية فوق الأرض وتحت الأرض، وهذا ما يحول دونه تبعية فصائل كثيرة لدول الاحتلال، والعمل على تنظيم مؤتمر وطني سوري بمبادرة سورية، وبرعاية الأمم المتحدة وإشرافها وتحت مسؤوليتها، يقطع الطريق على موسكو وغيرها في احتكار المبادرة للتوصل إلى حل سياسي، تحول دونه، منذ البدء، مصالحها القومية وتناقضها مع مصالح الأطراف الأخرى.
باختصار، أثبتت السنوات الست الماضية أنه لا توجد مصلحة لأحد غير السوريين في حل سياسي، ولا إمكانية لإنهاء النزاع العسكري، قبل أن يحصل تفاهم دولي حول مناطق النفوذ وأشكاله، بل، أكثر من ذلك، حول مصير سورية نفسها. وهذا مما لا يزال صعب المنال. لكن، في المقابل، تشكل زعزعة المخططات القائمة والحيلولة دون تكريس وضع الاحتلال وتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ، المهمة الرئيسية التي على المعارضة السورية أن تُعنى بها اليوم قبل المفاوضات وأي تفاهمات أخرى. ولا سبيل لديها لتحقيق ذلك سوى إحياء روح المقاومة الوطنية، وتظهير إرادة السوريين وتوحيدها.
وعلينا وحدنا، أعني السوريين، تقع مسؤولية انتزاع المبادرة على الجانبين.
العربي الجديد
حين تفاوض الثورة على خروجها/ غازي دحمان
يمكن تصنيف المفاوضات التي تحصل بين المعارضة ونظام الأسد في خانة أغرب مفاوضات، فقد جرت العادة أن الثورات تتفاوض إما على خروج الحاكم الذي حصلت الثورة ضده، وهي حالات نادرة، ذلك أنه في الغالب ما تجري محاكمته، أو التفاوض على خروج المحتل من البلاد، ولم يحصل أن فاوضت ثورةٌ على خروجها، كما يفعل من أطلقوا على أنفسهم اسم ممثلي الثورة بذريعة الواقعية، وكأن الواقعية لم يجر اكتشافها سوى في زمن الثورة السورية. وقبل ذلك لم يكن ثمة شيء اسمه واقعية، وبالتالي لم تضطر الثورات إلى التعاطي معها!
دعك من النيات وماذا تريد المعارضة، ومن البيانات المدبّجة، كلها لا تعدو سوى فواصل ترفيهيه في سياق أصمّ لا يسمع ولا يستجيب، وكل ما تفعله المعارضة هو تدوير الزوايا وتربيع الدوائر لمطابقة التفصيل (الماكيت) الأساس الذي يبدو أنه ليس لدى مصمميه أدنى استعداد للتنازل عنه، كيف وروسيا وإيران قد أعادتا هندسة الجغرافيا والديمغرافيا لتتناسبا أصلاً مع خريطة طريق مشاريعهما، وليس مع ما يريده السوريون، معارضة ونظاما.
ثم على ماذا يتفاوض السوريون، لا شيء بيد بشار الأسد يعطيه لهم، فلم يعد صاحب القرار، وليس مالكا للجغرافيا. في الأصل، حروب روسيا وإيران وأميركا وإسرائيل هي على الجغرافيا، وانتصاراتهم تالياً تقاس بحجم ما حققوه من مغانم جغرافية بيدهم.
ليس بشار الأسد سوى” فزّاعة طيور”، تضعها الأطراف المتخاصمة فوق الأرض المتنازع عليها، والتي لم يُحسم بعد من هي الجهة التي ستمتلكها. لا تغرّنكم كثيرا عنجهية بشار الجعفري، فهذا لا يملك في حقيبته أكثر من تذكرة الطائرة وجواز السفر، ويتقمّص سلوك النمس الذي يقوم بمناوراتٍ ليست من صنعه، وإن كانت بأدائه. وهي مناورات يقوم بتصميمها خبراء الكرملين، وليس فريق وليد المعلم الذي حولته أمراضه وقلة حيلته إلى مومياء، يتم إحياؤها بين فترة وأخرى، لأداء دور صغير، ثم يعود إلى العطالة بانتظار دور هامشي آحر، مثل فاروق الشرع الذي تم ركنه عقدا، وقد يؤتى به لحضور حفل افتتاح مؤتمر سوتشي، الموضوع قيد التداول.
“كان يجب أن تبادر المعارضة السورية إلى فكرة مؤتمر سوتشي، بالدعوة إلى مؤتمر وطني يمثل كل الفئات والشرائح الثورية”
ومع من نتفاوض؟ مع مجرم هاربٍ من العدالة بتهم القتل والاغتصاب، حوّل سورية إلى صرخات مكتومة من نسائها، وموت أطفالها وعيونهم مفتوحة إن لم يكن من الكيميائي فمن الجوع! يريد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إبقاء هذا المجرم بالقوة، بوصفه يمثل رمزاً لقدرته القاهرة. حسنا ليبقه، لكن من دون أن يكون ذلك بموافقة ممثلي الثورة، لا في فترة انتقالية ولا غيرها، وهذا ليس كلاما عاطفيا، بل قمة الواقعية، الارتكابات التي قام بها الأسد تجعل منه شخصا غير قابل للتفاوض معه، حتى لو كان على خروجه هو نفسه من سورية.
لم يحصل أن ثورةً فاوضت المحتل ووكلاءه على خروجها هي، وليس العكس. كل مضمون التفاوض الجاري مبني على هذا الأساس، بذريعة تغير موازين القوى والواقعية، وكأن السوريين عندما ثاروا وخرجوا بصدورهم العارية كانوا يتحكّمون بموازين القوة، والغريب أن المعارضة تحاول الالتفاف على هذه الخديعة بالتذرّع أن المفاوضات تجري من أجل قضايا المعتقلين والمناطق المحاصرة، وهي كذبة كبيرة، فلم يخرج معتقلون، منذ بداية الثورة، إلا نتيجة عمليات تبادل بعناصر إيرانيين وشيعة، ولم يتم فك الحصار عن مناطق إلا مقابل إخراج غالبية أهلها.
صدرت الأوامر الروسية إلى بشار الجعفري بأنه لا بأس من الذهاب إلى جنيف، ولا بأس من التمتع بأكل الجبنة السويسرية والتسكع في ردهات الفندق، المهم أن تورد نشرات الأخبار حضوره، والأهم أن يقطّع الوقت حتى يحين موعد لقاء سوتشي. هناك سوف يتم إحضار سماسرة وقبضايات أحياء وتجار حروب وضباط مخابرات ومخبرين، وسيتم تقديمهم أطياف الشعب السوري وتعدديته الجميلة التي توافقت على بقاء الأسد، للحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى الدولة ومؤسساتها. وحينها سيقول وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، للمعارضة إن اللعبة انتهت، وكل ثورة وأنتم بخير، ألم يخبرهم دي، المبعوث الأممي، دي ميستورا، أن قطار سوتشي سيفرمهم؟
حينها سيتذكّر السوريون أن هذه المعارضة كانت سيئة كما عصابة الأسد، الفارق ريما أنها لم تقتل ولم تغتصب، لكنها ضيّعت ثورة السوريين وحقوقهم، وكان الأجدر بمن لا يجد لديه القدرة والكفاءه على تحصيل حق الثوار الاستقالة، لا الاستقتال على منصب ومهمة ومكافأة. لم تجترح هذه المعارضة أي فكرة خلاقة تستطيع دفع العالم على التمسّك بها. كان يجب أن تبادر المعارضة إلى فكرة مؤتمر سوتشي، بالدعوة إلى مؤتمر وطني يمثل كل الفئات والشرائح الثورية، وتشكل برلمانا وحكومة إنقاذ. نحن أمام معارضة لم تسمح بتشكل هيكيلية ثورية من هيئات ومجالس وجمعيات مجالس عسكرية ومدنية. فقط صنعت هيئة تفاوض، لا خبرة لها في التفاوض.
المعارضة التي تفاوض من أجل تسوية أوضاع بعض أفرادها لا يعوّل عليها، والمعارضة التي تفاوض لأجل تحقيق أفرادها مكاسب سياسية في حكومة تحت جناح الأسد ليست جديرة بالثقة، والمعارضة التي تفاوض على خروج الثورة من سورية، حتى وإن لم تفهم ما بين السطور، الأجدر بها أن تتقاعد.
العربي الجديد
سورية ومرحلة تفكيك التحالفات/ غازي دحمان
بإعلانه الانسحاب من سورية، لم يقصد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخروج المادي لجيشه، بقدر ما كان القصد رمزياً، أو كناية عن إعادة تموضع في المسألة السورية، وليس في جغرافيتها، ذلك أن وجود روسيا في الجغرافية السورية أصبح خارج النقاش، وإنما بوتين يطرح ، في سوق السياستين الإقليمية والدولية، عناصر معينة من القضية، بهدف صيانة علاقات روسيا، وإعطاء دورها الشرق أوسطي زخماً جديداً.
أراد بوتين القول إن روسيا التي كانت قبل سنتين في سورية، تنسحب لتحل مكانها روسيا جديدة تتناسب مع طبيعة المرحلة والتي بدورها تحتاج الى آليات مختلفة غير الطائرة والمدفع، بقدر ما تحتاج إلى تفاهمات إقليمية ودولية جديدة.
على ذلك، فإن هذا التموضع الروسي لا يأتي ترفاً بل تجد روسيا نفسها مجبرة على فعل ذلك، وإلا فإن كل ما حققته سينتهي بالفشل وكل ما استثمرته في سورية والإقليم سيتحوّل إلى ثقب أسود يبتلع كل الرصيد السياسي المتحقق لروسيا، ويدرك الكرملين أن ما بين النجاح والفشل شعرة صغيرة تتعلق بحسن إدارة المرحلة الانتقالية، انتقال روسيا من الحرب إلى التسوية، وليس هناك أفضل من هذا الوقت لإدارة العملية قبل أن تتغير الشروط والمعطيات.
المرحلة تبدأ إذاً بإعادة هيكلة التحالفات أو أقله إعادة صياغة التفاهمات، فمع انتهاء العمل العسكري انتهت الأهداف المرحلية ذات الصلة بنجاح هذا العمل من خلال الانتصار على معارضة الأسد وجلبها إلى طاولة المفاوضات وفق لائحة الشروط الروسية، والآن ثمة قضيتان مهمتان في سورية، نجاح عملية السلام، وإعادة الإعمار، ولهاتين العمليتين حلفاؤهما والجهات القادرة على إنجازهما.
التفارق بين روسيا وإيران أصبح واقعاً تفرضه الوقائع والمصالح، ذلك أن مشروع روسيا في سورية بات يشترط وقف الحرب لاستكمال بقية عناصر المشروع، بخاصة بعد أن تكشّف أن الاقتصاد والاستثمارات والسيطرة على إنتاج الغاز وخطوط نقله ستتحوّل إلى روافع لاستمرار المشروع الروسي، على رغم الأهمية الجيوسياسية التي حققتها قاعدة حميميم وميناء طرطوس عسكرياً، لكن روسيا بحسابات الربح والخسارة ليست في حاجة الى نقاط حراسة لمراقبة أمواج البحر المتوسط، بقدر حاجتها الى استثمارات تضخ الأرباح لخزائنها ولحسابات النخبة الموسكوفية المحيطة ببوتين.
أما إيران، فإن مشروعها لم يكتمل بعد، وما زالت في حاجة الى حروب ومعارك قد تستهلك العقد القادم كله لتثبيته، فهو ليس مجرد طريق لا تزال إيران في طور تصميم رسمه ولا تزال تعترضه قطوعات كثيرة ويحتاج الى ترتيبات أكبر من ظهور قاسم سليماني في هذه البقعة أو تلك، ما زال لديها عمل كثير لتطويق إسرائيل من جنوب سورية ووصل مناطق القلمون بسلسلة جبل لبنان الشرقية، وضمان عدم عودة اللاجئين نهائياً لتحقيق التوازن الديموغرافي المستحيل. ما زال مشروع إيران أو الجزء المهم منه على الورق وحتى الجزء المنفذ يحتاج الى حروب أطول وزمن أكبر حتى يستقر.
وروسيا غير معنية بانتظار إيران ولا مشاركتها صراعاتها القادمة. وبالتأكيد، تدرك موسكو أن هذا المشروع غير عقلاني ويستحيل إكماله وبالتالي هي تخرج نفسها منه، وعند هذه اللحظة تبرز الفوارق وتتعمق بين روسيا وإيران، اللتين دمجتا في مرحلة سابقة قواتهما البرية والجوية لإنجاز مهمة السيطرة على الأرض السورية، حينذاك كانت إيران بالنسبة الى روسيا شريكاً مهماً لديه الجرأة على التضحية بآلاف الجنود، وهو أمر لم تكن روسيا المرعوبة من شبح أفغانستان قادرة على الإقدام عليه.
وأهم تلك الفوارق أن روسيا بلد له عقلية استعمارية تخضع سلوكها العسكري لحسابات الربح والخسارة، كما تمثل الرشاقة في إنجاز المهام معياراً لتحقيق النجاح فيها، يضاف إلى ذلك تحررها من الأحمال الأيديولوجية التي قد تثقل حركتها وتكبل مرونتها، في حين أن إيران بلد متخلف تحكمه أيديولوجيا رجعية لا تقاس النجاحات لديه بمعايير السرعة والربح بل إن دوام الحروب واستمرارها فرصة لتوليد الفوائد التي غالباً ما تؤدي إلى إخضاع المجتمع المحلي الإيراني وتدمير الجوار.
المهمة الروسية في الجزء الأكبر منها انتقلت إلى المجال السياسي، بما فيها تثبيت بشار الأسد في السلطة، أقله إلى حين إيجاد البديل من داخل النظام، وذلك سيتطلب خلق ديناميكيات سياسية جديدة، ويحصل ذلك في مناخ أقل توتراً ما قد يشكل عاملاً مساعداً في إنجاح قيام شبكة أو شبكات علاقات جديدة بين اللاعبين المختلفين.
وحتى تستطيع روسيا تسويق طرحها السياسي في سورية ستضطر إلى تكييف شروطها كي تتمكن من بناء مصالح مشتركة مع اللاعبين المؤثرين، إقليمياً ودولياً، مع وجود احتمال دائم بإمكان تعقّد الحل واستمرار حال اللاحرب واللاسلم في سورية فترة زمنية طويلة، إذا أصرت روسيا على فرض الحل وفق رؤيتها وبشروطها، فليس ثمّة أطراف مضطرة لإنقاذ بوتين وحليفيه نظام الأسد وإيران.
* كاتب سوري
الحياة
بشار الجعفري ودبلوماسية البلطجة/ يحيى العريضي
في جولة جنيف (التفاوضية السورية) الثامنة التي زاد امتدادها على العشرين يوماً؛ حضر رئيس وفد النظام منها بضع ساعاتٍ، أمضاها صمتاً ثم نطق كفراً بالمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، وبمن أرسله وبمن أتى لـ “مفاوضتهم”، والأكثر بأهل سورية الذين طالما تحدث باسمهم زوراً وبهتانا. كان نطقه نسخةً وترجمة لسبع سنين من الانفصام عن الواقع وتزييفه. وكما البلطجة والإجرام بحق سورية وشعبها طوال تلك السنين، كانت سرديته كذلك، لا بشهادتنا، بل بشهادة معظم من سمعه. ما ميّز أداءه في أثناء هذه الجولة هو ارتفاع منسوب التوتر والصفاقة والفُجر والتحدّي، حتى للأمم المتحدة ومبعوثها؛ وكأنه كان على علم بالتصريحات الوقحة البلطجية لزميله الروسي في الأمم المتحدة، وشروطه الخمسة “للحل السياسي” في منتجع سوتشي.
كان في وسع بشار الجعفري توسيع طيف الحديث “الوطني” الذي طالما سطا عليه واستخدمه “متحدثا باسم سورية”؛ وأن يضيّق من /الشخصنة/ التي ادّعى، في مرافعته، أنه لا يستخدمها؛ إلا أنه أثبت حِرَفيّته ومهنيته ردّاحا شتاما كذوبا. فحتى اللحظة، وعلى الرغم من ثماني جولات في جنيف للبحث في حل سلمي لسورية، ما زال الجعفري يتمترس عند تسمية مَن يقول “لا لمنظومة الاستبداد” التي يمثلها بـ “المجموعات الإرهابية المسلحة”؛ وإن أراد أن يكون ناعماً
“ما أرادت منظومة الاستبداد التي يمثلها الجعفري، ولا آمنت، يوماً بحل سلمي للقضية السورية”
ودبلوماسياً يدعوهم “عملاء مأجورين ومشغّلين من الخارج”. حقيقة لا بأس بذلك؛ فإن كان سيده على هذه الدرجة من الانفصام عن الواقع، فلا عتب إن نطق زوُراً كلما تنفس.
لا حاجة للتذكير بأنه مع كل استحقاق سياسي، ومع كل جولة مفاوضات، يوقت “النظام” الذي يمثله الجعفري بفعل إرهابي، لكي يبعد اهتمام العالم عن الاستحقاق ذاته. ولكن الجعفري، في جولة جنيف هذه بالذات، ألبس ذلك الفعل للمعارضة ذاتها بأنها هي التي توقّت الاستحقاق بفعل إرهابي، مستعيراً خطابها الصادق، كي يلبسها فعل نظامه.
لم يكترث الجعفري لتوثيقات الأمم المتحدة التي تسجّل رسمياً كل وثيقة تُقدَّم إليها، فتحدّاها بكل فجور، قائلاً إنه سلّمها ثلاثأ وعشرين وثيقة. ذلك ممكن، إن كان الجعفري يعتبر تلك الورقة المأخوذة من “كتاب القومية” للمرحلة الإعدادية وثيقة؛ وإن كان يعتبر الاثنين وعشرين تأنيباً وتوبيخاً للمبعوث الأممي وثائق للعملية السلمية.
عندما يقول بشار الجعفري إنه “لا يريد لمسار جنيف أن يفشل”، فإنه محقّ؛ لأنه لا يريده أن يفشل، بل أن يُلغى من الوجود، كما تمنى أو أراد معلمه، وليد المعلم، أن يلغي أوروبا من الخريطة العالمية. ومعروفٌ أن نظام الجعفري ما ترك حجةً أو ذريعة كي لا يأتي إلى جنيف؛ فمنبر “نيويورك” بيئة أفضل لتسويق سرديات الادّعاء والتزييف بوجود المندوب الروسي صاحب الشروط الخمسة والأحد عشر فيتو. هناك، يمكنه، بكل بلطجية، أن “يحدّد ولاية المبعوث الدولي”، كما جاء في تصريحاته في جنيف. هناك ربما، وبوجود البلطجية الروسية، يمكن أن يكون شريكاً لروسيا بعضويتها الدائمة في مجلس الأمن.
عندما يقول الجعفري إنه “لا عواطف ولا مشاعر في السياسة”، كان يحاضر على العالم، كما حاضر على المبعوث دي ميستورا في الجغرافيا السورية في قاعة المفاوضات؛ وسجلها أحد مرافقيه بكل صفاقة ووقاحة وتحدٍّ للأمم المتحدة. حقيقة كان على الجعفري، لو كان للصدق مكان في حياته، أن يضيف، إلى “لاءاته”، “لا مشاعر ولا عواطف”، لا صدق، لا أدب، لا احترام، لا إنسانية…؛ وبذا يعكس تماماً صورة “النظام” الذي يمثل وسلوكه ومنهجيته. ومن غير المستغرب أن يبوح الجعفري بذلك يوماً؛ ولكن الأمل يبقى ضعيفا جداً.
أخيراً، وليس آخراً. منذ البداية، أراد الجعفري، ومن يمثل، أن يفصّل لهم العالم معارضةً كما يرغبون وكما يشتهون. وآخر طلب لهم كان أن يفاوضوا وفد معارضة واحداً. فكان لهم ما أرادوا. لكن حجتهم الآن أن البيان الذي أخرجته وتبنته المعارضة الواحدة يجب أن يُسحَب؛ ويجب ألا يكون فيه ذكرٌ لسيده. واضحٌ أن الجعفري، ومن خلفه زميله الروسي في نيويورك، لا يريدان سحب البيان، بل سحب واستئصال كل من يقول لا للأسد ومنظومته الإجرامية. ولكن هذين الشخصين لا يعلمان أنه لو سُحبَت رقبتاهما ورقبة الذي يدافعان عنه؛ لن يُسحَب ذلك البيان؛ لأنه منسجمٌ مع القرارات الدولية، ومع إرادة شعب سورية. يكفي المندوب الروسي أن يتذكّر أن بلده قالت إن السوريين يقرّرون مصير بلدهم، والآن يشترط عدم بحث مصير بشار الأسد.
“ما ميّز أداء الجعفري في جولة جنيف 8 ارتفاع منسوب التوتر والصفاقة والفُجر والتحدّي، حتى للأمم المتحدة ومبعوثها”
ما أرادت منظومة الاستبداد التي يمثلها الجعفري، ولا آمنت، يوماً بحل سلمي للقضية السورية؛ ولا تزال تتمترس مع إيران ومليشياتها عند شعار “أحكمها أو أدمرها”، حتى لو استلزم ذلك استدعاء احتلال أجنبي لسورية، وبيعها بالرخيص في مقابل كرسي الدم. وهذا ما بات يعرفه السوريون والعالم.
ما حدث في “جنيف 8” كان فضحاً وكشفاً، لا للمنظومة التي يمثلها الجعفري فقط، بل لروسيا المحتلة لسورية؛ وهو برسم الشعب السوري الذي لا يعبأ به، أو له، نظام فاشي قتل شعباً وشرّده ودمر بلداً عندما طلب جرعةً من الحرية. ما حدث في جنيف برسم روسيا التي انكشفت تماماً منظومة دكتاتورية محتلة. إنه برسم الأمم المتحدة التي يمرّغها الجعفري بالتراب. عملياً، لا ندري كيف تسمح هذه الأمم المتحدة بدخول مخلوقٍ كهذا إلى مبناها؛ وهو لا يزال يرافع عن قتل نصف مليون سوري ودمار نصف بلد وبيعه للاحتلال!
العربي الجديد
كل الطرق تؤدي إلى سوتشي/ فاطمة ياسين
يضع المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، اللوم على الوفد الحكومي في أحدث جولات المفاوضات في جنيف أخيراً، ويقول بشكل واضح إن المفاوضات فشلت، وإن فرصة ذهبيةً قد أهدرت.. وهذه ليست المرة الأولى التي يُفشل فيها وفد النظام سيرَ المفاوضات، بتركيزه على عنوان وحيد في أثناء التفاوض، اسمه “محاربة الإرهاب”.
يعتبر وفد النظام أن الطرف الآخر المفاوض هو من الإرهابيين الذين “يناضل” مع الروس ضدهم، ولا يزال يرفض، إلى غاية الجولة الثامنة، الجلوسَ معهم على طاولة واحدة. وبغض النظر عن هذه المفارقة الطريفة، لم تكن هناك أي فرصة ذهبية ليتم هدرها، لكن دي ميستورا يستعير هذا المصطلح من عالم كرة القدم، خصوصاً العبارة التي تقال لمن ينفرد بالمرمى، ويطيح الكرة بعيداً، ويحلو له تكريس هذا الوهم على أنه واقع، ففي جنيف لم يكن هناك سوى وفد يرى نفسه سفيراً فوق العادة لمكافحة الإرهاب، وفريق مقابل تغلب عليه الحيرة، ولا يجد في كل جولة مفاوضاتٍ إلا دي ميستورا ليكلمه.. لكن ثمة عاملاً جديداً دخل على الخط، مطيحاً “جنيف” قبل أن يبدأ، وهو مؤتمر سوتشي.
ترغب روسيا، بشكل مستتر، في نقل المحادثات من جنيف، ذات الطابع المحايد، والتي تفضل الأمم المتحدة أن تعقد مؤتمرات “اللا غالب ولا مغلوب” فيها، إلى سوتشي، وهي مدينة سياحية على البحر الأسود، تقع تحت السيادة الروسية بالكامل. وروسيا قدمت نفسها عراباً لبشار الأسد طوال سنوات الحرب، عبر عدد غير مسبوق من الاعتراضات الدولية في مجلس الأمن لصالحه. هناك في سوتشي يمكن لروسيا أن تطرح رؤاها بحرية، وقد يكون لديها ترف اتخاذ القرارات. قد يشعر الجميع بتواطؤ دولي، لإعطاء فرصة لسوتشي، أو للرئيس فلاديمير بوتين الذي قدَّم استعراضاً فردياً في زمن انعقاد جنيف، فحط في قاعدة حميميم “السورية”. وحظي هناك باستقبال مضاعف من جنوده أولاً ثم من الأسد، ثم انتقل، خلال يوم، من القاهرة إلى أنقرة، وكأنه أحد سادة الإقليم. وبمجرد عودته من جولته في المنطقة، كان دي ميستورا يقول إن “جنيف” قد فشل، ممهداً كل الطرق إلى سوتشي.
بات معروفاً أن لروسيا أداءً خاصاً فيما يتعلق بالشأن السوري، فهي على الرغم من مواقفها المتحفظة عن إصدار القرارات ضد الأنظمة في ليبيا واليمن وغيرهما من دول الربيع العربي، كانت على الدوام متعنتةً في قبول الإجراءات ضد الأسد، إلى أن جاءت لحظة التدخل العسكري، ومن بوابة الجو، فدخلت صواريخ سوخوي الروسية. وبذلك وسعت روسيا وجودها الفعلي، وتحولت من مجرد جالية بحرية في طرطوس إلى قاعدة جوية ضخمة، قادرة على استيعاب عدد أكبر من “السوخوي”، بالإضافة إلى تحويلها القاعدةَ البحرية الصغيرة في طرطوس إلى ميناء قادر على استقبال حاملات الطائرات. وكان بوتين يذيع خبر “سحب” بعض قواته من سورية، بعد أن أنهت مهامها. ويؤكد، في الوقت نفسه، بأن هاتين القاعدتين باقيتان لجيل كامل في المستقبل. شككت الولايات المتحدة في سحب القوات الروسية، لكنها لم تبد أية ردة فعل على القواعد العسكرية الدائمة، بما يعني القبول، وإن على مضض.
بعد الرضى الواسع عن الوجود الروسي الذي تقبّله بعضهم لكونه موازياً للوجود الإيراني وكابحاً له، وبعد الصمت المطبق على وجود القواعد الروسية في أكثر الأماكن حساسية من سورية “المفيدة”، تم تكريس هذا المصطلح وتجسيده، ليصبح حقيقةً سياسية، ولاحقاً جغرافية، وأصبح في وسع دي ميستورا أن يعلن أن جنيف قد فشل. ولحفظ ماء الوجه، وصف الفشل بأنه هدر فرصة ذهبية، والفشل الذي قصده هو من النوع الذي لن تقوم له قائمة. ومن المفيد التفكير بأن حلقات جنيف قد تتوقف عند الرقم ثمانية، وعلى من يريد متابعة التسوية أن يقبلها على الطريقة الروسية، أي من بوابة سوتشي.
العربي الجديد
بين إذلال بشار وإبقائه/ عمر قدور
ثلاثة أسابيع فقط انقضت بين نشر موسكو صور زيارة بشار، أو استدعائه كما أوحي بذلك، إلى سوتشي، ونشرها صور زيارة بوتين إلى قاعدة حميميم في سورية. في الحالتين، تعمد الروس نشر صور مهينة لبشار، وغير مألوفة في البروتوكول الديبلوماسي، وكان آخرها (في حميميم) التدخل الجسدي من قبل عسكري روسي لمنع بشار من اللحاق ببوتين.
قبلها كانت أوساط روسية مقربة من الكرملين قد شبّهت بشار بذنب الكلب، قبل أشهر من وصف ترامب له بالحيوان، وفي كل الحالات يتضح ذلك الإصرار الروسي على إذلاله علناً، لتكون الرسالة الأهم في الإشهار لا في الفعل نفسه.
مع صمت بشار على إهانات الحليف الروسي، يتوجب علينا فهم الرسالة التي تنص على وقوعه موقع الخانع المطواع. لكن مهلاً، لندع اعتبارات الكرامة الشخصية جانباً، ولنفكّر في المقايضة القائمة حالياً. فبالتزامن مع تسريب إهانات حميميم سُرّب خبر عن وجود تفاهم بين بوتين وترامب مفاده تفاهمهما على بقاء بشار حتى 2021، أي حتى انتهاء ولايته بموجب الدستور الذي فصّله على قياسه بعد عام من اندلاع الثورة. هذه المقايضة تذكّر أيضاً بإهانة ترامب له، وكانت تتضمن عملياً الاكتفاء بالضربة الأميركية المحدودة لمطار الشعيرات، إثر الهجوم الكيماوي على خان شيخون، وإعفاء بشار من المحاسبة على نقضه صفقة الكيماوي مع الإدارة الأميركية السابقة.
الحق، مع تنحية الاعتبارات الشخصية، أن المعنيّ يحظى بصفقة رابحة حالياً، انطلاقاً من أن هدفه «الأسمى» هو التشبث بالسلطة ومغانمها. في الأصل لم يكن من معنى لاستجلاب الاحتلال الإيراني والميليشيات الشيعية، ثم الاحتلال الروسي، سوى خدمة هذا الهدف، وكان محتماً أن يمر الاحتماء بتلك القوى بالتذلل أمامها، ما دامت العلاقة هي بين ضعيف مهزوم وقوي بات يملك زمام المبادرة. بالطبع، بعيداً من الاعتبارات الشخصية، يلزم أيضاً تنحية الحديث عن السيادة الوطنية، فالمقايضة هي بين محتلين كبار لهم حساباتهم الاستراتيجية ومتشبث مكتفٍ بالسلطة ضمن الحسابات الأصغر.
مع ذلك، ثمة ما يثير الارتياب في الإصرار الروسي على إظهار السيطرة المطلقة على بشار، حتى مع تفهّم نزعة استعراض القوة لدى بوتين. الأخير لا يحتاج لإثبات سطوته على الأول أمام الغرب، لأن أجهزة الاستخبارات الدولية قادرة على معرفة خريطة توزع القوى في سورية، ولا يحتاج لإيصال هذه الرسالة إلى الحليف الإيراني «الصامت» لأنه أقدر من غيره على معرفة مدى سطوة كل منهما. وإذا كانت السطوة حقيقية فمدلولها أن كل ما يفعله تنظيم الأسد هو بإشراف روسي مباشر، بما في ذلك أداء وفده في مفاوضات جنيف وشروطه التي تنص تحديداً على إسقاط المعارضة مطلب تنحي بشار، لنعود إلى معادلة الإذلال مقابل البقاء.
سيكون أيضاً من الخطأ الظن، كما يذهب بعض التحليلات، أن إعلان بوتين من حميميم سحب جزء من قواته هو شكل إضافي من أشكال الضغط على بشار. وهو كما نعلم الإعلان الثالث من نوعه، من دون ترجمة على الأرض، بل هو أعقب الإعلانين السابقين زيادة في عدد القوات وفي عتادها. إذا صدق الإعلان، على رغم تقليل الإدارة الأميركية من صدقيته، فهو على الأرجح خبر سار لبشار مع تراجع الخطر على قواته، ومع إدراكه أن الروس لن يضحوا بالنصر الذي يتباهون فيه، ويحاولون الإيحاء بأن نصرهم وحدهم في تجاهل للميليشيات الإيرانية والشيعية الشريكة في القتال على الأرض.
حتى موعد ترجمة ألفاظ ومشاهد الإذلال بشكل مختلف، يمكن فهمها بغير طريقة أيضاً. قد تفيد إضافة وزير الخارجية الفرنسي الذي وصَفه مؤخراً بالوحش، لكنْ الوحش الموجود والذي لا حيلة إزاء بقائه! فأن يوصف شخص بكافة الأوصاف التي ينبغي أن تؤدي إلى إزاحته من أدنى موقع قيادي وأن تخضعه للمحاكمة، وأن يُعامل واقعياً أدنى بكثير من موقعه الشكلي، ثم يُفرض بقاؤه رئيساً على السوريين، فهذا يرقى لأن يكون تنكيلاً متعمداً لم يُمارس في حق شعب آخر. في الحالة الفلسطينية مثلاً، كان هناك دائماً إنكار للإرهاب الإسرائيلي يسوّغ دعمه، ما يعني الاحتفاظ بقليل من الحياء تجاه المعايير الإنسانية عامةً. شماتة قسم معتبر من السوريين بإذلال بشار تصلح للاستهلاك البَيْني فقط، بوصفها رداً على شماتة مواليه المحتفية ببقائه بأي ثمن إلى الآن.
هذا في الأمد القريب، أما إذا استرجعنا السابقة الوحيدة في المنطقة فقد نصل إلى النهاية المنطقية. القوى الدولية التي أذلت ديكتاتوراً من وزن صدام حسين، بتفتيش غرف نومه في قصوره، فضلاً عن النعوت السلبية التي راحت تسبق أو تلحق باسمه، لم تكتفِ بالإذلال بل صار بقاؤه مع فضيحة الإذلال عبئاً عليها. ويبقى الإذلال الحقيقي الذي تعرض له صدام هو مثوله أمام المحكمة، على رغم ما شابها من استعجال ثأري منعَ محاكمات أخرى، وعلى رغم أدائه المتمكن فيها. ديكتاتور مثل صدام لم يدفعه الإذلال السابق إلى التنحي، أو إلى وضع حد لحياته بنفسه، وهذا سلوك معتاد لدى طغاة المنطقة يؤكد على أن الجشع للسلطة ومكاسبها يتفوق على الاعتبارات الشخصية كما يفهمها الأناس الطبيعيون.
في كل الأحوال، لا سلوى حقيقية يقدّمها تصغير بشار، طالما بقي على حساب التصفير المطلوب لما يُعرف بعقدة الأسد. الإيحاء بأن ورقة بشار مُمسَكة جيداً شأن مختلف عن رميها، أو عن المطالبة بثمن باهظ لقاء رميها، وهو الثمن الذي لا يريد الغرب دفعه. رهان بشار الأكبر لم يعد على حلفاء يتلهفون لقبض الثمن، وإنما على خصوم لا يرون حاجة إلى دفعه، مع افتراق في مصالح الحليفين، إذ تسعى موسكو إلى قبض الثمن دولياً بينما تريد طهران قبضه إقليمياً.
سيكون مؤسفاً بالطبع أن ثمناً ما سيُدفع في مكان آخر لقاء هذه الصفقة، أو أن تبقى الحال على ما هي عليه فيدفع السوريون وحدهم الثمن. كان يمكن تلافي هذا الوضع بوضع العراقيل أمام طموحات بوتين، بدل انتظار أن تحترق هذه الورقة في يده فيقتضي التعقل رميها، فضلاً عن الافتقار الحالي إلى قيادة دولية تقدّم مثلاً مرموقاً عن التعقل.
الحياة
لماذا يرفض النظام السوري تسوية على مقاسه؟/ أكرم البني
حين تتنازل المعارضة السورية وتعلن جهوزيتها للتفاوض المباشر مع ممثلي النظام من دون اشتراطات مسبقة، وحين تسعى روسيا لفرض خطة جديدة للتسوية السياسية لا تمس أركان الحكم القائم، وتتوسل نتائج اجتماعات الآستانة ومؤتمر واسع للسوريين يزمع عقده في سوتشي في شباط (فبراير) المقبل، وحين يغض النظر عن استخفاف النظام بمفاوضات جنيف، عن استهتاره بالمواعيد الأممية، عن مناكفاته لتمرير اشتراطاته ورفض أي لقاء مباشر مع ممثلي المعارضة، ثم تفننه بتسخير ما يمتلكه من خبرات لتمييع تلك المفاوضات وإفراغها من محتواها، حينئذٍ يمكن تفسير حيرة من يتساءلون، لماذا يرفض النظام السوري ويعرقل تسوية سياسية ترسم على مقاسه وتضمن استمراره؟!
ربما لا يخطئ من يعتبر المشهد مجرد تبادل أدوار بين النظام السوري والأطراف الداعمة له، فبينما تظهر موسكو بمظهر الحريص على الحل السياسي والمشجعة على تقديم التنازلات، يترك للنظام ومن خلفه إيران مهمة التشدد والتصعيد، والهدف المضمر هو ربح الوقت لتعزيز التقدم العسكري وقضم المزيد من المناطق الخارجة عن السيطرة، بما فيها تلك الخاضعة للتهدئة وخفض التوتر، ما يفسر صمت موسكو، إن لم نقل تواطؤها، تجاه الاختراقات المتكررة للهدن من قبل قوات النظام والميليشيات الإيرانية، ثم تصعيدها معهم، مع اقتراب كل جولة تفاوض، للقصف والحصار والعمليات العسكرية التي اتسعت هذه المرة وشملت أرياف حماه وحمص ودرعا وإدلب والفوطة الشرقية، وفي الطريق يمكن لروسيا توظيف تشدد النظام وإيران، لاستنزاف وتحجيم المعارضة السورية وتطويعها سياسياً وعسكرياً وزيادة عزلتها شعبياً وعالمياً، وأيضاً لانتزاع ما يلزمها من تنازلات من قبل أطراف دولية وإقليمية لا تشغلها مأساة السوريين وما يكابدونه بمقدار ما تشغلها مواجهة بقايا الإرهاب الإسلاموي، بما يمكن موسكو من الالتفاف على بيان جنيف (2012) وقرار مجلس الأمن 2254 وتسخير الملف السوري في صراعها التنافسي على النفوذ.
وربما يصيب من ينظر إلى المشهد من زاوية مغايرة جزئياً، ويرى مصلحة جدية لقادة الكرملين في الإسراع بإنجاز تسوية سياسية، ربطاً بتزايد خشيتهم من الغرق في صراع سوري مفتوح على مختلف التدخلات الخارجية، قد يستنزفهم مع الزمن، ويجهض ما حققته قواتهم من نتائج عسكرية، ويفقدهم القدرة على التحكم بخيوطه، وربطاً بإدراكهم صعوبة محاصرة الوجود العسكري الإيراني في سورية وتخفيف مخاطره على حدود إسرائيل، وأيضاً صعوبة تشجيع الدول الغربية والعربية للمشاركة بإعادة الإعمار، إن لم يبادروا لخلق مستوى مرضٍ من الاستقرار والتوازن السياسيين، وأخيراً ربطاً بحاجة داخلية تتعلق بتوظيف دورهم في تخميد الصراع السوري ومعالجته سياسياً، كورقة قوة مع اقتراب موعد الانتخابات.
وبين الاستجابة لرغبات الحليف الروسي وضغوطه لتمرير حل سياسي وبين الميل للاستقواء بالنهج الحربي الإيراني، تتأرجح مواقف النظام السوري وتتلون، فإلى جانب موافقته الشكلية على التسوية والمفاوضات إرضاءاً للمنقذ الأكبر، لا يدخر أي جهد، عملياً، لإفشالهما، ولا يضيع فرصة للسير قدماً نحو تحقيق الغلبة والحسم النهائيين، يغريه ما يسميه انتصارات واسعة تحققت على الأرض والدعم غير المحدود من حكومة طهران وحرسها الثوري، اللذين باتا يعتاشان على مناخات الفوضى الأمنية والشحن المذهبي، ويتحسبان جيداً من أن تفضي التوافقات السياسية إلى تعريتهما ومحاصرة ما راكمتاه من نفوذ قهري في المشرق العربي.
وأخيراً، ربما لا يجانب الصواب من يربط رفض النظام السوري لأية تسوية سياسية، بالبنية التكوينية لهذا النوع من الأنظمة الذي يخشى السياسية ولا يعرف غير القمع والتنكيل طريقاً لضمان استمراره وسطوته، والقصد أن تغييب الحقل السياسي هو عادة أصيلة عند سلطة معجونة بتاريخ طويل من القهر والغلبة، يعززها نهج أنتجته وفرة من تجاربها القمعية، بأن العمل المجدي لدوام سيطرتها ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم ونيل ثقتهم بل الاستمرار في إرهابهم واذلالاهم وشل دورهم، وإذا أضيف تحسب بعض رجالاتها من دور أي تسوية سياسية في تقريب ساعة المسائلة والحساب والعقاب، بخاصة أولئك الذين أوغلوا في ارتكاباتهم، وأضيفت أيضاً، حقيقة أن السلطة القائمة هي خير من يعرف أن القطيعة بينها وبين قطاع واسع من المجتمع وصلت إلى نقطة لا رجعة منها جراء ما أباحته من قمع وقتل وتدمير، وتدرك تالياً، حتى وهي في موقع القوة، أخطار الإجراءات المرافقة للحقل السياسي، حتى الشكلية منها، المتعلقة بصياغة دستور جديد وخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية وتشكيل هيئة حكم انتقالي، إن لجهة هتك هيبتها وسطوتها، وإن لجهة تحريض الخلافات في بطانتها وبين مراكز قوى متباينة المصالح والأهداف تشكلت في آتون الصراع، وإذا أضيف أخيراً ما قد يكشفه المسار السياسي عن دورها ومسؤوليتها في المشاكل الناجمة عن الحرب وتداعياتها، كالتهتك والتردي الاقتصاديين والأوضاع المعيشية المزرية ومعضلات الخراب والأمن والتفكك الوطني والفساد وقضايا اللاجئين والمعتقلين والمغيبين والمشوهين، يمكن الوقوف عند أهم الأسباب البنيوية التي تؤكد عجز السلطة السورية عن خوض معركة سياسية ومدنية مكشوفة، وشدة تحسبها من أن يفضي ذلك لتفكيك بنيتها وسطوتها، وتالياً عمق دوافع رفضها الامتثال لقواعد الصراع السياسي.
والمشهد المحزن: مفاوضات تراوح في مربعها الأول، ووفد معارض يناشد النظام كي يكون شريكاً له في التفاوض… والمشهد المؤلم: سلطة تدعي الانتصار وتتبختر فوق هذا الركام، لا مكان في دنياها للسياسة، أباحت البلاد أمام مختلف أدوات الفتك والتنكيل كي تئد حلم الشعب بالحرية والكرامة… والمشهد المؤسف: وسيط أممي يصارح المعارضة اليوم، بأنها لا تمتلك أي سند دولي يشجعها على الذهاب إلى مؤتمر سوتشي، ولكن يعدها شخصياً بأنه سيبقى وفياً لسلاله الأربع ولبيان جنيف وقرارات مجلس الأمن، بينما يهز رأسه عاجزاً ومتهرباً من مفاتحة النظام بمأساة المعتقلين والمفقودين والمحاصرين والمعذبين!
الحياة
معضلة بوتين السورية/ مروان قبلان
يبدو الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في المرة الثانية التي يعلن فيها سحب الجزء الأكبر من قواته من سورية (كانت الأولى في مارس/ آذار 2016)، أكثر ثقةً بأن أهداف حملته العسكرية، أو معظمها، قد تحققت، إذ وأد أحلام التغيير في سورية، واستتباعاً في المشرق العربي، وقرّر أن لا ثورة هنا تصل أصداؤها إليه هناك. لكن الرجل الذي يؤمن “بفضائل” القوة واستخداماتها، وقد استخدمها في سورية بكيفيةٍ استعراضية، وهمجية أيضاً، إرضاءً لغروره الذي ثلمه الأميركيون في أوكرانيا، بدأ يدرك أن للقوة حدوداً فيما تستطيع تحقيقه، وأن نصره السوري “المبين” مهدّد بالضياع، لا بل يمكن أن يتحول إلى مصيدة، إذا هو لم يتمكّن تثميره سياسياً، وهو على ما يبدو هدف جولته الشرق أوسطية الراهنة.
بدأ بوتين من حيث أراد أن ينتهي بزيارة غير معلنة إلى القاعدة العسكرية التي بات يملكها في سورية، ومنها أعلن انتصاره في “الحرب على الإرهاب”، بطريقة نكهتها الأميركية ظاهرة (قارن إعلان بوش الابن “إتمام المهمة” بعد سقوط بغداد). وعلى الرغم من أنه وجه رسائل في مختلف الاتجاهات، فإن رسالته الأهم هنا كانت إلى الداخل الروسي الذي يستغل بوتين عطشه إلى أمجاد ضاعت في خضم الانهيار الكبير، والهزيمة المذلة أمام الغرب في الحرب الباردة، وتوظيف صوره واقفاً على حطام السوريين للفوز بشعبيةٍ على أبواب انتخابات رئاسية مهمةٍ العام المقبل.
لكن هذا كله، ومعه المكاسب الاستراتيجية الأخرى قد تضيع، إذا لم يستطع بوتين تحويل “إنجازاته” الميدانية إلى حالةٍ مستقرة مقبولة سورياً واقليمياً، لأن البديل هو استمرار الاستنزاف العسكري المرهق مادياً وبشرياً والمكلف سياسياً وشعبياً. لذلك، يغدو قرار الانسحاب هنا عديم المعنى، إذا كانت تستتبعه عودة القوات، في كل مرة، لحماية النتائج المتحققة، كما أشار بوتين، في خطابه أمام جنوده المغادرين في قاعدة حميميم. من هذا الباب، يستكمل الرئيس الروسي جولته في المنطقة بزيارة القاهرة وأنقرة، حيث يحاول تحقيق هدفين أساسيين: الأول، إقناع مصر المساهمة في تشكيل قوة حفظ سلام، لتكريس التهدئة في مناطق خفض التوتر التي جرى التوصل إلى اتفاق مبدئي بشأنها في أستانة في مايو/ أيار الماضي. والمعروف أن بوتين أشرك القاهرة (بوكالة سعودية) في التوصل إلى اتفاق خفض التصعيد في منطقتين رئيستين، الغوطة الشرقية في دمشق وريف حمص الشمالي، وهو يريد من ثم إقناعها بإرسال قوات حفظ سلام إلى هاتين المنطقتين، وحاول بوتين إغراء مصر المتمنعة، بموافقته على استئناف العلاقات السياحية والرحلات الجوية معها، والتي توقفت عقب تفجير طائرة الركاب الروسية فوق سيناء يوم 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2015. وكان بوتين سمح لتركيا بإرسال جيشها في أكتوبر الماضي لإقامة نقاط مراقبة لتنفيذ اتفاق خفض التصعيد الذي جرى التوصل إلى تفاصيله في إدلب في شهر أيلول الماضي.
أما الهدف الثاني الذي يسعى بوتين إلى تحقيقه من زيارته الشرق أوسطية، التي طغت عليها المسألة السورية، فهو تأمين دعم إقليمي لإقناع المعارضة السورية المشاركة في مؤتمر سوتشي للحوار الوطني الذي جرى تأجيله مرتين بسبب رفضها له، وهو يعد جزءًا من خريطة الطريق التي يأمل بوتين نجاحها لتأمين استثماراته السورية.
يؤمن بوتين أن نصره السوري معلقٌ، بشكل مطلق، بمدى قدرته على تحقيق حل سياسي ما للصراع، فهو لا يستطيع خوض هذه المعركة إلى ما لا نهاية، وإلا فإن سورية تتحول من رافعة لنفوذه الإقليمي والدولي إلى ساحة استنزاف كبرى، وبوتين الذي عاصر حرب أفغانستان أكثر من يدرك معنى ذلك. كما يدرك أن سورية ليست الشيشان، حيث تقف الجغرافيا في صفه. الحدود هنا مفتوحة على دول عديدة، واللاعبون كثيرون وطامحون. لذلك لا بد من حل سياسي، ينهي الصراع، يعود على روسيا بنتائج تتناسب مع حجم استثماراتها، ويحدّ من طموحات إيران التي ترجو اليوم انسحاب روسيا من سورية، بعد خطاب “إتمام المهمة” في حميميم، كما كانت تنتظر انسحاب أميركا من العراق، بعد خطاب “إتمام المهمة” من على ظهر حاملة الطائرات، أبراهام لينكولن.
العربي الجديد
الشرق الأوسط الروسي الجديد/ بشير البكر
زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثلاثة بلدان في يوم واحد، إذ وصل، صباح أمس الإثنين، إلى قاعدة حميميم العسكرية في مدينة اللاذقية السورية التي ترابط فيها قواته الجوية، وهناك التقى رئيس النظام السوري بشار الأسد، وبعدها انتقل إلى مصر ليعقد جلسة مباحثات مع نظيره عبد الفتاح السيسي، ويشرف معه على توقيع سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية، أهمّها بناء مفاعل نووي في منطقة الضبعة، وفي ما بعد ظهيرة اليوم نفسه انتقل إلى أنقرة ليقابل نظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي باتت اجتماعاته به تتكرر بوتيرة متسارعة، ويعد هذا الاجتماع الثاني خلال شهر والسابع خلال عام. التقى بوتين مع أردوغان في الثاني والعشرين من الشهر الماضي في منتجع سوتشي، وكان ثالثهما الرئيس الإيراني حسن روحاني، وتصدرت المسألة السورية الموضوعات المطروحة على طاولة البحث. ويسجّل للرئيس الروسي الدور في أنه غيّر في طبيعة العلاقات الإيرانية التركية في أقل من عام، واستطاع أن يجمع هذين الخصمين من حول طاولة في أستانة أولاً، ويبعدهما عن منطق حسابات الربح والخسارة في سورية، ويوحدهما من حول منطق تقاسم الأرباح، ورسم لهما خرائط يتحركان عليها بواسطة البوصلة الروسية التي منعت حتى اليوم حصول احتكاكات بين الطرفين، وباتت مع مرور الوقت ضرورية لكل من طهران وأنقرة من أجل الوصول إلى نهاية النفق السوري الذي صار صعباً على كل منهما الخروج منه بمفرده.
قبل أستانة لم يكن يخطر في بال أحد أن ينجح المايسترو الروسي في إدارة اللاعبين على الساحة السورية، الإيراني والتركي والإسرائيلي والسعودي والأميركي، ولكن حصيلة قرابة العام تشكل مفاجأة للجميع، إذ أنه بات يمسك بكل خيوط اللعبة، وصار يقوم بدور الوسيط أيضاً بين النظام السوري وإيران وإسرائيل، ويحدد القواعد والحدود بين جميع الأطراف، ويعطي الضمانات لأمن ومصالح هذا الطرف أو ذاك، على نحو يرضي الجميع، وهذا دور لا يمكن أن يقوم به إلا صاحب البيت.
بات واضحاً للجميع أنه ليس في وسع أحد أن يؤلف بين كل هذه المصالح ويرعاها اليوم سوى روسيا، بعد أن رفعت الولايات المتحدة يدها نهائياً عن الشأن السوري منذ أغسطس/آب 2013، حين ارتكب النظام مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، وتدخلت روسيا حينذاك من أجل إنقاذه من ضربة عسكرية أميركية أوروبية، بل جنبته حتى المحكمة الدولية.
يلعب الروس بذكاء في المنطقة، واستطاعوا توظيف التناقضات لصالحهم في ما يخص سورية، كما استثمروا الحرب على الإرهاب من أجل بسط نفوذهم العسكري، واستخدموا الورقة الكردية بطريقة براغماتية جداً. يعمل بوتين على بناء شرق أوسط جديد، يدير فيه مصالح الأطراف من إسرائيل إلى طهران، ومن أنقرة إلى دمشق، ومن طهران إلى الرياض. يبيع الروس كل شيء ويشترون كل شيء، ويشتغلون بطريقة مختلفة عن تلك التي عملت بها الولايات المتحدة في المنطقة، فليس لديهم أي مشكلة في بناء علاقات صداقة حميمة بين الأعداء، طالما أنّهم يستطيعون التحكم بمفاتيح التوترات.
لا يوجد ملف في المنطقة اليوم من دون أن يكون للروس دور أساسي فيه من السلاح إلى الإرهاب والنفط، وليس في وسع أي طرف إقليمي في الشرق الأوسط أن يتصرف اليوم بمعزل عن موافقة موسكو ورضاها.
وسط هذا الجو يستمر دور الولايات المتحدة في التراجع، وفي حين أسس الرئيس السابق باراك أوباما لسياسة النأي بالنفس، بدا أن آخر هموم الرئيس دونالد ترامب منافسة روسيا، وهو لا يزال يعمل وفق آليات عتيقة، لا يمكن لها أن توصل واشنطن إلى موطئ قدم أمام الدينامية التي تتحلى بها موسكو، وهذا كان واضحاً في رحلة بوتين الذي أفطر، أمس، في اللاذقية وتناول طعام الغداء في القاهرة، وحل في العشاء ضيفاً على مائدة أردوغان في أنقرة، ونام في سوتشي.
العربي الجديد
التجاذبات الروسية في المفاوضات السورية/ سميرة المسالمة
تراقب الولايات المتحدة الأميركية مجريات المفاوضات السورية في جنيف وأستانة بصمت مريب تارة، وبتصريحاتٍ مقلقةٍ للجانب الروسي تارة أخرى، وهي على الرغم من إعلانها أن الحل في سورية هو عبر المسار الأممي في جنيف، إلا أنها لم تطلب إيقاف المسارات الأخرى التي أسسّت لها روسيا بشراكاتٍ مع دول إقليمية فاعلة في الصراع السوري، والتي تهدف إلى تقويض الترتيبات الدولية والإقليمية التي تم التوافق عليها في بيان جنيف1 (2012)، وتالياً إجهاض عملية التغيير السياسي في سورية.
بيد أن الخطوات الأميركية الهادئة، والمبرمجة، والتي أسفرت عن سيطرتها على نحو نصف مساحة سورية، باتت تتجاوز ذلك، لاسيما مع تصريحاتها بأن مغادرة قواتها الأراضي السورية مرهون بإقامة الحل السياسي في هذا البلد، وأن أي إعمار في سورية لن يكون إلا بعد تحقيق الاستقرار السياسي، وأن هذا الاستقرار لا بد أن ينتج عن مفاوضات جنيف، الأمر الذي جعل الروس يبحثون بجديةٍ عن معادلة سياسية جديدة تحقق الشرط الأميركي، من دون أن تخل بالتفاهمات الروسية ـ التركية من جانب، وتعقّد العلاقة مع إيران من جانب آخر.
لهذا حرصت روسيا على الدفع باتجاه توحيد المعارضة في مؤتمر الرياض 2، وأعلنت عن تأييدها مسار جنيف في جولته الثامنة، على الرغم من مساعيها، قبل التصريح الأميركي،
“هيأت موسكو لنفسها الظروف الملائمة لتكون على طاولة مقايضات مصالح متبادلة مع واشنطن”
الرامية إلى تأجيل الجولة الثامنة، إلى ما بعد عقد مؤتمرها “الحوار الوطني”، في سوتشي في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2017، ثم اضطرارها، بعد فشل مساعيها إلى إعلان تأجيله، إلى موعد غير محدد في الربع الأول من العام المقبل. وقد جعل هذا الوضع النظام السوري في مأزق، فبينما هو يرغب بتعطيل المفاوضات، حسب الرغبة الإيرانية، إلا أنه، في آن، لا يستطيع تجاوز التصريحات الروسية بشأن المشاركة الفعالة لوفده في جنيف 8، ليس لأن روسيا ترى بوادر الحل السياسي كامنة في تلك المفاوضات التي تأخذ بعدها الإعلامي فقط، من دون أن تفيد بأي تقدّم يذكر في الملفات الأساسية، وإنما لأن روسيا تحتاج فعلياً إلى كسب الوقت، لإعادة دراسة التموضعات الجديدة التي غيّرتها بوادر عودة العلاقات التركية ـ الأميركية، وسبل الاستجابة مع المطالب الأميركية بشأن كف يد إيران بعيدأ عن الحدود مع حليفتها إسرائيل.
هكذا، وضمن المعطيات المستجدّة في العلاقة مع تركيا تجد روسيا نفسها أمام خيارات تفاوضية جديدة، إذ عليها أن تحقق الرغبة الأميركية في جلوس “قوات سورية الديمقراطية” على طاولة التفاوض على الحل في سورية، وأن تستبعدها، في الوقت نفسه، من أي عملية تفاوضية بشأن مستقبل نظام الحكم في سورية، إرضاء لتركيا، وحفاظاً على إنجاح مؤتمر سوتشي الذي لن تحضره أنقرة، مع المعارضة القريبة منها، فيما إذا كان كرد سورية الديمقراطية طرفا فيه، وهو ما جعل موسكو ترى في تمديد الجولة الثامنة فرصةً لها في تعقيد العملية التفاوضية، وتشتيت الجهود الأممية، بانتظار استنفاد الوقت، وانتظار معادلات ميدانية وسياسية جديدة، مواتية أكثر لها، ولترتيباتها، ولما تعتزم القيام به عبر مؤتمر سوتشي المقبل، على صعيد الأطراف المحلية.
أما التفاوض الحقيقي الذي تتطلع إليه موسكو فهو مع الولايات المتحدة الأميركية، وبعيدأ عن أي مواجهاتٍ عسكريةٍ أو سياسية، حيث هيأت موسكو لنفسها الظروف الملائمة لتكون على طاولة مقايضات مصالح متبادلة مع واشنطن، صحيح أن منطلقها من سورية لكن ما ترمي إليه موسكو أبعد من الشرق الأوسط، وأقرب إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، لتأخذ من جديد موضعها قطبا يقابل القطب الأميركي عالمياً، من خلال معالجة الملفات العالقة مع الولايات المتحدة (أوكرانيا والعقوبات التكنولوجية والدرع الصاروخي وأسعار النفط)، من باب أنها قوة عظمى، وليس مجرد طرفٍ يمكن توجيه عقوبات له.
ولعل الخيط الوحيد الذي تمسكه إدارة الرئيس بوتين اليوم، في هذه المساومة المفترضة روسياً، هو رأس النظام السوري الذي تفاوض على مقايضته مع كل ما سبق، وتحتفظ لنفسها بحق
“ضمن المعطيات المستجدّة في العلاقة مع تركيا تجد روسيا نفسها أمام خيارات تفاوضية جديدة”
تقرير مصيره، إلا أنها تعرف أن ذلك لن يتحقق لها بعيداً عن التزامها بمفاوضات جنيف، ما حتّم عليها إلزام النظام بالمشاركة في الجولة الثانية. ولكن ضمن خطة التعطيل لأي تقدّم يمكن إحرازه بعيداً عن الحل الذي تتصوّره، وهو ما سبق أن قدمته في مخرجات منتدى موسكو (9 إبريل/ نيسان 2015)، الذي تحدث صراحة عن “تسوية الأزمة السورية بالوسائل السياسية على أساس توافقي وفق مبادئ جنيف 1″، طبعاً بالاستناد إلى الترجمة الروسية لبيان جنيف 1، التي تنفي الحديث عن الانتقال السياسي، وتسعى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية عبر حوار وطني سوري- سوري.
ولعل مراجعة بسيطة لمخرجات الحوار الذي جمع كثيرا من مكوّنات وفد التفاوض الحالي (المشكل في مؤتمر الرياض 2) مع وفد النظام السوري في موسكو 2015، يوضح حالة الاطمئنان، بل وأسباب التعاطي الروسي الإيجابي مع المطالب الدولية في التزام مسار جنيف، لإنتاج حل سياسي للقضية السوربة، من دون أن تتراجع عن خطتها في عقد مؤتمر سوتشي، الذي يجمع بين المعارضة والنظام في قاعة واحدة، وتحت سقف الحل الروسي الذي يفترض أن يمهد لمفاوضات حقيقية بين روسيا وأميركا، لإعادة توزيع الحصص، وفق المسطرة الأميركية التي تهيمن على نصف المساحة السورية، من دون خسارة تذكر، بينما تترك ساحة المعركة لروسيا وحليفتها إيران، اللتين تتألمان من جراحهما، وتشيعان جثامين جنودهما بالمئات وبينهم ضباط وقيادات.
إلى ذلك، فإن المفاوضات السورية في جنيف ليست لعبة المفاوضين السوريين (نظاما ومعارضة) كما يعتقد بعضهم، أو يتوهم، إذ هي، في أغلب أحوالها، لعبة تفاوض بين الدولتين الكبريين في العالم، مع هامشٍ تتركانه لدولتين إقليميتين، هما تركيا وإيران، بعد أن اشتغلتا كثيرا على تحجيمهما، لكنهما حتماً يحتاجان لمن يأخذ الصورة من السوريين، وهم يوقعون على ما لم يذهبوا من أجله، ليس فقط في جنيف 8، ولكن في ما بعدها من أرقام.
العربي الجديد
الحل السوري في موسكو لا جنيف/ سلامة كيلة
كما جولات التفاوض غير المباشرة السابقة بين وفدي النظام والمعارضة السوريين، فإن محادثات جنيف 8 لا تبدو مختلفة عن سابقاتها التي ظهر فيها أن الثابت الوحيد هو استمرار بشار الجعفري ممثلاً للنظام، على الرغم من التغيّر الكبير في وفد المعارضة الذي خضع لضغوط وتعديلات أدت، أخيرا، إلى تمثيل كل المنصات، بما في ذلك منصة موسكو، وهو الأمر الذي كان يفضي إلى خروجها بلا نتائج.
ما يبرر به وفد النظام موقفه المعيق أن وفد المعارضة جاء بشروط مسبقة، وردت في بيان الرياض 2، وهو هنا يشير إلى الفقرة التي تؤكد على رحيل بشار الأسد مع بداية المرحلة الانتقالية. وكانت منصة موسكو قد وثقت الاعتراض نفسه، الأمر الذي جعلها تشارك مراقبا في اجتماع المعارضة في الرياض، على الرغم من أنها شاركت في وفد المعارضة، بعد تبرير ذلك بالقول إن تأكيد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، على أنه لا شروط مسبقة في جولة التفاوض هذه يعني شطب الفقرة من بيان الرياض2، ولا شك في أن ذلك تبرير سطحي، لكنه دعّم موقف وفد النظام الذي انسحب اعتماداً على هذه المسألة.
منصة موسكو كما وفد النظام يؤكدان على الانطلاق فقط من القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة، ويرفض وفد النظام أي تطرُّقٍ لمسألة الرئاسة. لكن القرار الأممي يستند إلى بيان جنيف1، وإلى قرارات أخرى استندت بدورها إلى هذا البيان. بمعنى أن بيان جنيف1 ما زال أساس التفاوض، وأن كل القرارات الأخرى جاءت لاستكمال الخطوات العملية التي توصل إلى تحقيق ما ورد فيه. وإذا كان لم يرد ذكر في البيان لـ “مقام الرئاسة” فقد ورد فيه، وبشكل
“العقدة ليست في دمشق بل في موسكو، عاصمة الدولة التي باتت تحتلّ سورية”
واضح، تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ما يعني أن هيئة حكم تتشكل عبر التفاوض هي التي ستقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وليس بشار الأسد. وهيئة حكم لا تعني حكومة، وهي تتشكل للقطع مع النظام القائم، والتهيئة لتشكيل نظام جديد متوافق عليه بين أطراف متصارعة، وتتشكل من هذه الأطراف بتوافق بينها. وفي هذه الحالة، ينتهي دور الرئيس الحالي، فيسلّم سلطاته لهذه الهيئة، ما دام هو الذي يمتلك كل الصلاحيات التنفيذية، حسب الدستور المقرّر سنة 1973، والذي جرى تعديله سنة 2012 عبر “استفتاء” لم يشارك فيه أكثر من 10% ممن يحق لهم التصويت. وفي هذه الحالة، تحكم هيئة الحكم وفق أحكام دستورية، يجري التوافق عليها، تخصّ المرحلة الانتقالية.
يعني ذلك كله أن جوهر عملية التفاوض هو “هيئة الحكم”، وغير ذلك هو تفاصيل تكميلية لتنفيذها مهامها. ولا شك في أن نص بيان جنيف1، والقرار الأممي 2254 وغيرها من القرارات ذات الصلة تشمل خطوات عملية عديدة تحظى بموافقة دولية، ومن وفد المعارضة من دون أن تلقى موافقة النظام، كما بيان جنيف1 الذي يرفضه بتاتاً. بهذا ليس مستغربا أن تفشل كل جلسات التفاوض، فالنظام يريد وفداً من المعارضة، يقبل المشاركة في “حكومة وحدة وطنية”، وهو لا يعتقد أن صراعاً كبيراً نشأ في سورية يفرض الوصول إلى “حل وسط”، بل يرى أن “مجموعات إرهابية” ودولا إقليمية “افتعلت” مشكلة في سورية ضده، وأن الوضع بات يقتضي أن تتراجع هذه القوى والدول عن تدخلاتها و”حربها”، على أن تُقبل ضمن حكومة يشكّلها هو. بمعنى أنه يريد إنهاء الصراع بدمج المعارضة في بنية السلطة فقط.
هذا يعني اختلافا كبيراً في النظر لما جرى ويجري، وأن تناقضاً يقوم بين الأطراف المتفاوضة حول ذلك. فالتفاوض يجري بين طرفين على ضوء “حربٍ أهلية”، أو تمرّد أو ثورة، حين تكون هناك حاجة إلى حل وسط، حيث يقدم كل طرف تنازلات لمصلحة الطرف الآخر من أجل أن يتحقق الحل، أو يستمر الصراع إلى أن يُحسم بطريقة ما. ولا شك في أن ما جرى في سورية ثورة طرحت إسقاط النظام من دون أن تستطيع (إلى الآن) تحقيق ذلك. وحيث دخل الصراع في استعصاء (أشار إليه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع منذ نهاية سنة 2012)، وجرت تدخلات متعدّدة ليتحوّل الصراع إقليميا دوليا، فإن هدف التفاوض هو إنهاء الصراع، بما يحقق بعضاً من مطالب الثورة التي تطرحها المعارضة، والتي باتت تتحدَّد في إزاحة بشار الأسد، على الرغم أن ذلك لا يحلّ المشكلات التي صنعت الثورة، من دون أن
“أساس التفاوض ليس قائماً، بل الأمر يتعلق بـ “تقطيع الوقت” تحت مسمى التفاوض”
يعني ذلك “إسقاط النظام”، حيث ستبقى بنية الدولة (مع تعديل شكلي في أجهزتها الأمنية)، وبالتالي لم يعد التفاوض يتعلق بإسقاط النظام، بل بإزاحة الرئيس وتعديلات في بنية الدولة.
وكان صاحب هذه السطور قد أشار إلى رواية النظام التي تقوم على اعتبار ما جرى من عمل مجموعات إرهابية، ومؤامرة، وتدخل إقليمي. وهو هنا لا يضع شرعيته محلّ تساؤل، بل ينطلق من أن هناك اعتداء عليه، وأن “بعضاً من السوريين” (وهم ملايين كما أشار بشار الأسد مرة) قد مارس الإرهاب. وهذا منظور يقرُّ أصلاً بشرعية ما للمعارضة التي يتفاوض معها، ولا يعترف بأنها تطرح مطالب، بل يريدها أن تذعن لسيطرته من جديد، فهو ينظر إليها باعتبارها متمردين يمكن العفو عنهم شرط قبولهم الحل الذي يطرحه، وهو هنا المشاركة في “حكومة وحدة وطنية” فقط، ربما مع تعديلات شكلية في الدستور والصلاحيات.
لهذا، فإن أساس التفاوض ليس قائماً، بل الأمر يتعلق بـ “تقطيع الوقت” تحت مسمى التفاوض. ولا شك في أن الدعم الروسي للنظام هو الذي يؤسس لهذا المأزق، لأن روسيا التي تضغط من أجل تغيير مطالب المعارضة، وفرض قبولها بمنظور النظام، لا تفرض على النظام سوى التصرّف كما يريد، على الرغم من أنها باتت صاحبة القرار. وهذا يؤشر إلى ما تريد روسيا التي تسعى إلى فرض تصورها المطابق لتصور النظام، ولهذا فتحت مسار أستانة، وها هي تفتح مسار سوتشي، وتريد في الأخير ترويض المعارضة، أو بعض أطرافها، أو فرْض معارضة مزيفة تقبل باستمرار وجود رئيس النظام عبر إشراكها في وفد المعارضة، لكي تصبح هي المعارضة بعدئذ.
إذن، الخلاف الذي يعقد التفاوض ليس على تفاصيل، بل هو خلاف على أسس فهم طبيعة الصراع، الأمر الذي يفرض أن يسعى “الأقوى” (وهو الآن روسيا) إلى فرض شروطه وصيغته. ما يمكن أن يعدّل في ذلك هو المنظور الأميركي الذي ما زال لا يسعى إلى نهاية للصراع في سورية، فلا يضغط على روسيا للتوصل إلى حل مشترك. وما يهم أميركا أكثر هو وجود أدوات إيران في سورية، وربما ليس من خلاف هنا بين الطرفين. بالتالي، لا بد من مراقبة المسار الروسي، على الرغم من تصريح أميركا ودول أخرى أن جنيف هو المسار الشرعي الوحيد للحل في سورية. ربما فقط أن الإجهاد الروسي هو الذي سيفرض حلاً يبدأ من “هيئة حكم انتقالية”، فهذا الأمر وحده يمكن أن يهدئ من الصراع، ويسمح بـ “لملمة” الوضع. العقدة ليست في دمشق بل في موسكو، عاصمة الدولة التي باتت تحتلّ سورية.
العربي الجديد
تركيا واضطراب الأجندات في آستانة وسوتشي/ سميرة المسالمة
يستند مسار مفاوضات آستانة، الذي وصل إلى جولته الثامنة، إلى مرجعية ثلاثية هي روسيا- إيران- تركيا، على رغم أن العراب الأساسي لهذا المسار هو روسيا، إلا أن الوقائع تفيد بأن أي خلل بخصوص تحقيق رغبات أي من الأطراف المذكورة من شأنه أن يعطل هذا المسار، وفي أحسن الظروف أن يبقيه قيد الانتظار. ولعل ذلك يفسّر حالة الجمود التي انتابت التوافقات الحاصلة في الجولتين السابقتين (السادسة والسابعة)، إذ تجلّى فيهما تعثّر قدرة الأطراف الثلاثة على الالتزام بتنفيذ متطلبات اتفاقات مناطق خفض التصعيد، التي تشهد اليوم معارك عديدة، خلافاً لما تم التوافق عليه في الجولة السادسة، وخاصة في ما يتعلق بمناطق إدلب وريفها وريف حماه، وتوزيع القوى الضامنة على حدودها بين روسيا وتركيا، وما يتعلق بإغلاق ملف وجود «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) في سورية.
على ذلك فإن مسار آستانة يواجه اليوم تحديات تهدّد استمراريته، وتعيد الخلافات بين تلك الدول الضامنة إلى المربع الأول، بحكم تباين أجنداتها حول تنازع النفوذ في سورية، ونوع الآليات التي تعّزز ذلك، بما يضمن مصالحها، ويهيئ الأجواء لانعكاسات هذه القسمة على الحل السياسي، سواء تابع مساره منفرداً في جنيف، أو استطاعت موسكو، من خلال إعادة الثقة إلى مسار آستانة، جر الأطراف الثلاثة، مع الأطراف السورية التي تتبناها، إلى طاولة مفاوضات سوتشي، التي تعدها للبحث في القضايا السياسية المختلف عليها في مفاوضات جنيف، ومنها موضوع إعداد الدستور والانتخابات بشقيها الرئاسي والبرلماني.
هنا قد يمكن البحث في تحديات مسار آستانة من خلال المآلات المتعلقة بمصير اتفاق «خفض التصعيد» الخاص بإدلب، وهي المنطقة الأكثر إلحاحاً اليوم، إضافة إلى علاقات الأطراف المعنية، وفقاً للملاحظات الآتية:
أولاً: يفترض أن تنهي الفصائل الموجودة في منطقة إدلب وريفها، المدعومة تركياً، معركتها ضد «هيئة تحرير الشام» («النصرة» سابقاً)، لإنهاء وجودها كاملاً من إدلب، واستعادة السيطرة عليها لمصلحة مجلس محلي من أبنائها، مع انتشار مراقبين أتراك من جهة المعارضة، ومراقبين روس من جهة النظام، إلا أن هذا الاتفاق لم يحترم من قبل النظام وروسيا، اللذين شنّا غارات على شمال سورية خلال شهر أيلول (سبتمبر) الماضي ضمن منطقة خفض التصعيد ذاتها، ورغم ذلك فإن تركيا تابعت إعلانها عن معارك داخل المنطقة لتحريرها من «النصرة»، لكن عمليات التحرير لم تمتد إلى كامل المنطقة حتى اللحظة وما تزال الحرب على «النصرة» قيد تفاهمات، وتغيير في مواقع الجبهات حتى اليوم بين الفصائل العسكرية المختلفة الموجودة داخل وفي محيط تواجد «النصرة» في إدلب، مما يعني أن ملف «النصرة» لا يزال مفتوحاً للتفاوض، وهي النقطة التي تأخذها روسيا على تركيا، بينما تحتفظ بها تركيا للبحث، أو للضغط، في بقية الملفات.
ثانياً: تأمل تركيا من روسيا مساندتها في ما يتعلق بمعركتها في عفرين، في الشمال الغربي من سورية، بهدف منع «قوات سورية الديموقراطية»، المدعومة أميركياً، من أن تجعل من هذه المدينة منطلقاً لمد النفوذ الكردي في المناطق المحيطة، ما يشكّل تهديداً لمناطق جبال التركمان والأكراد قرب الساحل السوري، ما يتيح إقامة الكيان الكردي، أو كيان الحكم الذاتي للكرد، الذي ترفضه تركيا خوفاً من امتداده إلى مناطقها التركية، ذات القومية الكردية. وكل المؤشرات تفيد بأن تركيا لا تزال تحتفظ بهذه الورقة، أي ورقة التهديد بهذه المعركة، التي قد تجعل منها معبراً لفرض طلباتها على طاولة مفاوضات آستانة، ومن ثم لاحقاً سوتشي، ما يفسر قيامها، خلال الأيام الماضية، بفرض وقائع ميدانية، تعزز من مكانتها إزاء «قوات سورية الديموقراطية» مباشرة، من خلال إزالتها أجزاء من السور الأسمنتي، الذي كان يفصلها عن المنطقة التي يسيطر عليها الكرد، ما يمكنها من تحريك آلياتها العسكرية، ما يعني احتمال فتح المعركة للضغط أو لاستكشاف نوايا موسكو تجاه الاتفاقات السابقة حول منطقة خفض التصعيد ووعود انعقاد سوتشي من غير كرد «قوات سورية الديموقراطية».
ثالثاً: وبخصوص إيران، التي تراجع دورها دولياً بفعل الحصار الأميركي، وتباعد المصالح بينها وبين الجانب الروسي، الراغب في إنجاز مبادرة للحل السياسي وفق منطق القرار 2254، واتفاقاته مع الجانب الأميركي، المنجزة (خفض التصعيد في جنوب سورية)، وفيها ما يقلص الدور الإيراني، ما يعني ضرب مصالح إيران الحيوية في وجودها داخل سورية، فإنها تسعى من خلال إمساكها قرار النظام إلى إجهاض اتفاقات آستانة وهو ما يحصل اليوم في ريف حماة، وعرقلة أي جهد لإنجاح مسار جنيف، لذا فهي لا تجد لها أي مصلحة في سوتشي (وآستانة)، رغم موافقتها الشكلية على المسارين الروسيين.
رابعاً: بالنسبة إلى روسيا، التي تعتبر مسار آستانة أحد معايير نجاحها في الإطباق على ملف سورية، وفي ظل تحالفاتها مع إيران وتركيا (أعداء الأمس)، فإن توقّف ذلك المسار لأي سبب كان يعتبر بمثابة تعثر، من شأنه أن يبدد الحلم الروسي في اشتقاق مسار على الضفة الأخرى، يوازي آستانة العسكري، ويختص بالشأن السياسي، الأكثر خلافاً بين الدول المتصارعة على سورية من جهة، وبين السوريين معارضة ونظاماً من جهة أخرى. لهذا توزع موسكو ضغوطها الدبلوماسية بين الدول الثلاث (بإضافة دمشق)، التي استضافت أكثر من مبعوث روسي خلال أيام، بدءاً من بوتين الذي زار قاعدته العسكرية في حميميم بحضور الأسد، ومرورا بموفدي وزارة الخارجية قبل وبعد جنيف-8، ما يعني أن إنجاز جولة آستانة التي سيحضرها الوسيط الدولي لم يعد كما كان سابقاً وفق الجدول الزمني المرن ولكن وفق منطق التوافق على الغنائم قبل الوصول إلى التفاهم.
خامساً: أما الولايات المتحدة الأميركية، التي تراقب بصمت وريبة كل مجريات آستانة وتحضيرات سوتشي، وتعتبرهما بحكم الغائب الحاضر، حيث يمكن توظيفهما وليس استثمارهما في الحل النهائي، الذي يتوقّع أن تفرضه أميركا في مسار جنيف وليس بتجاوز له، وباعتبار أن أي حل مقرون بالنهاية بالرغبة الأميركية في وضع نقطة في نهاية ملف الصراع على سورية، وفق معادلة لا أطراف سورية منتصرة ولا قيام لسورية ما قبل 2011، ولا لسورية خالية من مخلفات النظام وتبعياته القائمة.
هكذا، فإن المعادلات الدولية تضع النظام أمام خيارات جميعها لا يتوافق مع رغبته أو رؤيته للحل، التي يختصرها بترك فرصة للمعارضة لمشاركته في بعض جوانب السلطة التنفيذية فقط، وليس السيادية، على مبدأ ما هو حاصل فيما يسمى «الجبهة الوطنية»، وهو ما نرى بعض الأطياف المحسوبة على المعارضة يدافع عنه، لذلك يذهب النظام إلى جنيف لتعطيل مساره، ويتعاطى بحذر مع آستانة، التي لا يلتزم بمخرجاتها أينما استطاع مع شريكته إيران إلى ذلك سبيلاً، ويصمت تجاه مشروع مؤتمر سوتشي، الذي تعد له موسكو، رغم رفضه جدول أعماله الذي يتطابق مع جدول أعمال جولة جنيف-8 الماضية وذلك لأسباب منها:
إن النظام يرفض سوتشي لنفس أسباب رفضه غير المعلن لجنيف، بيد أنه لا يعلن ذلك حيث الفرصة متاحة له للحضور، من أجل المناورة والتمييع، في حين أن مناقشة نفس البنود في جنيف من شأنها أن تتحول إلى قرار أممي، يدخل في رصيد المعارضة كطرف مقابل له.
من مصلحة النظام غياب المعارضة عن سوتشي، كي لا تجد روسيا شريكاً لها غيره، وحتى يتمكن بمن حضر من صياغة مخرجات لا تتوافق مع القرارات الدولية بهدف إجهاضها تحت مظلة إرادة الشعوب المجتمعة في المؤتمر.
ومن هنا فإن المعارضة ليست أمام تحديات صعبة بقدر ما هي تحديات وجودية يصعب معها اختصار المسألة بالموافقة أو الرفض لمؤتمر سوتشي، لأنه ليس نهاية المسارات ولكنه قد يكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير.
* كاتبة سورية
الحياة
مؤتمر سوتشي هل يمهد لإنهاء حكم الأسد تكتيكياً ؟/ سميرة المسالمة
تقف المعارضة السورية، في دراسة خياراتها من مؤتمر سوتشي، على مفترق طرق، أحدها يهمّشها، وآخر يحدث شرخاً في علاقة أطياف المعارضة المشاركة في الوفد الموحد لها، وثالث يمكنه أن يكون سبباً في غضب شعبي بين أوساط حاضنة الثورة، من المتشددين في رفض الدور الروسي كملاذ لحل الصراع السوري.
وبين الخيارات الثلاثة المؤلمة، في العمل الديبلوماسي والسياسي، لوفد يشقّ أولى خطواته في العمل الوطني المشترك، لفرض خريطة طريق، يفترض أن تؤسّس للانتقال السياسي إلى ما بعد النظام الاستبدادي، يمكن مناقشة معطيات وتحولات الصراع السوري من خلال الوقائع الميدانية على الأرض، ومن خلال الاصطفافات الدولية المتحركة تبعاً للمعطى الأول، والظروف المحلية الخاصة بهذه الدول، وآثار استمرار هذا الصراع على المنطقة والعالم، الذي قطف الثمار، أو التداعيات، المرّة لتأخير الحلّ في سورية، من خلال موجات اللاجئين، أو من خلال انتشار الإرهاب والتـطرف، وتعميم وحشيته حيث أمكن له ذلك. هكذا، وفي مناقشة الخيارات المذكورة، يمكن ملاحظة الآتي:
أولاً، إن تخلي المعارضة عن دورها رسمياً، عبر المشاركة في مؤتمر سوتشي، المزمع عقده في مطلع العام القادم، يعني الانكفاء إلى دور المتفرج، على حدث يمكنه قلب الموازين داخل منظومة المعارضة نفسها، بحيث يصبح خيارها محدداً بالالتزام بمخرجات منصّة جديدة («سوتشي»)، والتي قد تُفرض لاحقا على المعارضة، ضمن مساع دولية تشبه ماحدث قبيل الاجماع على القرار2254، الذي يعتبر اليوم مرجعية رئيسة في العملية التفاوضية. ومعلوم أن مؤتمر القاهرة الذي انتج منصة القاهرة، واجتماع موسكو الذي أنتج ما سمي منصّة موسكو، على رغم رفض المعارضة، المتمثّلة بالائتلاف الوطني آنذاك المشاركة بكلا الحدثين، أديا إلى النص عليهما في القرار الأممي ليصبح ضم هاتين المنصتين إلى وفد المعارضة التفاوضي، بمثابة محور للقرار 2254، وهو ما أنتج اليوم مؤتمر الرياض 2، الذي عقد مؤخراً، ومن ثم الوفد الموحد المشارك في الجولة الثامنة من جنيف. وأقصد هنا أن تجاهل الوفد السوري المعارض للمؤتمر («سوتشي») لا يعني بالضرورة امكانية تجاهل نتائجه، وهو الأمر الذي يجب أن تتنبه له الهيئة العليا بإحداث بدائل مقنعة، وليس بخطابات إعلامية شهدنا مثيلاتها في السنوات السابقة على أحداث متشابهة، من دون أن تفيد شيئاً.
ثانياً، في حال انقسام المعارضة بين مؤيد للمشاركة في مؤتمر سوتشي ورافض له، على رغم أنهما شريكان في وفد واحد، فإن ذلك يعني أننا أمام سيناريو مكرر لمؤتمر آستانة، الذي رعته كل من روسيا وتركيا وإيران، والذي رفضته أطياف كثيرة من المعارضة السياسية، واعتبرته مؤامرة روسية للتشويش على مسار جنيف الأممي، إلا أنه على رغم ذلك أصبح اليوم متمماً، وفي كثير من الأوقات قائداً في نتائجه الميدانية لمسار جنيف السياسي، وأحيانا متقدماً عليه في الطروحات والتنفيذ. ومع كل هذا فإن تخصصه في الجانب العسكري والميداني/ المتعلق بالإرهاب والحرب عليه جعله، على رغم التجاهل الأميركي له، جزءاً أساسياً في العملية التفاوضية الكلية، إذ بات يتم البناء على مخرجاته داخل جنيف وخارجها، من خلال الاتفاقات الثنائية الروسية الأميركية، أو الروسية مع الأطراف المحلية، وكان يمكنه أن يتطور ليأخذ دوراً سياسياً، بيد أن التدخل الأميركي حال دون ذلك، لأسباب منها: واقع الوجود الأميركي، وشراكاته مع الطرف الكردي غير المشارك حتى اليوم بالمسارات التفاوضية جميعها.
ثالثاً، يبقى خيار المشاركة في «سوتشي»، وهذا ربما يضفي عليه بعضاً من «الشرعية» التي تبحث عنها موسكو من جهة، بيد أن وفد المعارضة في هذا الخيار يواجه احتمالية فقدان حاضنته الشعبية التي يمتلكها من جهة مقابلة، وهذه هي المعادلة الصعبة التي تواجهها المعارضة في اتخاذ قرارات مصيرية، بعيداً من حال التهييج الشعبي التي تمارسها أطراف خارج الوفد. والقصد أن هكذا قرار يفترض أن يتم تحصينه بنوع من الاجماع، في المعارضة، وبالتمسك بالسقف التفاوضي، ضمن رؤيا واضحة تجرى باتقان شديد فوائد المشاركة من عدمها، وتبقي القرار النهائي بيد جهة تمثل فعليا هيكلية جديدة لآلية اتخاذ القرار الشعبي، بعيداً عن المحاصصات، وضمن خيارات مصلحة السوريين وحاجتهم إلى الإنتقال من الفعل الإعلامي إلى الحل الميداني بقرار شعبي مسؤول.
ولتحديد هكذا رؤيا لا بد من وضع السوريين بصورة جدول أعمال أو أجندة سوتشي وفق رؤية موسكو التي تفترض، أو تعتزم:
– إنشاء لجنة لصياغة مسودة دستور يتوقع أن تقلص صلاحيات الرئيس، وأن تضبط عدد مرات الترشح لهذا المنصب، بمرتين متتاليتين بمفعول رجعي، وهو ما يعني استبعاد الأسد من التسوية الجديدة تكتيكياً، وفق النصوص الدستورية الجديدة الذي يجرى عليها استفتاء شعبي خلال مدة أقصاها ثمانية أشهر.
– إنشاء لجنة حوار وطني متعددة المناطق تتبادل المشورات والمعطيات والمشتركات مع اللجنة السابقة، وتفيد بالوصول إلى تفاهمات شعبية مع السوريين داخل سورية وخارجها.
– تبلور المفاوضات، في مسار جنيف، آلية للعمل على تفاصيل الملفات العسكرية والسياسية والقضائية.
وضمن هذه الأجندة فإن النجاح في هذه البنود يعني، على الأرجح، الوصول إلى تفاهمات حول شخصية سورية لقيادة المرحلة الإنتقالية، من داخل النظام ولكن ضمن شروط المعارضة، التي تفرض ألا تكون هذه الشخصية شاركت بسفك دم السوريين، قراراً او فعلاً، وهذا تحديداً ما جعل من فاروق الشرع الشخصية الأكثر قبولاً من غيرها، وهيأ لبروز اسمها كشخصية توافقية شعبية ودولية، من دون أن يعني ذلك أن الأسد أو رموز حكمه وافقوا على هذا الخيار، أو أن «الشرع» طرف في اتفاق حصل بين الروس والدول الراعية «لسوتشي» المقبل على مهل.
وعلى هذا يمكن البحث في مشاركة المعارضة من عدمها في المؤتمر، من خلال السؤال عن إمكان المشاركين في كسب معركة التفاوض في سوتشي، وإمكان صياغة مخرجاته بما يخدم تنفيذ القرارات الدولية من جنيف 1 و2118 و2254، بما يفرض التنفيذ الفعلي وخاصة مايتعلق بالفقرات 13و14 و15 من القرار 2254 المتعلقة باجراءات بناء الثقة، التي تتحدث عن إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن جميع المناطق ووقف العمليات القتالية؟
وهذا يقود إلى سؤال آخر عن نقاط القوة في رفض المشاركة، وانتظار ما ستؤول إليه النتائج، التي يتم إقرارها بعيداً من المعارضة وفي غيابها، وبما لايضمن مصالح الثورة في إنهاء النظام الحالي، والانتقال إلى مرحلة بناء سوريا جديدة، وفق الأسس التي قامت عليها القرارات الدولية المشار إليها، للبدء في عملية إعمارها وهو الشرط اللازم لذلك؟
إن البحث في خيارات المعارضة في هذه المرحلة يحتاج من الوفد، ومن رئيسه نصر الحريري من موقعه في المسؤولية، إلى أكثر من قبوله الرؤية المحاصصية، والتي تجعله على شفا حفرة من الانهيار المحتوم، بسبب آلية تجميعه القسرية من جهة، والقرارات الضمنية المسبقة حول المؤتمر، لكل مكون من مكونات الوفد المعارض من جهة أخرى، ما يسمح لنا بالعودة إلى الحديث عن ضرورة انعقاد مؤتمر وطني سوري، يتيح مشاركة كل الشرائح السورية المعارضة باتخاذ قرار يقوي الوفد، ويدعم مواقفه سواء الرافض للمشاركة أم القابل بها، بعد أن أصبح هذا من الوفد دون أي مساندة دولية حقيقية تذكر، وأصبح لا يملك ترف الاختيار أصلاً، لأن كل ما يتعرض له اليوم يصب في خانة إما أن يكون موجوداً، أو يتم تصنيع البديل، وعن أي بديل نتحدث؟
* كاتبة سورية
الحياة
سورية: ارتجال المعارضة في الفخ إلى سوتشي/ ناصر السهلي
قبل عام من الآن، “أسقط” الروس والإيرانيون حلب في حِجر النظام، تحت سمع العالم أجمع. وتبدّى مشهد سوري آخر، رأى فيه حماة نظام دمشق فرصة لفرض “الاستسلام”، على الشعب والمعارضة.
وبالتمهيد الناري، وصراع المعارضة، وبعقلية “حاراتية” على القتال، كنا أمام “جنيف 4″، كمسرحية مملة في نسختها التي لم يكن كل شيء فيها للنشر. فتراجيديا الخيارات المعروضة أمام “مفاوضي الائتلاف”، وتلاعب المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا؛ والأخير، بصفة شخصية أقولها، يصعب أن لا تكتشف فيه عن قرب ما اكتشفه حتى مفاوضيه عن “خبث الرجل لتمرير الوقت، فوظيفته أهم من كل الشعب السوري”.
في أروقة الفندق الذي أقام فيه جزء من المعارضة، فيما منصة القاهرة في آخر، بدا التوتر سيد الموقف. كانت المراسلة اللبنانية الصديقة تكتشف أن “الجماعة في مأزق”. تظهر في الليلة المقرر فيها “لقاء مع الجانب الروسي”، صرامة أحدهم، بنبرة متحدية لصحافيين اقتربوا منه خارج الفندق، وكاتب هذه السطور بادره بسؤال “هل ستذهبون للقاء المبعوث الروسي؟”… أجاب: “لا، أبدا.. أبدا”. ومع نفخ دخان سيجارته، مقابل عدسات القنوات الفضائية، كان حازما: “إن أرادوا اللقاء فليأتوا هم… أو ليختاروا منطقة محايدة…”.
لم يمض وقت طويل حتى كانت الحافلة تقلّ الوفد نحو مقر البعثة الروسية. وفي طريق العودة كنا كمراسلين بانتظارهم أمام الفندق نفسه، وإذ بالرجل الصارم يهبط من حافلة “إيجابية اللقاء”.. زميل، على مسمع زملائه من محطة كبيرة، مخضرمون في الشأن الروسي والسوري، قال باستغراب: “لا أفهم كيف تغيب الفطنة عن هؤلاء، فروسيا ليسوا كما يعتقدون، وهل يظنون بالفعل أن الروس كانوا سيقبلون بشرطهم؟”.
تلك لوحة تخبّط مختصرة، مر عليها أكثر من 8 أشهر، لكنها لم تتغير، بل بالعكس زادت في مآسيها الغائبة – الحاضرة في تحويل التفاوض إلى “مسمار جحا” على ظهور السوريين.
في الأخرى، وهي انعكاس أعمق لتراجيديا الحالة الذاتية، مع اضطرارك إلى تنحية الانطباعات الشخصية جانبا فيما يتعلق بالشخوص والممارسات، ومنها “تشبيح مراسلي وسائل النظام والممانعة” في مقر الأمم المتحدة.
كان المساء يهبط باردا وثقيلا في جنيف، ومقابل مجسم الكرة الأرضية، تكتشف ما عناه الصحافي أحمد كامل بمقولته المباشرة لي، وهو يقلب صورا غريبة على كمبيوتره، عن “نساء دي ميستورا”. طبيعة حديث النسوة، وهن يدخّن في الخارج، دون أن يعرفن أني قد أفهم العربية، كان مخزيا، ما جعلني أسرع مبتعدا حتى لا أنفجر بملاحظاتي عن “النساء الممانعات” وهن يتحدثن عن “الخونة”، بل وعن “دي ميستورا المليح”.
في الثالثة، وهي أهم ما جعلني مقتنعا بما كان يقوله مفاوضون ومراقبون، بمن فيهم غربيون مبتعثون من خارجيات بلادهم، أن ما يجري ليس أكثر من “تقطيع وقت للانتقال إلى أستانة بدل جنيف”.
حملت ذلك إلى مفاوضين، بعد أن تناقشت مع زميلتي اللبنانية عما يقوله “المبعوثون” و”مفاوضون آخرون”. أيضا هذه المرة بحزم كان الموقف “أبدا… أبدا لن نقبل ذلك مهما فعل الروس”.
ليس الآن وقت الجدل فيما إذا كانت موسكو بالفعل، مع كل التراجع العربي والإقليمي في قضية الشعب السوري، وتسليم الأوراق لبوتين، قد استطاعت بالفعل ترويض دي ميستورا، القابل أصلا للترويض، بنرجسية مكشوفة اللسان والحركة.
صحيح ما قاله أحد رجال الجيش الحر بأن “أستانة موكل فقط بالجانب العسكري التقني”. فيما نحن اليوم، بخلاصة تخبّط واضح، منذ ما قبل الارتهان لما يسمى “الدول الراعية” ومؤتمر الرياض 2، ووجود أشخاص لم يروا مشكلة في “تقاسم وظيفي” مع بشار الأسد، ووجود فعلي وليس متخيلا في صفوف “المنصات” لمن يرى في الثورة السورية “مؤامرة”، سائرون فعلا لا قولا نحو “سوتشي” (سواء للشعوب السورية! على وزن السوفييتية في العقل الروسي، أو بتسميات أخرى لخلق محاصصة طائفية يكون فيها الأمن وأركان النظام حكما).
كوارث قراءة بعض المعارضين للقوة الذاتية يذكرني بمقولة “جبهة النضال الشعبي الفلسطيني”، التي تزعّمها الراحل سمير غوشة، عن أنها “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي اعتداء أميركي على الاتحاد السوفييتي”، أو شعار الممانعين بأنهم “قادرون على إنهاء الكيان الصهيوني خلال ساعات”، من دون أن نعلم لما لا يفعلونها إذا؟
كل الأقاويل عن أن “المعارضة” لن تذهب إلى مؤتمر سوتشي تذكرني أيضا بحال فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، وتحوّلها إلى “الان جي أوز” بطلبها “التحلل الكامل من الاتفاق”، في حين أنها فصائل قبلت التوزير والعيش في “ظلال الواي ريفر” وأوسلو نفسها.
وبرأي متواضع، بعيدا عن الحب والكراهية، والتفاؤل والتشاؤم، فإن المتابع لسلم التراجع، والاستقالات التي سبقت الفصل الثامن من المسرحية في جنيف، وجولة بوتين الأخيرة وتنسيقه، من الرياض إلى تل أبيب حتى أنقرة، وكل التنمر والنمردة التي مارسهما ستيفان دي ميستورا، بدلا من سيرغي لافروف، سيجد أن طريق سوتشي بات إجباريا، وليس مغلقا كما يشيع البعض.
سوف تهرول ذات القوى التي تقول اليوم إنها معارضة لسوتشي. وبما أن أصحاب فكر “التقاسم الوظيفي”، وبتغييب أصحاب الفعل الوازن للحراك الثوري الشبابي المدني، وتشتيت قواه، وتصدر نوع محدد من المعارضة للمشهد، فسنكون أمام سوتشي مهم تمنع هؤلاء الذين خلعوا عن أنفسهم أي تواصل حقيقي مع أهداف شعبهم وما خرج السوريون له في مارس/آذار 2011. بدل جلد الذات، والتعبير عن الندم، ربما يحتاج أصحاب الثورة إلى مراجعة دقيقة للتراجيديا التي تدفع بها الثورات المضادة بعباءة ثورية.
جميع حقوق النشر محفوظة 2017
العربي الجديد
حدود الأكراد و”سوتشي” المقبل/ عمار ديوب
حدودنا حدود الدم، قالها مرة رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، وأشار فيها إلى دولته المتخيلة، على أثر توظيف المليشيا الكردية (البيشمركة) في الحرب الأميركية الإيرانية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقد ساهمت فعلاً بدحره، ولكن لم يُجَزْ، كما توهم، حينما ذهب نحو الاستفتاء، رافضاً كل النصائح الدولية، ولا سيما الأميركية والتركية، الاكتفاء بما كان متحققاً قبل الحرب على “داعش”. خسر مسعود كثيراً، بل خسر نفسه، فتم استبعاده عن حكم إقليم شمال العراق في الوقت الراهن، وإن نُقل إلى ابن أخيه!
إذاً لا تغييرات في شرقنا، تشمل تغيير الخرائط كما “ثرثر” كثرٌ. وينطبق الأمر عينه على إفشال محاصرة دولة قطر وتهميشها، بحجة التوافق مع سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الحرب على الإرهاب. وقلص التقارب التركي الروسي كثيراً مشروع رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي (الكردي)، صالح مسلم، فوضعت عفرين تحت الوصاية الروسية، وربما لاحقاً التركية، وكذلك سيطرت تركيا على جرابلس والباب وسواها، وبما ينهي قيام إقليم كردي سوري مُتوهم التقارب التركي الأميركي أخيرا، وأنّ مبرر توريد السلاح الأميركي للأكراد قد انتهى، وكذلك مبرّر وجود الجنود الأميركان أيضاً، وبالتالي هناك إشارة واضحة للكرد أن الممكن الوحيد الانخراط في المشروع السوري، وألّا يحلموا بأكثر مما لبقية المدن السورية، أي بمواطنة لكل السوريين وحقوق ثقافية وتعليمية وإنهاء كل أشكال التمييز القومي، وهو أمر تتفق عليه “المعارضة والموالاة”، وكذلك أصبحت قوى كردية عديدة تأخذ به؛ وجود أطراف كردية تتوهم بأن حقوق الكرد أكثر من ذلك يقع في باب “الهلوسة”، ولا شيء آخر.
يحق للكرد، كما للعرب (الأحواز) الطموح في حق تقرير المصير، لكن هذا الأمر يتطلب
“الكرد، كما العرب، يفترض أن يتخلصوا من مخيلتهم العدائية للآخر، ويتبنوا فكرة بناء الدولة الوطنية”
تغييراتٍ كبرى، وكما قلنا لا مجال لها حالياً، بل وليس من إمكانية لتوحيد البلاد العربية ذاتها، ولا “المناطق” الكردية. في ظل هذا الوضع، يصبح الممكن هو البدء بتحقيق الدولة الوطنية، وبما لا ينفي التمايز القومي، بل ويحافظ عليه لجهة الإثراء الوطني، وتصبح كل محاولة للتمايز القومي على حساب الوطني، كما يفعل تيار كردي عريض، والالتحاق بالخارج، كما توهم مسعود البارزاني أن الأميركان سيكافئونه، يصبح مضرّة بمصالح الكرد أولاً، وبالعرب ثانياً.
انتهت الحرب الواسعة في سورية، والآن تُدوّر الزوايا لصالح الحل السياسي، والذي سيكون صفقة متكاملة بين الروس والأميركان، وربما تشمل قضايا إشكالية كثيرة بين الدولتين؛ يدعم فكرتنا ما نُشر أخيرا عن تفكير الروس، وكذلك الأميركان، بتقليص قواتهما في سورية، وبالتالي كل المعارك التي يشنها النظام، ومعه إيران، هي معارك هامشية، كما الحال ضد الغوطة أو درعا أو ريف حلب الغربي وريف حمص الشمالي أو في أرياف حماة، وهي ستستنزف قواتهما، ولكنها لن تحقق شيئاً يذكر، ما دام الروس يعملون حثيثاً من أجل الحل السياسي؛ أقصد أن الروس، عبر مسار أستانة ومؤتمر سوتشي اللاحق، سيعملون من أجل جلب أطراف سورية كثيرة لإخضاعها، وضبط مناطقها، وتمرير الوقت لإعداد الصفقة مع أميركا، وفي الوقت نفسه إفهام الإيرانيين أن لا مكان لهم في سورية. وهذا يتطلب بالضرورة التخلص من الجيوش المحلية، وتشكيل جيش موحد جديد كما تقول وثائق جنيف، ودلالة سحب جنود الدول العظمى، رسالة لجميع السوريين أن عليكم أن تتخلصوا من أوهام المناطقية، والاندماج بمشروع سوري، وبإشراف كل من روسيا وأميركا بشكل خاص.
يتحقق التوافق الروسي الأميركي تدريجياً؛ فهناك تقاسم لمناطق غرب الفرات وشرقه، وهناك مناطق خفض التوتر، وإفشال لجولة جنيف الثامنة، بغية إعداد السوريين من أجل تشكيل حكومة توافقية بين النظام والمعارضة، ونسف فكرة أهداف الثورة، وهو ما تحقق في بيان المعارضة في مؤتمر الرياض 2. مع ذلك، فإن لقاء جنيف يتم تحت القرارات الدولية السابقة، ولا سيما مرجعية بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2118، ونسبياً 2254، وهو يخفّف من الدور الدولي، ويُعلي من شأن الدور السوري، وهذا لا يحقق مصالح الاحتلال الروسي أو الأميركي. ومن هنا، هناك سوتشي جديد سينعقد قريبا، ويخص المعارضة والنظام، مهمته الإقرار بدور الاحتلالات على سورية.
رفضت تركيا تمثيل “الاتحاد الديمقراطي”، بقيادة صالح مسلم، في سوتشي، وفي كل المؤتمرات الخاصة بمستقبل سورية، والآن تهمش أميركا قوات سورية الديمقراطية التابعة له، وتؤكد أن إرساء القواعد الأميركية في الحسكة ودير الزور وسواهما، يتحقق بالتوافق مع
“لا يمكن تهميش تركيا لصالح الأكراد، كما تمّ في العراق وسيتم في سورية”
الروس والأتراك. ولا يمكن تهميش تركيا لصالح الأكراد، كما تمّ في العراق وسيتم في سورية؛ وبالتالي في سوتشي المقبل، أو في أي صفقات دولية تخص سورية، سيعود الأكراد إلى ما ذكرنا أعلاه، وسيكون شكل الحكم اللامركزية الإدارية، وبما يعيد للعاصمة قوتها، ولكن ليس وفق ما كان، وليس بالتأكيد وفق مفهوم الفيدرالية؛ فما حصل من دمار في سورية، يتطلب حلولاً على صعيد الدولة السورية بأكملها. وبالتالي، يتطلب إعادة إعمار يُخطط له في العاصمة، وينفذ في كل المدن، ووفقاً للموارد الوطنية، وليس الموارد المحلية لكل مدينة، كما في فكرة الفدرلة. أريد القول: الكرد السوريون معنيون بالانتماء الوطني، وترك الأوهام المتعلقة بفكرة الحكم الذاتي، والتفكير بمصالحهم على حساب بقية السوريين، كما فعل مرة مسعود البارزاني، والانضواء الكامل في إطار مشروع وطني يحقق لهم ذلك. أوضحت أميركا ذلك عبر إيقاف توريد السلاح، وسحب قسم من جنودها، وأوضح الروس أن علاقتهم مع تركيا هي الأساس، ويؤكد الأميركان الفكرة ذاتها. لن يكون النظام والإيرانيون هم المأوى مجدّداً لصالح مسلم، فهم أيضاً يرفضون دعم أي مشروع قومي على حساب الدولة السورية.
الكرد كما العرب، يفترض أن يتخلصوا من مخيلتهم العدائية للآخر، ويتبنوا فكرة بناء الدولة الوطنية؛ وهذا لن يتحقق لهم قبل التخلص من الاعتماد على الدول الخارجية لمحاربة أبناء القومية الأخرى في بلدهم ذاته؛ في “سوتشي” المقبل وغيره ربما، الممكن الوحيد بناء دولة لصالح الجميع، لكنها ستكون دولة تابعة وسيكون شعبها قابلا للاحتراب الداخلي. من يخلق الوطنية السورية وبالضد من مصالح الخارج هو ما ذكرته، فهل يقرأ الكرد الدرس العراقي جيداً، ويستوعبون أن لا تغييرات في الخرائط والحدود السابقة لما قبل 2011؟ نأمل ذلك.
العربي الجديد
مفاوضات الإخضاع وخيار سوتشي الفاشل/ عمار ديوب
كان على مؤتمر “الرياض 2” أن يُنهي دور المعارضة السورية في الإصرار المستمر على القرارات الدولية، والتي جوهرها، تشكيل مجلس حكم انتقالي كامل الصلاحيات. تخلى بيان “الرياض 2” عن أية شروط مسبقة للبدء بالتفاوض، ولكن عبارته القائلة برحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية لم تُقبل على الإطلاق، وهو ما تحفظ عليه وفد قدري جميل بشكل معلن. مع بدء جولة جنيف التفاوضية الثامنة، تأخر النظام عنها ليومٍ، ثم رفض الدخول بأيّ مفاوضات مباشرة، وحاول جاهداً تقديم سلة محاربة الإرهاب على بقية سلل البائع دي ميستورا. وفي النهاية، أفشل النظام جنيف الثامن؛ وحاولت المعارضة التفاوض ولو لمجرد التفاوض، وعلى الرغم من ذلك، لم يستجبْ لها وفد النظام، وهي لا تفهم أن سقف التنازلات هو سقف حضن النظام، وهو ما لوحظ في قول المتحدث باسم وفدها المفاوض، يحيى العريضي، إن لا مشكلة مع مؤتمر سوتشي، إن ساهم في تحقيق مقررات جنيف1 والانتقال السياسي. هنا المطب، فالسؤال البديهي هنا: لماذا “سوتشي” من أصله، ما دام “جنيف” يستند إلى المقرّرات الدولية، ويرفضه كل من النظام وروسيا وإيران؟ أليس هذا إقراراً بأن هناك تنازلات إضافية ستقدمها المعارضة في سوتشي؛ مجرد الموافقة عليه، بل وتلويح بعض شخصياتها الرئيسية بمشاركتها موقف خاطئ بالكامل.
مسلسل الإخضاع مستمرٌ؛ فهو تارة يمر بجنيف اللامتناهي، وتارة بأستانة وثالثة الأثافي في سوتشي؛ وهذا مهمته تهميش المعارضة والقرارات الأممية، والانتقال بالمحادثات إلى إعادة تأهيل النظام وتشكيل حكومة موسعة، ووعود طنانة بإمكانية الانتقال في سورية نحو دولةٍ يتحكّم أهلها فيها، وهو ما يكرّره الروس والإيرانيون بوقاحة “الاستعمار”، والقصد منه أنّهم أتوا إلى سورية عبر النظام، وسيعملون ما في وسعهم من أجل إعادة الحياة إليه، وإجراء إصلاحات دستورية هامشية، وانتخابات نيابية ورئاسية تحت هيمنة النظام.
“المعارضة السورية معنية بفهم دورها السياسي بدقة؛ فبوتين يدفعها إلى مواقف تخدم تجديد رئاسته أكثر من المساهمة في حل سياسي”
انتهاء “جنيف”، وترحيل بعض ملفاته إلى “سوتشي” الذي لا صفة شرعية دولية له، يُوضحان أن كل القرارات الدولية الخاصة في سورية ليست ذات قيمة أو أهمية، ويمكن التخلي عنها إن رضيت المعارضة أو جهات سورية كثيرة معارضة، فبذهابها إلى سوتشي تكون قد رفعت من قيمته وشرعنته، وربما تتحوّل مقرراته اللاحقة إلى وثيقة دولية، وهو ما سيعمل الروس من أجله. الأسوأ أن الروس لا يمتلكون حلاً لسورية، إلا احتلالها ونهبها.
وفي هذه الأثناء، ما زالت الولايات المتحدة التي لا تستقر على موقفٍ دوليٍّ، يعتد به إزاء شرقنا التعيس هذا، ولو مع الأنظمة، تناور بين أن جنيف وحده مكان للحل السياسي وأن سوتشي ليس سيئاً. مواقفها غامضة، ومن ناحية أخرى، ترسخ قواعدها العسكرية في سورية، وتستولي على شرق البلاد وقطاع كبير من جنوبها وغربها! ويوضح عدم تحديدها موقفا دقيقا من سوتشي، وغياب توافقات دقيقة بينها وبين روسيا بما يخص المنطقة والعالم، أن الصراع على سورية لم ينته بعد، وأن كل الحديث عن الاستقرار في دائرة الأوهام.
مراد القول هنا إن الكلام عن إعادة الإعمار حالما سيحصل الحل السياسي في سوتشي من ناحية، أو من ناحية أخرى في مناطق سيطرة الأميركان كما قيل إثر تحرّر الرقة هو أقرب إلى الكذب والدجل. ولا حاجة للتذكير هنا بغياب أيّ إعادة إعمارٍ في العراق أو أفغانستان. روسيا المثقلة بالديون والعقوبات وكذلك إيران لا تملكان مشروعاً لإعادة الإعمار، بل هما وقعتا وتوقعان اتفاقياتٍ مع النظام، من أجل السيطرة على الثروات الباطنية أو المشاريع سريعة المردود، وكذلك أميركا التي سَرقَ رئيسها مليارات الخليج، ويبحث عن نهبٍ إضافي في دول العالم، لن يغامر بأموال لإعادة الإعمار في سورية. الأمر عينه يخص أوروبا، وإن كان بسبب عدم حدوث أي استقرار في سورية. إذاً، سوتشي الذي يزعم الروس أن 1500 شخصية سورية ستشارك فيه يُعقد من أجل شرعنة الاحتلال الروسي وبقية الاحتلالات، ولا يضع أية مداميك لإخراج إيران من سورية وتعزيز الوجود التركي؛ سورية ضمن ما يُرسم لها لن يكون مصيرها أفضل من بقية الدول الفاشلة المذكورة أعلاه.
تضارب المصالح الروسية الأميركية يعيق أيَّ حلٍّ سياسي جدّي. وفي الوقت عينه، يفتح الأفق نحو حل روسي فاشل، ضمن مناطق يسيطر عليها النظام تحديدا. ما يمنع ذلك أو يساهم فيه هي المعارضة بالتحديد. إذن، على المعارضة توحيد رؤيتها وموقفها ورفض مؤتمر سوتشي،
“الموقف السليم مقاطعة “سوتشي” والتمسك بمسار جنيف، والمناورة ضمنه من أجل تطبيق القرارات الدولية”
وإجبار الفصائل على عدم الذهاب إليه. ومعلوم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يستعجل هذا المؤتمر من أجل الانتخابات الرئاسية التي ترشح لها، وهو السبب نفسه الذي دفعه إلى إعلان نهاية الحرب ضد “داعش”. وللأمر نفسه، استقبل الرئيس السوري في قاعدة حميميم وليس في دمشق، للقول إن روسيا تسيطر على سورية بالكامل، ولم تتكلّف أرواحا كثيرة، بل وسيعيد جزءا من القوات هناك. وبذلك وعبر إعلان احتلال سورية، يمهد بوتين لإعادة انتخابه رئيساً لروسيا.
المعارضة السورية معنية بفهم دورها السياسي بدقة؛ فبوتين يدفعها إلى مواقف تخدم تجديد رئاسته أكثر من المساهمة في حل سياسي. وفي حال حصل حل سياسي ما فهو سيكون ضمن سورية المفيدة، ومن أجل نهب ثروات سورية. وهذا لن يحقق انتقالاً سياسياً، ولا استقراراً. ولهذا إن تضمن “سوتشي” حلاً وهذا مستبعد، فإنّه لن يكون أكثر من تشريع لاحتلال سورية. السؤال: أية مصلحة للمعارضة في ذلك. الموقف السليم مقاطعة “سوتشي” والتمسك بمسار جنيف، والمناورة ضمنه من أجل تطبيق القرارات الدولية، خطوة أولى نحو إخراج القوات الأجنبية من سورية، وأن يقرّر حينها أهلها مصيرها بحق.
العربي الجديد
كاميرا حميميم وشبح الأسد/ وليد بركسية
إذا كان مشهد العناق الأول بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والسوري بشار الأسد، في مدينة سوتشي الروسية الشهر الماضي، دليلاً رمزياً على انتصار النظام السوري وقوة الأسد نفسه في الحرب المستمرة منذ سبع سنوات، وإعلاناً لعودة روسياً إلى المشهد العالمي كقوة عظمى انتصرت على القوى الغربية والإقليمية هناك.. فإن مشهد العناق الثاني في قاعدة “حميميم” الروسية في اللاذقية لم يكن سوى نسخة باهتة من المشهد الأول، تكرست عبره رؤية واحدة، مظلمة، يهين فيها بوتين حليفه المحلي الصغير.
الزيارة التي لم يعلن عنها إلا بعد انتهائها بساعات، كانت مفاجئة بسبب توقيت حدوثها فقط، لكنها لم تحمل مفاجآت بالنسبة لطريقة تعامل بوتين، ومن خلفه النظام الروسي ككل، مع الأسد، لا بوصفه رئيس دولة يقود فيها الشعب والجيش والسياسة في آن واحد، بل بوصفه موظفاً حكومياً روسياً أو رئيس بلدية ريفية صغيرة يتلقى شرف لقاء المسؤولين الأعلى رتبة والقادمين من “العاصمة”.
والحال أن زيارة بوتين الأولى للبلاد، كقائد وزعيم سياسي وعسكري للقوة العظمى التي تدخلت في مسار الحرب وقلبتها رأساً على عقب العام 2015، لم تكن نحو العاصمة دمشق حيث الرمزية السياسية والدبلوماسية للنظام، بل نحو إحدى القاعدتين العسكريتين لروسيا في البلاد، وهما الوحيدتان لها في الشرق الأوسط، وقد سمحت لروسيا بتوسيع نفوذها الجغرافي نحو البحر المتوسط.
الأسد الذي مشى طويلاً في قاعدة حميميم، إثر استدعائه إلى هناك على وجه السرعة بسبب طبيعة الزيارة “الخاطفة”، بدأ في الفيديو المتداول، شبحاً للديكتاتور المخيف، فتجرد من حراسه الشخصيين وهالته الرئاسية، وربما يمكن تخيّل تفتيشه بدقة قبل دخول القاعدة وتلقي الأوامر الصارمة بكل خطوة يقوم بها هناك بانتظار وصول بوتين لاستقباله كما يليق بموظف محترم وطيب، على سلم الطائرة، مع الضباط الروس، بوصفهم أسياد المكان، الذين يؤدون مراسم الاستقبال بالتحية العسكرية قبل بشار، الثاني في كل شيء.
من اللافت هنا أن العناق الأول في روسيا، اختلف كثيراً عن العناق الثاني. ففي الأول، كانت زاوية الكاميرا طبيعية إلى حد كبير، بدا معها الأسد واثقاً في خطواته بينما يستقبله بوتين بتهذيب ووقار. لكن الفيديو الثاني أتي من زاوية منخفضة ركزت على بوتين نفسه طوال الوقت، ما أظهره في مظهر مهيمن طاغ بصرياً، بينما يميل عليه الأسد بطوله الفارع بخضوع واضح، فيقصُر، ويبدو وكأنه يطلب البركات ويلتمس الرضا.
في ضوء ذلك، قد يكون العناق الثاني في مجمله ارتجالاً من الأسد، وخروجاً عن النص المرسوم له، بشكل يقارب التطاول على بوتين، وكأن الأسد سمح لنفسه بتكرار المشهد من دون أن يكون مخططاً له، مدفوعاً بوهم صداقة محترمة تجمعه مع “القائد الروسي الملهم”. ويعزز هذا الطرح، تربيت بوتين السريع والمتذمر على ظهر الأسد، ثم ابتعاده عنه لينخرط في حديث سريع بواسطة بعض الضباط الروس الموجودين في الجوار، قبل أن يلقي كلمة كقائد أوحد لا وجود لسواه في المكان، ويتعزز ذلك بحقيقة أن لكل حركة ولقطة إعلامية روسية معنى ضمن سياق البروباغندا العام، لا يجب الإخلال به أو كسره.
والحال أن روسيا ضمنت بقاءها في سوريا إلى أجل غير مسمى في البلاد، عبر قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، وقواعد أخرى، بفعل الاتفاقية الموقعة مع النظام السوري والتي كشف عنها أواخر العام 2016. وبالتالي، قد يكون مشهد مرور بوتين السريع إلى “ممتلكاته” في سوريا، قبل توجهه إلى مصر في زيارة رسمية، تعبيراً عن رغبة منه في الحصول على فروض الطاعة الإجبارية وإحياء للتقاليد العسكرية الروسية المستمدة من فلسفات إقطاعية في القرن التاسع عشر.
سوريا، في هذه الصورة، هي تحت الوصاية الروسية في أقل تقدير، أو كأنها مقاطعة على أطراف الإمبراطورية الروسية. علماً ان هناك اقتراحاً من مجموعة سياسيين وناشطين روس، قُدم إلى بوتين مطلع العام الجاري، لإنشاء كونفدرالية بين سوريا وروسيا، وضم دمشق رسمياً كجزء من الدولة الروسية، وهو خيار لم يلقَ صدىً لدى الكرملين، لكنه يعطي لمحة عن طريقة التفكير الروسية في الحليف السوري.
في ضوء ذلك، يصبح إعلان بوتين سحب القوات الروسية من سوريا رسالة موجهة للقوات الأميركية التي أعلنت وزارة الدفاع “بنتاغون” قبل أيام عددها الذي يتجاوز الألفين، مع تقارير أعلامية واستخباراتية غربية تشير إلى رغبة البيت الأبيض في تعزيز وجوده شرقي البلاد وشراكته مع الأكراد السوريين هناك. وبالتالي يصبح سحب القوات الروسية المقاتلة رسالة من موسكو لواشنطن بضرورة الانسحاب على غرار النموذج الروسي، والفارق هنا أن الروس يحتفظون بقوتهم المتمركزة في قاعدتي اللاذقية وطرطوس، اللتين تمتلكان “شرعية” بسبب المعاهدة الموقعة بين الدولتين الروسية والأسدية، بعكس أي وجود عسكري آخر، بما في ذلك الوجود الأميركي. وهي نقطة تكررت في كافة بيانات الاتفاقات الأميركية – الروسية الأخيرة بشأن مناطق خفض التصعيد وفي بيانات مؤتمرات “أستانا” للسلام، وإن كانت تترك مسألة الوجود الإيراني غامضة وضبابية إلى حد كبير.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها بوتين سحب قواته من سوريا، بل هي المرة الثالثة، بعد التصريحات الرسمية التي قدمتها وزارة الدفاع الروسية بهذا الصدد في كانون الثاني/يناير الماضي، حول تقليص عدد القوات الروسية في سوريا جزئياً، استكمالاً للانسحاب الأول الذي جرى في آذار/مارس 2016. وكانت النتيجة آنذاك، ارتفاع عدد القوات الروسية وتوسيع نطاق عملها هناك. وهي نقطة شكلت، اليوم، أساس المقاربات الساخرة والتشاؤمية بين السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي.
المدن
على أنقاض «جنيف 8»: في إشكالية التمثيل السياسي السوري/ معتز حيسو
انطلقت أعمال الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف وسط مناخ يسوده التعقيد والتناقض والالتباس. ويتعلق ذلك بعوامل متعددة، منها ما يعاني منه ممثلو أطراف الصراع من إشكاليات، إضافة إلى طبيعة علاقاتهم الدولية والإقليمية. ولذلك علاقة مباشرة وأخرى غير مباشرة بمصالح تلك الدول، ومخططات يُعمَل على تنفيذها في سوريا وباقي دول الإقليم. فالأطراف الدولية ما زالت تهيمن على المشهد السياسي والميداني السوري، ما يعني أننا أمام مشهد يستمر فيه التناقض الداخلي المحمول على تناقضات دولية وإقليمية. وذلك بحد ذاته يحمل مخاطر وتحديات مستقبلية لدول المنطقة شعوباً وأنظمة.
ومن نافل القول إن شعوبنا ما زالت خارج دائرة التأثير والفاعلية السياسية. أما في ما يتعلق بنظامنا السياسي، فإن استمراره يرتبط بطبيعة علاقته السياسية والاقتصادية مع حلفائه الدوليين والإقليميين. وأيضاً بطبيعة علاقته بنا كجمهور، ما أدى إلى تحويلنا إلى أرقام سالبة. ويفيدنا ذلك بالقول إنه حتى اللحظة يجري توظيفنا كأفراد وكتل بشرية في أسواق النخاسة السياسية.
فالمؤتمرون في جنيف وغيره من المؤتمرات، يدّعون تمثيل السوريين. وإذا دققنا قليلاً في قضية التمثيل السياسي التي ما زالت حتى اللحظة إشكالية، نلحظ أن ثمة تناقضاً بين أوضاع تلك الأطراف وبنيتها وتركيبتها، وبين ادعاءاتها بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري.
فالنظام ما زال متمسكاً بمقولة تمثيل السوريين والدفاع عن مصالحهم، وخصوصاً الأقليات. وذلك يخالف ألف باء السياسات التي يعتمدها منذ سنوات وحتى اللحظة. ويدلّ على ذلك سياسات الإفقار التي تجلّت بوضوح في سياق تحرير الاقتصاد والأسواق وعدم القيام بأية إجراءات حقيقية لحماية الاقتصاد الوطني ومصالح السوريين. وتزامن ذلك مع الاستحواذ على الثروات الوطنية مقابل حرمان السوريين إياها، ما أفضى إلى ارتفاع معدل البطالة والتضخم وتغريب السوريين عن وطنهم وتحويل أعداد كبيرة منهم إلى متسولين. وجميعها عوامل أسست لتضخم الفساد الاجتماعي الاقتصادي الإداري والسياسي، ويكشف عن ذلك ارتباط رجال المال بالسياسية والسلطة. وانطلاقاً من ذلك، كان لسياسات النظام الاقتصادية النقدية والمالية الدور الأساس في وصولنا إلى ما نحن عليه. وبداهةً فإن لذلك علاقة مباشرة بالممارسة السياسية القائمة على احتكار القرار والسيطرة على المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية. فالهيمنة المتمثلة بسلطة الحزب الواحد الشمولي، ومحاربة أية ميول سياسية معارضة شكّلتا مدخلاً إلى تمكين السلطة المطلقة. والسلطة المطلقة في علم السياسة تؤسس إلى/ أو هي بحد ذاتها مفسدة مطلقة. بعد ذلك، هل يحق لممثلي النظام القول إنهم يمثلون السوريين؟
أما في ما يخص أوضاع المعارضة، فإنه لا خلاف بنيوي بينها وبين بنية النظام، وإن بدا ما يخالف ذلك ظاهرياً. وأوضاعها أثناء الأزمة لا تعدو عن كونها امتداداً لأوضاعها قبل الأزمة. والأخطر في ذلك ارتباط بعض من أطرافها بفصائل إسلامية متطرفة، يضاف إلى ذلك ارتهانها لدول خارجية ما زالت تدَّعي الدفاع عن مصالح الشعب السوري. ما جعلها رهينة توازنات وتناقضات دولية وإقليمية، إضافة إلى كونها باتت تستمد أسباب وجودها ومشروعيتها السياسية من الخارج. يقابل ذلك أو يتقاطع معه عدم اشتغال الأطراف المعارضة على بلورة هوية سياسية وفكرية تستند إلى تحليل موضوعي لأوضاع السوريين وطموحاتهم السياسية التي تتمثل في الانتقال إلى نظام ديمقراطي يتيح لهم المشاركة السياسية، ويضمن العدالة الاجتماعية. في السياق، نشير إلى أن عدم مراجعة الأطراف المعارضة لأوضاعها وتحالفاتها ومآلاتها الراهنة كان من الأسباب التي قلصت من صدقيتها ومن مشروعيتها السياسية السورية، ما جعلها بنظر الكثير من السوريين لا تختلف عن النظام إن لم تكن أسوأ. هذا في وقت يبدو فيه أن اختبار فاعلية تجميع الوفود الثلاثة (الهيئة العليا للمفاوضات ومنصتي القاهرة وموسكو) في وفد واحد سيكون في ميادين التفاوض على القضايا المصيرية.
وفي ظل تكاذب الدول الضالعة في الصراع السوري، وارتباط أطراف الصراع الداخلية بها، بات واضحاً أن الشعب السوري بغالبيته العظمى رهينة صراعات دولية وإقليمية مباشرة وغير مباشرة. وجميعها ساهمت في تدمير سوريا، وتحويلها إلى ساحات صراع لا علاقة للسوريين بها، وأيضاً بإخراج السوريين من حقل الفاعلية السياسية.
نستخلص مما سبق، أولاً: أنّ أياً من الأطراف المتفاوضة لا يحق له احتكار تمثيل السوريين. ثانياً: نجاح الجولة الثامنة لمفاوضات جنيف أو «الحوار الوطني» في سوتشي أو غيرهما يرتبط بنحو كبير بالتوافقات الدولية والمعطيات الميدانية. ثالثاً: أي حل سياسي محتمل سيكون على قاعدة الدور الإقليمي لسوريا. رابعاً: يرتبط مصير الرئيس الأسد بالتوازنات الدولية والإقليمية، وأيضاً بطبيعة التوافقات الدولية على كيفية إعادة إنتاج النظام السياسي وتركيبة الدولة وبنيتها. ولذلك علاقة مباشرة بالمشاريع الدولية والإقليمية المتصارعة على مستوى الإقليم. ويكشف عن ذلك ما يُعَدّ بجنوب سوريا، وأيضاً في شمالها الشرقي التي تميل التوقعات بخصوصها إلى إمكانية تمكين النزعات الانفصالية. وذلك يستدعي بالضرورة تطويقها بالحوار والتفاهم مع القوى الكردية على ضرورة الانتقال إلى نظام ديمقراطي يضمن حقوق كافة السوريين ويضمن وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
أما الكلام عن انتخابات ديمقراطية بإشراف أممي، فيبدو أن لا معنى له من دون توفير مناخ سياسي ديمقراطي. وذلك بحاجة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بما يتناسب والمحافظة على حقوق المواطنة والحريات السياسية. خامساً: في ما يتعلق بـ«الثورة السورية» فإن تحوّلها لإحدى أدوات الصراع الخارجية جعلها أقرب ما تكون لثورة مضادة للسوريين وللديمقراطية. أخيراً: بعد القضاء على البؤر الرئيسية للإرهاب، يقف النظام والمعارضة بأطيافها كافة أمام الاستحقاقات الداخلية، ما يعيد الجميع إلى حقل التناقض الأساس بين السوريين أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير الوطني الديمقراطي، وبين النظام بتركيبته وبنيته وآليات اشتغاله التي كانت من أسباب الحراك الشعبي السلمي. ما يعني ضرورة الاشتغال على إنتاج رؤية سياسية مختلفة عمّا كانت سائدة سنوات الصراع، أي التركيز على إيجاد مخارج سياسية سلمية يشارك فيها السوريون جميعاً. كل ما تقدم يفيد بأن مسار المفاوضات لا يزال طويلاً ومعقداً، والأكثر خطورة يتمثل في التوافقات غير المعلنة والسرية بين الدول الكبرى، التي يُخشى أن يعاد على أساسها إنتاج بنية النظام بأشكال أخرى جديدة لا علاقة لها بجوهر القضية السورية… ما يعني أنه لن يكون للسوريين أي دور مستقل في مجمل المتغيرات الدولية والداخلية. ويدلّ ذلك على أننا مجرد أدوات وظيفية.
* كاتب وباحث سوري
الاخبار
هل انتصر بوتين؟/ ميشيل كيلو
أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في لقاء سوتشي الذي جمعه بالرئيسين التركي أردوغان والإيراني حسن روحاني، أن مستلزمات الحل السياسي السلمي في سورية غدت متوفرةً، بعد قضاء جيش بلاده على “داعش”، وخفض التصعيد في أربع مناطق. ويبين هذا الإعلان ثقة بوتين بأن جميع خيوط الصراع غدت في يده، بما في ذلك خيط أميركا التي حذّرها سياسي روسي من أن قوة جويةً رادعةً ستبقى في سورية، لمنع واشنطن من تهديد نظام الأسد.
هل سينجح الرئيس الروسي في فرض حلوله المخالفة لوثيقة جنيف التي كانت بلاده قد وافقت عليها، وشاركت في صياغتها ووافقت عليها في مجلس الأمن. ثم أخذت روسيا ترى الحل انطلاقا من هذه الصراعات التي بلورت استراتيجية جديدة للانخراط فيه، عبر إعادة بناء قواتها المسلحة واستخدامها لتحقيق أهداف سياستها الخارجية في الساحة الدولية، ردعت بها جارتها جورجيا، وتوسعت في أوكرانيا، حيث استولت على شبه جزيرة القرم، وغزت سورية، من ضمن خطةٍ أعلنها بوتين، لاستعادة مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابقة، وإجراء تسوياتٍ مع أميركا، تضع حدا لخلافاتٍ كبرى معها، تستعيد روسيا من خلالها مكانتها دولة عظمى في نظام دولي جديد هي قطبه الثاني.
منذ الغزو الروسي لسورية، تركزت سياسات موسكو على بلورة قراءة للقرارات الدولية، تقوّض ما أعطته للشعب السوري من حقوق، وفي مقدمها التخلص من الأسدية، شخوصا ونظاما، وتستبدلها بقراءة مجافية لها نصا وروحا، تفرضها قوة متفوّقة ترابط في قواعد عسكرية سورية، تساعدها لاحقا على بناء نظام أمن إقليمي، لن يكون من السهل إقامته، في حال نافستها دول أخرى، اقليمية أو عظمى، على سورية، أو تمكنت من تقييد دورها فيها.
والحال إن هذه المنافسة قائمة، وتمارسها إيران وأميركا: الأولى بما تنتهجه من سياسات توسع إقليمي، سورية أهم حلقاته، وتمتلكه من قوات عسكرية كبيرة فيها، جيدة التسليح والتدريب، تتوضع في مناطق واسعة منها وبجوارها، وتتوسع نحو مقربةٍ من حدود الجولان. والثانية بوجودها العسكري البري والجوي في الشمال السوري الذي يعادل الوجود الروسي في سورية، إن لم يتفوق عليه.
لا تكفي ثقة بوتين الكلامية بقدرته على اللعب بخيوط إيران وأميركا، والانفراد بالغنيمة السورية. هناك وقائع ميدانية تؤكد أن التطور لن يذهب في الاتجاه الذي يريده، وأن عقد لقاءاتٍ مع قيادات إيرانية لا يعني أنها استسلمت له، والدليل تدفق قوات من الجيش الإيراني على سورية، بعد نهاية الحرب ضد “داعش”، وصدور تصريحاتٍ عن أعلى المستويات الأمنية في طهران، تؤكد أنها التي هزمت “داعش”، ولن تفرّط بانتصارها ودلالاته المذهبية فوق السياسية، ولن تتخلى عنها أو تفرط في حمايتها، بصفتيها الدينية والدنيوية، المتجسدتين في منجز سورية الذي يعد حلقة حاسمة في معركة تاريخية، حلقتها القادمة ضد الصهاينة الذين يستحقون العقاب، لأنهم يحولون دون عودة صاحب الزمان!
في الشمال، احتلت واشنطن قرابة 30% من أرض سورية، وأقامت في جنوبها الشرقي قواعد أقامت فيها وجودا عسكريا، قال أحد جنرالاتها إنه سيستمر من عشرين إلى ثلاثين سنة. لم تضايق واشنطن موسكو في فترة الصراع العسكري، لكنها لن تسهل مهمتها في مرحلة الحل السياسي، إن كانت تريد الانفراد بها. وبالفعل، فقد أعلنت أنه لن تتم إعادة إعمار سورية، ما دام بشار الأسد في السلطة، لن تنسحب من سورية إذا لم يتفق الحل الروسي مع مصالحها.
بهذه التطورات، ينتقل الصراع من المجال السوري، ويتحول إلى مشكلة إقليمية/ دولية تختلف حساباتها جذريا عن حسابات الغزو الروسي لسورية، وأنماط الصراع التي ستشهدها، بينما يميل الأسد مرة إلى موسكو ليرفع ثمنه إيرانيا، ومرات إلى طهران، ليرغم روسيا على التمسك به في جميع الأحوال والظروف.
كيف سيخرج بوتين من وضع يضمر فخاخا ستستخدم ضده: إيرانيا، إذا حاول إخراج طهران من سورية، أو انحاز إلى سياسات واشنطن ضدها، وأميركيا عندما سيتفاوض بوتين مع واشنطن، ويكتشف أنه لم يمسك بخيوطها، وما لديه من خيوط تعتمد على قوته العسكرية لا تمكّنه من الانفراد بحلٍّ ليست تعقيداته وتشابكاته طوع بنانه، وأن عليه تقديم تنازلاتٍ كي لا تنهار خطته في المنطقة والعالم، بينما لن تتنازل واشنطن عن شيء، أو تدعوه إلى تسوياتٍ، تجعل منه ندّا لها، أو قوة عظمى، بموافقتها.
كانت مرحلة الحرب الأسهل لروسيا. مع الحل السياسي ستبدأ متاعبه التي ستكشف ما إذا كان قادرا على القفز حقا عن خياله، كما يحاول إيهامنا.
العربي الجديد
رسائل حميميم الروسية/ حسين عبد العزيز
إذا كانت زيارة بشار الأسد المفاجئة إلى مدينة سوتشي الروسية، في العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تحمل أبعاداً سياسية مرتبطة بالملف السوري، فإن زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى قاعدة حميميم في اللاذقية، تحمل أبعاداً سياسية مرتبطة بالشأن الروسي أولاً، ثم السوري.
ولم يكن بوتين بحاجة إلى تكلف عناء الذهاب إلى قاعدة حميميم في سورية، لإعلان سحب جزء من القوات العسكرية الروسية، وليس ثمّة ضرورة سياسية تقتضي ذلك، بعد لقاء سوتشي الثنائي، لكن طريقة الزيارة ومخرجاتها الفنية ترمي إلى تحقيق بروباغندا إعلامية، جمهورها الشعب الروسي، وليس الشعب السوري.
وإذا كانت الحرب الروسية في سورية قد رفعت من أسهم بوتين أمام شعبه، كونها أعادت إحياء نزعة القوة لدى شعبٍ طالما امتلك مقوماتها خلال القرن الماضي، فإن إعلان بوتين انتهاء هذه الحرب من داخل القاعدة العسكرية الروسية في سورية سيضاعف من رصيده الشعبي، وهو مقبل على الاستحقاق الانتخابي. وهو الذي أراد أن يظهر أمام شعبه وكأنه الرجل الوحيد القادر على صنع السلام في بلدٍ تخطت أزمته حدود المعقول، بعدما كان الرجل الوحيد على الساحة الدولية الذي استطاع تغيير مجريات الأمور في سورية. ولكن الزيارة تتجاوز أيضاً قضايا الداخل الروسي، فهي تحمل رسائل عدة إلى مختلف الفرقاء بما فيهم الحلفاء:
الأولى تؤكد أن قاعدة حميميم أرضٌ روسية وليست سورية، وأن الأسد هو الذي جاء للقاء بوتين وليس العكس، وأن روسيا باقيةٌ في هذه القاعدة وقاعدة طرطوس إلى أجل غير مسمى، بشكل غير مرتبط بتداعيات الأزمة السورية. الثانية، ذهاب بوتين إلى حميميم بدلاً من دمشق وإعلانه سحب عددٍ من القوات الروسية يؤكد أن القرار الاستراتيجي في سورية يصدر من حميميم، ترميزاً جغرافياً لموسكو، ولا يصدر من دمشق. الرسالة الثالثة هي إلى الغرب، وتحديداً واشنطن، أن موسكو هي صاحبة اليد الطولى في سورية، مع ما يعنيه ذلك من أن استحقاق السلام يجب أن يمرّ عبر بوابة الكرملين. الرسالة الرابعة هي إحراج للبيت الأبيض
“على الرغم من رسائل القوة التي حملتها زيارة بوتين إلى قاعدة حميميم، فإنها حملت رسالة ضعف أيضاً”
بضرورة سحب قواته العسكرية من سورية، أو على الأقل تسليط الضوء على عدم شرعية هذا الوجود. فإذا كانت روسيا التي دخلت إلى سورية بطريقة شرعية، بالاتفاق مع حكومة دمشق، قرّرت سحب قواتها بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، فالأَوْلى بالقوات الأميركية أن تفعل ذلك.
فهمت واشنطن الرسالة، فسارعت إلى التشكيك في جدوى الإعلان الروسي بالقول، عبر الناطقة باسم مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض، “نعتقد أن الإعلان الروسي عن هزيمة داعش سابق لأوانه… رأينا مراراً في التاريخ الحديث أن أي إعلانٍ عن النصر سابقٍ لأوانه، يعقبه فشل في تدعيم المكاسب العسكرية، واستقرار الوضع، وتهيئة الظروف التي تحول دون إعادة ظهور الإرهابيين”. وما قالته الناطقة باسم مجلس الأمن القومي مواربةً، أعلنه البيت الأبيض بوضوح، حين أكد أنه لا ينوي سحب القوات العسكرية من سورية. ولا تقتصر رسائل سحب القوات على الجانب الأميركي فقط، بل تشمل إيران أيضاً، فإذا كانت روسيا القوة الضاربة في سورية قد سحبت جزءاً من قواتها، فالأَوْلى بإيران أن تفعل ذلك أيضاً. وتدرك موسكو أهمية الحضور الإيراني في سورية وقوته، وأن استمرار هذا الحضور بهذه الطريقة سينعكس بالسلب على الجهود الروسية في الحل السياسي. وهناك رسالة إلى النظام السوري، أن مرحلة العسكرة انتهت من الناحية الاستراتيجية، وأن مرحلة التسوية السياسية بدأت.
وعلى الرغم من رسائل القوة التي حملتها زيارة بوتين إلى قاعدة حميميم، فإنها حملت رسالة ضعف أيضاً، فروسيا غير قادرة وحدها على إنفاذ سياسات القوة بمفردها، وهي بحاجة إلى تعاون مع شركاء كثيرين، مثل الولايات المتحدة وإيران وتركيا في المقام الأول، والسعودية وقطر ومصر في المقام الثاني، وهذا ما يفسر الانفتاح الروسي على قطر والسعودية.
اكتشف صناع القرار في الكرملين أنهم غير قادرين على إنجاز حل سياسي، في حدوده المعقولة، من دون الآخرين القادرين على عرقلة المشروع الروسي في سورية، حتى النظام السوري نفسه، وعلى الرغم من ضعفه الشديد، ما زال يمتلك أوراقاً داخلية، تمكّنه من امتصاص الضغوط الروسية، إذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء.
تشكل زيارة بوتين إلى حميميم فاصلاً بين مرحلتين، ستكون الثانية أكثر صعوبةً واختباراً حقيقياً لمدى قدرة موسكو على إظهار قدراتها السياسية في تنفيذ رؤيتها.
العربي الجديد
قواعد اللعبة في سورية روسية خالصة/ مصطفى كركوتي
الشخص الأول الذي كان في استقبال الرئيس الروسي بعدما حطت طائرته يوم الاثنين الفائت في مطار حميميم السوري، في ريف اللاذقية، حيث القاعدة الجوية الوحيدة لروسيا خارج أراضيها، كان الجنرال الروسي قائد القاعدة، وليس الرئيس بشار الأسد الذي أُسْتُبْعِد بحركة واضحة من يد الجنرال من مشهد مراسم الاستقبال.
صحيح أن الأرض سورية ولكن قاعدتها وضيفها وقواتها ينتمون إلى روسيا. الرسالة واضحة للغاية: بوتين أول ضيف أجنبي يزور سورية منذ سبع سنوات ليس كرئيس دولة يزور دولة أخرى، بل كقائد يزور قوات بلاده التي تقوم بمهمة فوق أرض أجنبية. عدا اللقاء العابر مع الأسد بعد انتهاء مراسم الاستقبال، هو لم يُخصص أي وقت ذي معنى للحديث مع الأخير.
وكأنه يريد تأكيد أنه صاحب القرار في سورية، أعلن بوتين عن قراره بدء سحب بعض قواته مطمئناً بذلك قاعدته الداخلية حيث لا مزاج وطنياً روسياً للتدخل في حروب الآخرين. أما على الأرض في سورية، فالرسالة مختلفة. فبوتين يبتهج ويستقوي في آن، بقاعدة روسيا الدائمة في الشرق الأوسط معيداً التأكيد أنها باقية على رغم إعلانه «الانتصار» على إرهاب «داعش» في سورية.
توقفه العابر، ولكن المليء بالرمزية، في حميميم، وزيارته لكل من القاهرة وأنقرة في يوم واحد، يستعيدان مشهد جولة قيصر روما وهو يطوف حلبة المصارعة لتحية المتصارعين المنتصرين والجماهير في نهاية موسم المصارعة. لقد مضى عامان وثلاثة أشهر على تدخل قوات روسيا في سورية وتعتبر موسكو تدخلها أكثر عملياتها العسكرية نجاحاً في الخارج منذ حرب أفغانستان. جلّ تجارب التدخل العسكري في تاريخ المنطقة المعاصر انتهت عادة بالفشل والكوارث، ولكن الكرملين لا يرى في تدخله الراهن غير نجاح باهر.
فعلى رغم التساؤلات حول استكمال القوات الروسية برنامج تحديثها في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يبدو من تجربة موسكو السورية أن روسيا تستطيع أن تتحمل أعباء هذا التدخل حتى الآن، على رغم فشل حاملة طائراتها القديمة «أدميرال كوزنيتسوف» والمتبقية من عهد السوفيات الغابر أثناء عبورها القناة الإنكليزية في العام الفائت. وعلى عكس تدخلات الغرب العسكرية في العقدين الماضيين، تدخل روسيا في سورية لم، ولا، يهدف لتغيير نظامٍ متوحش ومستبد في دمشق، ولا مطاردة فلول «الإرهاب المتطرف» كما يدعي إعلامها، بل أجهض حركة انتفاضة وطنية كانت واعدة في البلاد وقتل عشرات الآلاف من أبناء سورية المناهضين لنظام الأسد قبل عامين تقريباً من ظهور «داعش».
لعبة بوتين قامت منذ البداية على قواعد موسكو فحسب وهذا ما ضمن حتى الآن أهداف اللعبة. فهو احتفظ برئيس دولة حليف ومجرم في منصبه ولو على أشلاء دولة ممزقة، وعزز ركائز تحالف إقليمي جديد مع إيران وتركيا، وضمن من دون منازع وجوداً طويل الأمد لروسيا في قاعدتين جوية وبحرية على الأبيض المتوسط في حميميم وطرطوس، وأسس لنفسه كزعيم وحيد في العالم يتمتع بنفوذ واسع في الإقليم.
وما يفسر هذا الواقع أيضاً لقاء الرئيس التركي أردوغان مع بوتين خمس مرات في الأشهر العشرة الأخيرة، وسبع مرات مع رئيس وزراء إسرائيل عدا اتصالاته الهاتفية المستمرة مع الرجلين. يضاف إلى ذلك طبعاً إبقاء طهران على إطلاع كافٍ في شأن تحركات بوتين الذي يرى في وجود «الحرس الثوري» و «حزب الله» فوق الأراضي السورية هبة سماوية لما يقومان به من دورٍ قذرٍ يُعفي موسكو من مهمة إرسال قوات برية إلى سورية. لقد تمكنت روسيا من دخول سورية مستفيدة من فرصة تاريخية أثناء إدارة باراك أوباما التي قررت الانسحاب من أزمات المنطقة. فإذا كان أوباما قد فتح بوابة دخول موسكو إلى سورية، فإن إدارة دونالد ترامب أبقت هذه البوابة من دون حراس.
إنجازات بوتين حتى الآن هي ما يحرزه المنتصر من غنائم حرب مقابل دمار شامل لسورية. فلا هو لديه النوايا ولا اقتصاد روسيا يسمح بإعادة إعمار البلد المنكوب. فسورية ستبقى بلداً مدمراً لعقود يصعب تحديدها الآن في ظل أوضاع الإقليم الراهنة. فنصف سكانها نازحون وأكثر من ربعهم لاجئون، وسياسة بوتين لم تهدف للحظة واحدة إلى إنقاذ سورية بل تؤكد يوماً تلو الآخر منذ التدخل العسكري في 2015 على حرص موسكو على التمسك بقيادتها المتهمة بارتكاب مجازر جماعية واستخدام أسلحة محرمة ضد المدنيين.
وما يريح بوتين أن دول الجوار في الإقليم، بخاصة إيران وإسرائيل وتركيا، تراقب ما يجري من دون التدخل بل إبداء المشورة بين الحين والآخر. فعلى رغم الوجود العسكري الكثيف لتركيا في شمال سورية، فإن روسيا تتفهم هذا الوجود باعتباره يخدم المحافظة على الجغرافية التركية أمام تهديد الأكراد بالانفصال. وهي تتفهم، بل ترحب، بوجود الإيرانيين أيضاً الذي تعتبره عنصراً يخدم المحافظة على استقرار نظام دمشق. وزير الخارجية لافروف أوضح أنه لا القوات الروسية أو الإيرانية مضطرة للخروج من سورية ما دامت موجودة «بدعوة من الحكومة السورية». ويجب أن يذكر في هذا السياق مدى سعادة موسكو باستخدام طهران لميليشيات «حزب الله» اللبنانية ومسلحين آخرين من باكستان وأفغانستان وأذربيجان، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من عناصر «الحرس الثوري» الإيراني.
ويبدو نتانياهو مرتاحاً، على عكس ما يعتقد البعض، جراء ترتيبات موسكو وطهران، وهو على اتصال منتظم مع بوتين حول دور ومدى تحرك «الحرس الثوري» أو «حزب الله» في سورية. فمن جهة، لم تعد هناك مؤشرات على ضغوط إسرائيلية جديدة على إيران، كما يلاحظ بوضوح كيف أن موسكو تمتنع عن تعطيل أو حتى إدانة الطلعات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية أو تابعة لحزب الله، على رغم أن روسيا هي التي تسيطر على أجواء سورية.
الحياة
هل انتهت مفاوضات جنيف أم فشلت؟/ عمر كوش
عرفت الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف السورية مماحكات وتجاذبات كثيرة، أبرزها امتناع وفد النظام عن حضور الأيام الأولى من مرحلتها الأولى، ثم تغيبه خمسة أيام عن بداية مرحلتها الثانية، في حين أن وفد المعارضة بقي ينتظر في فندقه عملية التفاوض نحو ثلاثة أسابيع، لكن النظام رفض الدخول معه في مفاوضات مباشرة، بل ورفض حتى الاعتراف بالوفد الذي تشكّل في مؤتمر “الرياض 2” الذي ضم إلى جانب ممثلين عن ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة التنسيق، ممثلين مستقلين وآخرين عما تعرفان بمنصتي القاهرة وموسكو. وبالتالي لم تشهد هذه الجولة كسابقاتها أي مفاوضات حقيقية، بل كانت لقاءات أجراها المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بشكل منفصل، مع وفدي النظام السوري ومعارضة “الرياض 2″، الأمر الذي يستدعي القول إن مسار جنيف التفاوضي الأممي انتهى، أو على الأقل فشل وشارف على نهايته، وما تبقى منه ربما سيبقيه صورةً باهتةً لتمرير ما يتمخض عن مساراتٍ أخرى بديلة، خصوصا أن النظام الروسي يحضّر لعقد مؤتمر “الشعوب السورية” في سوتشي، ويرغب في جعله مؤتمراّ لـ”الحوار الوطني السوري”، خاطفاً اثنتين من سلال المبعوث الأممي الأربع، تلك المتعلقتين بالإصلاحات الدستورية والتحضير لانتخابات تحت ظلام حكم نظام الأسد المجرم، وفاقد الشرعية والأهلية.
وعلى الرغم من أن دي ميستورا لا يريد أن يقرّ بفشل مسار جنيف التفاوضي الخاص بسورية، حفاظاً على مهمته ووظيفته، إلا أنه لم يستطع كبت أسفه على “ضياع فرصة حقيقية”، وراح يتحدّث عن جهودٍ بذلت، لكنها لم تفضِ إلى مفاوضات حقيقية، مكتفياً بالإشارة إلى أن “النظام السوري لم يسعَ حقيقة إلى الحوار”، بدلاً من أن يحمّله مسؤولية فشل هذه الجولة والجولات السبع السابقة لها، ولم تسفّه إشارته الخجولة إلى عدم اعتباره “حجج وفد النظام السوري،
“دي ميستورا لا يريد أن يقرّ بفشل مسار جنيف التفاوضي الخاص بسورية، حفاظاً على مهمته ووظيفته”
بخصوص طلب تخلي المعارضة عن بيان الرياض 2، منطقية”، لأنها، في حقيقة الأمر، شروط مسبقة، وضعها وفد النظام، بوصفها ذرائع للتملص من الاستحقاق التفاوضي، إلى جانب شروط عديدة أخرى، أهمها المتعلق بـ”عقدة الأسد”، حيث يعتبر النظام الحديث عن مصير الأسد خطاً أحمر، والحديث عن انتقال سياسي مجرّد وهم، ولن يحصل، وهذا ما عبر عنه رئيس وفد النظام بالقول إنهم لم يأتوا إلى جنيف لتسليم السلطة.
ولعل حديث دي ميستورا عن “الواقعية” التي طالب بها وفد النظام للمرة الأولى، لم يرافقه أي موقفٍ منه حيال التغيب أياماً عديدة عن المفاوضات، والتهرّب من الدخول في عملية التفاوض، فضلاً عن الاستخفاف بالقرارات الأممية، في حين أن طلب دي ميستورا وقوى دولية وإقليمية من المعارضة السورية أن تكون واقعية ولّد ضغوطاً كبيرة عليها، جعلتها تغير عدة مبادئ وثوابت ينبغي أن تتمسك بها، لكي تمثل غالبية السوريين، وأهداف ثورتهم، ووصل الأمر بوفد “الرياض 2” إلى تحويل مسألة التغيير أو الانتقال السياسي إلى مجرد البحث في إصلاحات دستورية وانتخابات، وتحويل مسألة رحيل الأسد إلى مجرد وجهة نظر ومسألة تفاوضية، والأخطر هو ضم أعضاء من منصتي موسكو والقاهرة ومن هيئة التنسيق، الذين يرون أن الأمر مجرد خصومة سياسية بين جميع السوريين، حسبما تحدّث رئيس منصة موسكو، قدري جميل، الذي اعتبر أن النظام بالنسبة إليه مجرد خصم سياسي، على المعارضة محاورته ومصالحته لإنهاء الخصومة، وبالتالي فإن ما جرى في سورية، في السنوات السبع التي خلت، من جرائم قتل وتعذيب وتهجير، اقترفها النظام، لا وزن لها ولا أثر في عُرف منصة موسكو وأخواتها.
والغريب أن كلاً من وفد “الرياض 2” والبعوث الأممي الخاص إلى سورية، يحصران مسار جنيف التفاوضي في تنفيذ قرار مجلس الأمن 2245، وهو قرار يتضمن نقاطا ومبادئ أساسية، جرى اختصارها في الجولة الثامنة من المفاوضات في نقطتين فقط، الدستور والانتخابات، وجرى الدوس على المرحلة السابقة لعملية التفاوض، وسمّاها القرار نفسه مرحلة حسن النيات وبناء الثقة، التي يفترض بها إيجاد بيئة جديدة مناسبة لتقبل الحل السياسي، وتقضي بوقف إطلاق النار وفك الحصار عن المدن والبلدات والقرى المحاصرة، وإيصال المساعدات الطبية والإنسانية إليها، وإطلاق سراح المعتقلين. ولم ينفذ النظام أيا منها، والأدهى من ذلك أن جولات مسار جنيف التفاوضية انطلقت قبل تهيئة البيئة المناسبة للانتقال السياسي، وترك الأمر لمسار آخر، لا يحظى بالشرعية الأممية، وهو مسار أستانة، الذي أخذ طابعاً عسكرياً، اجترحت خلال جولاته المتعدّدة مناطق “خفض التصعيد”، المفترض أن تشهد وقفاً لإطلاق النار، لكنها
“مع كل التصعيد الذي يقوم به نظام الأسد، ومليشيات نظام الملالي الإيراني، من غير الممكن أن ينتهي مسار جنيف التفاوضي إلا إلى الفشل”
لم تحفظه أمام خروق النظام واعتداءاته التي لم تتوقف يوماً، على الرغم من الرعاية الروسية والتركية والإيرانية. وقد واصل النظام حربه على مختلف المناطق في سورية، على الرغم من كل الاتفاقات في أستانة وسواها، ووصل به الأمر في أيامنا هذه إلى شن حرب إبادة ضد سكان مناطق غوطة دمشق الشرقية، والهجوم على محافظة إدلب، بالتنسيق مع تنظيم داعش.
ومع كل التصعيد الذي يقوم به نظام الأسد، ومليشيات نظام الملالي الإيراني، من غير الممكن أن ينتهي مسار جنيف التفاوضي إلا إلى الفشل، خصوصا في ظل دفاع النظام الروسي عن ما يقوم به النظام الأسدي على الأرض، وفي جنيف وسواها، الأمر الذي ينذر بمزيدٍ من تأزم القضية السورية، ودخولها مساراتٍ أشدّ ظلمةً، وانتقالها إلى أوضاع تهدّد مستقبل سورية والسوريين، لأن النظام الذي رفض، منذ اليوم الأول للثورة، أي حل سياسي، ما يزال يواصل النهج نفسه في القتل والمجازر والتعذيب والتغوّل في إراقة الدم السوري.
العربي الجديد
إدلب في جنيف وسوتشي/إياد الجعفري
يأمل الروس أن يحيكوا في سوتشي “طائفاً سورياً”. ولا يمانع الأسد أو الإيرانيون، ما دام ذلك “الطائف” سيكون على قياس الأسد، وبقماش إيراني. لكن، قبل أن يلعب بوتين دور الحائك، سيكون مضطراً للمشاركة في جولة قذرة أخرى، هذه المرة في إدلب، لقاء منحه مكانة شرفية، كقائد للتحالف الإيراني – الأسدي.
لذلك يمكن لبشار الأسد أن يتحمل إهانات أخرى من حليفه الروسي، من قبيل تلك التي تلقاها قبل أيام في حميميم، ما دام الأمر لا يعدو كونه تكتيكاً إعلامياً، يخدم حملة انتخابية داخلية في روسيا. أما الأداء الاستراتيجي الروسي، السياسي والميداني، في سوريا، فلم يتغير، وما زال في صالح الأسد، وكذلك إيران.
قبل أسابيع، تساءلنا في هذه الزاوية عما قيل للأسد في سوتشي، حينما استدعاه بوتين في لقاء أثار الكثير من الجدل. وحينها، أشرنا إلى رواج نظريتين، إحداهما تقلل من قيمة ما دار في ذلك اللقاء، مرجحةً أنه لم يتجاوز التنفيس عن غضب روسي ناجم عن إعلان النصر على “داعش”، من طهران ودمشق، قبل موسكو. والأحداث التالية، أكدت أن ذلك ما حدث بالفعل. ويبدو أن الإيرانيين والأسد مستعدون لمنح بوتين، المكانة الشرفية، كقائد للتحالف، ما دام ذلك يعني أن الروس سيواصلون دعم ما يخدم مصالح الأسد والإيرانيين أيضاً. فقد كشف أداء وفد النظام التفاوضي في جنيف8، أن الرهان الروسي هو على سوتشي، لتكون الساحة الخاصة بالحلفاء الثلاثة، لترسيم الخاتمة السياسية للأزمة السورية، ومن ثم منحها مباركة دولية على مضض، في جنيف تاسعة أو ربما عاشرة.
وبذلك، يمكن الجزم بأنه لا نيّة روسية، أو ربما لا قدرة، للضغط باتجاه حل سياسي جاد في سوريا. فالأسد يمكن أن يقبل الإهانة، ما دام كرسي حكمه، وسلطاته النوعية، لن تُمس. والإيرانيون مستعدون لمنح الروس شرف القيادة، ما دام الروس مستعدين لمنحهم، في المقابل، مساهمة طيرانهم في حرب شعواء على المعاقل الأخيرة للمعارضة السورية، حيث تظهر إدلب، بوصفها الوجهة المقبلة. فيما يتم الإجهاز على الغوطة الشرقية باستراتيجية الحصار والتجويع.
بكلماتٍ أخرى، الحل في سوريا، وفق مفهوم التحالف الثلاثي، الروسي – الإيراني – الأسدي، هو حل عسكري. وحوار سوتشي، وفق تصوراتهم، سيكون مجرد إخراج سياسي للاستسلام المأمول من جانب المعارضة. أو على الأقل، هذا ما يريده الإيرانيون والأسد، والروس مضطرون للانخراط فيه، وإلا، فسيخسرون كل مكاسبهم في الساحة السورية. لأنه في الميدان، لا قوة روسية، دون الظهير البري الإيراني.
ما يؤكد الخلاصة السابقة، ذلك الحراك العسكري المتسارع، من جانب الإيرانيين وميليشيات نظام الأسد، باتجاه إدلب، بغطاء جوي روسي. وفي وقتٍ يُعلن فيه بوتين للشعب الروسي، سحب معظم قواته من سوريا، ويباشر طيرانه حرباً شرسة جديدة في الميدان السوري. أما الأتراك فينسحبون من المشهد، حتى الآن، بعدما حصلوا على الحدود الدنيا المتاحة لهم، والتي لا يمكن لهم التخلي عنها، وهي عزل كانتون عفرين، ومنع الأكراد من التقدم نحو البحر.
ومن المرتقب في الأيام المقبلة أن تشتد حملات النظام، المدعمة إيرانياً، وبالغطاء الجوي الروسي، نحو إدلب. تلك البقعة التي تضم أضخم حاضنة شعبية مناوئة لنظام الأسد، في منطقة خارجة عن سيطرته، تذهب تقديرات إلى أنها تتجاوز 4 ملايين سوري. كما أن تلك البقعة تضم أقوى الفصائل المناوئة لنظام الأسد، المتبقية على خريطة الميدان، وهي هيئة “تحرير الشام”، وذلك بغض النظر عن ملاحظاتنا على أدائها السياسي.
وحالياً، باتت الكرة في ملعب الفصائل الفاعلة في تلك البقعة من التراب السوري. وفي مقدمتها، “تحرير الشام”، إلى جانب باقي الفصائل، من قبيل، “أحرار الشام”، و”الزنكي”، والفصائل الأخرى الأصغر حجماً. إن لم تعِ تلك الفصائل خطورة المرحلة، وتتحرك سريعاً لتوحيد صفوفها، فستكون الخاتمة مريرة، لها جميعاً.
المؤشرات الأولية، توحي باستيعاب الفصائل الكبرى لخطورة الموقف. فقد تواردت أنباء أولية عن اتفاق مصالحة عُقد بين “تحرير الشام”، و”أحرار الشام”. وما زال الغموض يلف مصير محادثات تجري مع فصائل أخرى، في مقدمتها “الزنكي”، لتشكيل غرفة عمليات مشتركة، أو على الأقل، الاتفاق على تقسيم الجبهات في مواجهة قوات النظام والإيرانيين المتقدمين.
الروس والإيرانيون، ونظام الأسد، يراهنون على تحقيق إنجاز ميداني نوعي، في إدلب، قبل سوتشي المرتقبة في شباط المقبل. وهي الخطوة الأخيرة، ربما، قبل ترسيم “طائف سوري”. هناك، يراهن الروس على تمريره دولياً في جنيف، وسط انكفاء أميركي يكتفي بما حصّله الحليف الكردي شمال شرق سوريا، بوصفه أداة الضغط القادرة على جلب الروس والإيرانيين إلى طاولة المفاوضات لترتيب المشهد السوري. فموارد الطاقة التي يسيطر عليها الأكراد المدعومون أميركياً، لا غنى عنها لاستقرار اقتصاد نظام الأسد، من دون أعباء إضافية على إيران. وبالتالي، سيضطر الروس والإيرانيون، ونظام الأسد، إلى التفاهم مع الأميركيين، الذين جزموا باستمرار تواجدهم العسكري في سوريا، بـ2000 جندي، لدعم حلفائهم الأكراد على الأرض، فيما طائراتهم تؤمن الغطاء الجوي لهم.
لكن، قبل الوصول إلى لحظة التفاهم المنتظرة بين الروس والإيرانيين من جهة، وبين الأميركيين من جهة أخرى، يسعى الفريق الروسي – الإيراني – الأسدي إلى استكمال لوحة سيطرته، لتشمل المناطق السورية كافة، باستثناء تلك الخاضعة للغطاء الأميركي في شمال شرقي نهر الفرات، وفي الجنوب السوري، وفي بعض الجيوب الصغيرة من البادية السورية.
ولا نعرف بعد إن كان الإيرانيون سيصدقون في تهديداتهم، مستقبلاً، ويذهبون بعيداً في مناوشة القوى التي تحظى بغطاء أميركي، في تلك البقع من سوريا. لكن، في الوقت الراهن، يبدو جلياً أن اهتمام الإيرانيين والأسد سينصب على إدلب، في الفترة التي تفصل بين فشل جنيف8، وبين بدء أعمال مؤتمر الحوار السوري المرتقب في سوتشي، بعد شهرين. وسيبقى المشهد غامضاً، وجلاؤه وقفٌ على أداء الفصائل المناوئة للأسد في تلك البقعة الكبرى المتبقية خارج سيطرته، في إدلب والأرياف المجاورة لها في حلب وحماة.
المدن
‘صفر الجيش ستين’ حتى عند دي ميستورا/ علي العائد
يُروى أن أسوأ عسكري في الجيش السوري، مجندا كان أو عاملا، تكون علامته ستين من مئة في الامتحان، أي ناجح. ولم يسمع أحد أن عسكريا رسب في صفه، أو تم فصله لأنه غبي، أو كسول. والعلامة المذكورة ليست بسبب بساطة المعلومات التي يفهمها ويحفظها العسكريون، بل لأن الامتحانات شكلية، ولا وجود لحالة الرسوب. لكن هذا لا يمنع من الشك في أن الأول على صفه أيضا سيأخذ علامة غير حقيقية في مثل هكذا منطق للامتحانات.
الجيش السوري، أو العربي السوري، العامل، لم يعد موجودا منذ بدأ انتقاء العاملين فيه على أساس طائفي بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970. وإذا كان موجودا شكليا سابقا، فهو لم يعد موجودا في حالة التشظي التي يعيشها مجتمع الجيش كجزء من المجتمع السوري في السنوات السبع الماضية.
لا نعيد هنا سيرة الميليشيات الداعمة للجيش، حتى لا نصادف من يُذكر بالمقاتلين الأجانب في الفصائل المعارضة لنظام الأسد الابن، وخاصة داعش والنصرة، وفصائل إسلاموية أخرى. كما لا نعيد سيرة الحرب التي بدأت مقدمات نتائجها تتوضح، إن لم يكن لدى الأميركان مفاجأة ما تنقض استنتاجاتنا، وتنقض التفرد الروسي في محاولة حل المسألة السورية، حتى لو كان هدف أميركا استمرار الفوضى واستقرارها لأطول فترة ممكنة.
في لقاء جنيف 8 الذي لم يصل بعدُ إلى مستوى المفاوضات، وبعد أن رفع مبعوث الأمم المتحدة لحل النزاع السوري، ستيفان دي ميستورا، الصحف والأقلام، كانت العلامة صفرية في منطق السياسة، لكنها عند ممثل النظام بلغت الصفر الستيني، بعد أن تواطأ جميع الحاضرين على اللقاء في سوتشي، بشروط أو من دون شروط. وسيكون مبرر حضور الهيئة في سوتشي إظهار حسن النية بالالتزام بمبدأ التوصل إلى حل سياسي، كما حدث في مسلسل جنيف الطويل، وتجنيب المزيد من السوريين القتل، كما حدث في مسلسل أستانة.
صفر جنيف الأخيرة سيجيره الروس إلى سوتشي، بعجز فاضح من الأمم المتحدة، بل الولايات المتحدة، على الرغم من زلات لسان ساستها وعسكرييها المؤكدة على أن الحل السوري سيكون أمميا، في تلميح إلى عدم موافقتها على تفرد روسيا بالحل.
التجاذب الوحيد في الفترة الأخيرة بين القوتين الكبيرتين المتدخلتين في سوريا دار حول اتهام بوتين لأميركا بـ”حماية” داعش. وفي الحقيقة، كلتا القوتين أظهرتا من التغاضي عن داعش، وعدم بذل الجهد لمنع حركته خارج المدن التي كان يحتلها، ما يُفسر أنه حماية، تماما كما فعل النظام الأسدي، وإيران، على الأقل بيد حزب الله الذي يَسَّر لمقاتلي داعش الخروج الآمن من عرسال قبل شهور، وكما فعلت قوات سوريا الديمقراطية مع حوالي خمسة دواعش من الرقة.
نحو استبدال سوتشي بجنيف
أميركا لا تستطيع فرض حل في مجلس الأمن بعد أن استخدم الروس الفيتو 12 مرة حماية للنظام الأسدي، لكن روسيا نفسها لا تستطيع فرض حل على المعارضة السورية على الرغم مما يقال عن ضعف بيان الرياض2، وعند ضعف أعضاء هيئة التفاوض إذا استمرت الضغوط الإقليمية والدولية عليهم.
أكثر من ذلك، لا تستطيع روسيا فرض حل على النظام الأسدي، بالتنازل عن حكم سوريا، والمرور إلى فترة انتقالية تفضي إلى تنحي بشار الأسد عن حكم سوريا.
وصفر المعارضة المطلق بدأ قبل عام، أي في 15 ديسمبر من العام الماضي، يوم سقطت حلب رسميا في يد النظام وميليشياته وحليفيه الإيراني والروسي، في الوقت الذي بدأ فيه الحديث عن إمكانية البدء في سلسلة “أستانة”، التي راكمت فكرة مناطق “تخفيف التوتر” التي لعبتها روسيا لمصلحة النظام الأسدي، ما مكنه من مضاعفة الأراضي التي يسيطر عليها خلال العام الجاري.
الآن، تقترب نسبة الأراضي التي يسيطر عليها النظام من 60 في المئة، مع حوالي 30 في المئة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وما تبقى يتقاسمه تنظيم داعش وجبهة النصرة والجيش الحر في الشمال والجنوب. تصادف الحديث عن نسبة الستين في المئة قبل سقوط حلب أيضا، حيث ظل النظام وحلفاؤه من الميليشيات يتنازعان على نسبة 10 في المئة لأكثر من عامين قبل نهاية عام 2016، بمعدل وسطي يتقاسمان فيه مساحة مدينة حلب بين شرقية وغربية، فيتفوق النظام أحيانا وتصل حصته إلى 60 في المئة، أو تتفوق الفصائل المعارضة أحيانا فتتحصل على هذه الستين.
وللإشارة فقط، كان يمكن لداعش أن يسيطر على سوريا كلها انطلاقا من سيطرته على ما يوازي تلك النسبة من مساحة سوريا البالغة (185.180 ألف كيلومتر مربع)، لكن تعقيدات الخارطة العسكرية للمتقاتلين في سوريا، وعليها، لم تتح له ذلك، كما يمكن توقع أن سيطرة النظام على تلك النسبة، الآن، لن تفضي إلى استعادة السيطرة على كامل الأرض السورية، لاستمرار وجود التعقيدات ذاتها.
تضاف إلى ذلك ألغاز العلاقة بين النظام والأكراد، والثبات النسبي لما تبقى من الأراضي التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر، وخاصة في شمال حلب وإدلب، بوجود الدعم التركي للفصائل المعارضة هناك.
وانطلاقا من وضع الثبات النسبي للوضع العسكري الحالي، قبل “جنيف 8″، وبعدها، وصولا إلى احتمال انعقاد مؤتمر سوتشي في فبراير المقبل، واجه النظام هيئة التفاوض بصفره الستيني، في مقابل نسبة منخفضة من سيطرة الفصائل المعارضة المشاركة في الهيئة على الأرض تقترب من الصفر المطلق.
ومن هنا يمكن تفسير تشدد وفد النظام في جولات جنيف، بما فيها الأخيرة، إضافة إلى العامل النفسي لوحدة النظام مدعوما بحلفائه، وبمصالحهم، وإدراكه أن أقل تنازل منه سيؤدي إلى دومينو سقوط قد لا يتوقف إلا بوضعه أمام عدالة السوريين، وانتقامهم، قبل عدالة القانون الدولي.
ولأن النظام يمتلك عناصر القوة الظاهرة في الفترة القصيرة، يسير على حافة الهاوية مرة جديدة، مسترشدا بالمقولة المجربة “وما النصر إلا صبر ساعة”، حتى لو كان على يقين أن النصر العسكري الحاسم مستحيل، ليجرب أن يجر المعارضات إلى الاستسلام، واثقا من ثبات حلفائه على دعمه، وواثقا من تخلي داعمي المعارضات عن دورهم الذي أفسد المعارضات أكثر مما دعمها خلال السنوات الست الأولى من الثورة السورية.
حتى دي ميستورا يعتد بصفر الجيش هذا، فعندما أعيته الحجة والحيلة في إقناع هيئة التفاوض بقبول ما يقبله النظام، ذكَّرهم أن لا أحد يدعمهم الآن، إقليميا ودوليا، عارفا أن الأمم المتحدة ستكون منزوعة الأسنان من دون الولايات المتحدة، وعارفا أن واشنطن تلعب في سوريا في منطقة لا علاقة لها بتحقيق العدالة الدولية، هذا إن كانت الولايات المتحدة قد لعبت مثل هذا الدور في تاريخها.
وعطفا على صفر الجيش، كان المتطوعون من ضباط الجيش يستخدمون كلمة “أستاذ” لمخاطبة الضباط المجندين من حملة الشهادات الجامعية، بمزيج من الشعور بالدونية والتكبر معا، تجاه هؤلاء الضباط. والسوريون جميعا، ربما، يعرفون المقصود من هذه الكلمة.
هذا المضمون هو تماما ما تكلم به بشار الجعفري مخاطبا به هيئة التفاوض، والمجتمع الدولي. وهو ما أقنع به “الأستاذ” دي ميستورا، متسلحا بصفر الجيش.
كاتب وصحافي سوري
العرب
رسائل بوتين بين حميميم والقاهرة وأنقرة/ أحمد حمزة
تنوعت ردود الفعل الرسمية وغير الرسمية على الزيارة الخاطفة المُشبعة بالدلالات، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قاعدة بلاده العسكرية في محافظة اللاذقية السورية يوم الإثنين الماضي. وبينما أبدت “الهيئة العليا للمفاوضات” المنبثقة عن مؤتمر “الرياض2” للمعارضة السورية، ارتياحاً حذراً بحديث بوتين عن سحبِ الجزء الأكبر من قوات بلاده في سورية، معتبرةً أن “أي خطوة بهذا الاتجاه تعيد سورية إلى حالة الأمان، مرحب بها”، فإن واشنطن من جانبها بَدتْ متشككةً بما اعتُبرَ مزاعم روسية “لا تعني عادة تقليصاً فعلياً” لعدد وعتاد تواجدها العسكري في سورية.
موقف “الهيئة العليا” جاء من جنيف، على لسان المتحدث باسم وفدها لجولة المفاوضات القائمة حالياً بالمدينة السويسرية، يحيى العريضي، الذي عبر عن ترحيبه “بأي خطوة تساهم في جلب السلام إلى البلاد”، وذلك في معرض رده عن سؤالٍ للصحافيين حول حديث الرئيس الروسي عن بدء سحب الجزء الأكبر من قوات بلاده في سورية، مضيفاً أن “الهدف الأساس لنا أن تعود سورية لحالة أمان وسلام، كي يعود أهلها إليها، ويعيدوا بناءها، ويشعروا بالأمان”.
كما لَمَّحَ العريضي إلى ضرورة أن تفضي التفاهمات السياسية للقوى الإقليمية والدولية الفاعلة بسورية حالياً إلى إخراج المليشيات المدعومة إيرانياً، إذ أبدى ارتياحاً بالإعلان الروسي، بقوله إن “أي خطوة بهذا الاتجاه تعيد سورية إلى حالة الأمان، مرحب بها”، مستدركاً: “خاصة إن أخذت بطريقها تلك المليشيات التي تعيث فساداً في سورية”.
ولم تتأخر الولايات المتحدة كثيراً للتعليق على حديث بوتين من “حميميم”، إذ شكك المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون)، بمصداقية ما صرح به بوتين، عندما اعتبر أن إعلان روسيا سحب قواتٍ ومعداتٍ عسكرية من سورية “لا يعني عادة تقليصاً فعلياً” لحجم هذه القوات عدة وعتاداً.
وأضاف خلال مؤتمر صحافي في “البنتاغون”، أنّ قوات بلاده العاملة بسورية باقيةٌ عبر “التحالف (الذي) سيواصل العمل في سورية، دعماً للقوات المحلية على الأرض، من أجل استكمال الهزيمة العسكرية لداعش”، ولحين “إعادة الاستقرار للمناطق المحررة (من التنظيم)، والسماح للسوريين المهجرين واللاجئين بالعودة” إلى بلداتهم وقراهم التي فروا منها نتيجة المعارك.
من جهتها، بدت وزارة الدفاع الروسية وكأنها تريد التأكيد على مباشرتها، خلال يومي أول من أمس الإثنين وأمس الثلاثاء، بدء تنفيذ أوامر بوتين، من خلال إعلانها وصول كتيبة من الشرطة العسكرية الروسية المتواجدة بسورية إلى مقراتها، حيث “حطت طائرتا نقل عسكري (أمس الثلاثاء)، قدمتا من سورية في مطار محج قلعة في جمهورية داغستان الروسية، وعلى متنهما مئتا فرد من رجال الشرطة العسكرية التابعين للدائرة العسكرية الجنوبية”، بحسب بيانٍ وزارة الدفاع في موسكو.
بدوره، تحدث قائد القوات الروسية في سورية سيرغي سوروفيكين، عن تَوجيههِ أوامرَ بسحب خمسةٍ وعشرين طائرة من عدة أنواع، وكذلك نقل وحدات عسكرية أخرى متعددة المهام إلى قواعدها الدائمة في روسيا، في الوقت الذي يُشار فيه إلى أن بوتين أكد أن قواتٍ من بلاده ستبقى “بشكل دائم” في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية على سواحل البحر المتوسط السورية.
دعمٌ لنظام الأسد أم العكس؟
زيارة بوتين لـ”حميميم”، كانت كباقي القضايا في سورية موضعَ جدلٍ وانقسامٍ على مستوى الرأي العام السوري. وبينما اعتبرت في أوساط المعارضة “مُهينة” من حيث الشكل والمضمون للنظام ورئيسه بشار الأسد، بررت شخصياتٌ قريبة من النظام بعض ما اعتبرته “ترتيباتٍ بروتوكولية” رافقت الزيارة وكانت مسار جدلٍ واسع بمواقع التواصل الاجتماعي، خاصة المشاهد التي بدا فيها ضابطٌ روسي أثناء توقيفه للأسد وتوجيهيه بعدم اللحاق بالرئيس الروسي نحو المنصة التي كان يستعد الأخير لإلقاء كلمةٍ منها.
وفيما لا يمكن الجزم تماماً بعوالم سياسات الشرق الأوسط المُتغيرة، تبقى السيناريوهات مفتوحة على احتمالات عدة، لكن تؤشر دلالات ما يظهر من مواقف رسمية في الإعلام، على جانبٍ مهم لما يحصل خلف الكواليس. وبعيداً عن مشهد الضابط الروسي الذي قيّدَ حركة الأسد في “حميميم”، والذي تداوله آلاف المستخدمين السوريين لمواقع التواصل، فإن متابعين وباحثين محّصوا الزيارة من كافة جوانبها، وحللوا المشاهد التي انفرد الإعلام الروسي بتصويرها وبثها قبل إعلام النظام الرسمي، وجدوا في كل ما رافق الزيارة مؤشراتٍ تُدلل على أن موسكو تتعمد تهميش دور النظام، وإظهار تحكمها الكامل بقراراته وتحركاته، وبأنها هي التي ترسم مستقبل السلطة في سورية.
ورأى الباحث السوري ساشا العلو، أنه “لو كانت روسيا تريد القول إنها تدعم بشار الأسد، لكان ذلك كلف بوتين كلمات عدة فقط، كأن يقول من حميميم إن روسيا ذاهبة لتقديم مزيدٍ من الدعم للنظام، أو أن يعلن أن روسيا ستقوم بتسليح وإعادة تأهيل الجيش السوري المنهك أو أن يتحدث عن اتفاقيات شراكة اقتصادية، أو يلوح بإعادة إعمار مشتركة وغير ذلك، لكن بوتين أعلن من حميميم النصر الروسي على إرهاب داعش، واستعرض قوته. ومشهد الزيارة ككل، لَمْ يَرقَ بشار الأسد فيه لمستوى أن يكون ممثلاً للمصالح الروسية في سورية”.
وأشار العلو، في حديثه مع “العربي الجديد”، إلى أن “الروس لو أنهم يريدون تعويم بشار الأسد، لأظهروا احتراماً له، وعززوا صورته كرئيس قابل للاستمرارية بين مؤيديه قبل معارضيه، ولم يتعمدوا إهانته في حميميم، وقبلها مرات عدة في مواقف مختلفة”.
ورأى العلو أن الزيارة لا تحمل أي دلالاتِ دعم للأسد بقوله إنه “لو أراد بوتين دعم الأسد، لكان بإمكانه ترتيب الزيارة بصيغة مختلفة تماماً، كأن يذهب بزيارةٍ رسمية للعاصمة دمشق ويتم استقباله رسمياً هناك، ويُعلن الانتصار بشكل مشترك وليس فردياً من جانب روسيا على الإرهاب”. وأشار إلى أن “الزيارة تحمل رسائل واضحة بأن الوجود العسكري الروسي بسورية، لا يمكن تقزيمه بحدود حماية سلطة بشار الأسد، وهو لحماية المصالح الحيوية الروسية، التي يؤدي بشار دوراً وظيفياً بحفظها حالياً، بسبب عدة عوامل، منها احتفاظه ببقايا مؤسسات الدولة، إضافة لاعتباره منسقاً عاماً لبقايا الأجهزة الأمنية، وبعض الأقليات المعسكرة بشكل مليشيوي، وبالتالي الإطاحة به في بداية أي مرحلة انتقالية بالنسبة للروس وغيرهم من القوى الفاعلة، قد يؤدي لفوضى تعطل مسار الحل السياسي، في ظل قناعة لدى بعض الدول بأن لا إمكانية للمعارضة بقيادة مرحلة انتقالية بشكل منفرد، خاصة بعد دخول الإرهاب كمتغير ساهم بتغير أولويات المعادلة السورية من رحيل النظام لمكافحة الإرهاب (…) لكن وبالمحصلة، سيُشكل الأسد بعد نفاد دوره الوظيفي، عبئاً على المصالح الروسية الاستراتيجية بسورية، والتي تحتاج بالدرجة الأولى لأمن واستقرار بعيد المدى لا يبدو الأسد قادراً على حفظهما”.
ولفت العلو إلى أن “أهداف بوتين من الزيارة عديدة، بعضها محلي روسي على اعتبار أنه على أبواب انتخابات رئاسية، وكذلك لتعويم مسار سوتشي الذي يُراد له بتوافق تركي – روسي أن يضع أسس الحل النهائي في سورية، وربما كذلك لتوجيه إشارة لإيران بأنه سيأتي اليوم الذي تنسحب فيه مليشياتها من سورية”. ولفت إلى أن غياب “الملفات الاقتصادية والأمنية والتعاون المشترك عن أجندة زيارة بوتين لحميميم، يعني بالتأكيد أنها ليست زيارة لدعم سلطة الأسد بقدر ما هي لخدمة مصالح موسكو”، لا سيما أن “هذه الملفات (أمن الطاقة والتسليح والتعاون الاقتصادي والعسكري وغيرها) حضرت في زيارة بوتين في القاهرة ثم أنقرة”.
وختم الباحث السوري بقوله إن “بوتين وجّه رسائل متعددة الاتجاهات في زيارة اللاذقية، ثم القاهرة وأنقرة”، إذ إن “التفسير العام يؤشر إلى أنها تأتي مع تراجع الدور الأميركي بالمنطقة بشكل أو بآخر، وبأن حلفاء واشنطن التقليديين في الشرق الأوسط، يناورون سياسياً بإبداء انفتاحٍ مع روسيا، التي تريد القول إنها باتت قوة مزاحمة للنفوذ الأميركي في المنطقة لا يمكن تجاوزها”.
العربي الجديد
بوتين في “قاعدته” السورية… الأمر لي/ أحمد حمزة
بدا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمس الاثنين، في زيارته السرية إلى سورية، والعلنية إلى مصر، فتركيا، وكأنه يقول للعالم إن روسيا اليوم هي القوة الأكبر والأهم في المنطقة. في الشكل والمضمون، بدا بوتين في سورية كرئيس قوة محتلة ومنتصرة. بدءاً من استدعاء رئيس النظام، بشار الأسد، لاستقباله في قاعدة حميميم الروسية وليس في مطار دمشق الدولي، مروراً بمصافحة بوتين لقائد القاعدة الروسية في حميميم قبل مصافحة الأسد، وقيام ضابط روسي بشد الأسد من ذراعه مانعاً إياه من اللحاق ببوتين مثلما أظهرت التسجيلات المصورة، وصولاً إلى نوعية المواقف والتصريحات التي أطلقها بوتين من اللاذقية، ليعلن من هناك أن النصر تحقق، وبالتالي أمكن سحب الجزء الأكبر من قواته العسكرية، ما خلا الموجودة في قاعدتي طرطوس البحرية واللاذقية الجوية الروسيتين لعقود طويلة بموجب الاتفاقية الروسية ــ السورية الموقعة بشأنهما. كل شيء أوحى بأن بوتين يقول إن الأمر له في هذه البقعة الجغرافية من العالم، في ظل الانسحاب الأميركي فعلاً، والحالة العربية المنهارة.
وزيارة بوتين أمس إلى سورية، الأولى لزعيم دولة إلى سورية منذ نحو سبعِ سنوات، والأولى في التاريخ لرئيس روسي و/أو سوفييتي، تحمل في سياقاتها دلالات ورسائل متعددة الاتجاهات، إذ إن هذه الزيارة الخاطفة والسرية، التي لم يُعلن عنها إلى حين وصول بوتين للقاهرة ظهر أمس، تأتي مع تقهقر وذوبان تنظيم “داعش” بمعظم معاقله الأساسية في سورية والعراق، وبعد أن أتمت روسيا تقريباً خطة إضعاف فتحجيم قوى الثورة والمعارضة عسكرياً، وترجيح كفة حليفها في دمشق، على المستوى العسكري والسياسي، بالتزامن مع استئناف الجولة الثانية لـ”جنيف 8″، وقبل “سوتشي 1″، و”أستانة 8”. لكن أحد أهداف الزيارة، في الوقت ذاته، كما يبدو، هو تكريس انطباعٍ بمختلف الاتجاهات، أن روسيا الباقية في قاعدتي حميميم وطرطوس “بشكل دائم”، كما قال بوتين، تُحكم قبضتها على مفاصل القرار في سورية، وبإدارة الحل لمستقبل البلاد. ولم تختلف الزيارة السريعة والسرية والمفاجئة، من حيث الشكل، عن الزيارتين اليتيمتين المُعلنتين لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، إلى الخارج، روسيا تحديداً، منذ بدء الثورة الشعبية ضده في مارس/آذار 2011. إذ كان الأسد ظهر فجأة في موسكو في أكتوبر/تشرين الأول 2015، بعد أقل من شهر على بدء التدخل العسكري الروسي المباشر بسورية، وأعلن عن الزيارة بعد انتهائها وعودته إلى سورية، وهو ما ينسحب على الزيارة الثانية التي جمعت بوتين بالأسد في مدينة سوتشي في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
هذه الزيارة، التي التقى فيها بوتين بالأسد، وبثت وسائل إعلام روسية بعد الإعلان عنها بساعتين، مشاهد مصورة مقتضبة لها، ظهر فيها الأسد مع بوتين في ما يشبه العرض العسكري السريع. واختار الرئيس الروسي زيارة قاعدة بلاده العسكرية في حميميم في اللاذقية، والتي هي بالأساس مطار مدني، قبل وصول القوات الروسية إليه في سبتمبر/أيلول 2015، عوضاً عن زيارة العاصمة الرسمية دمشق، مقر إقامة الأسد، الذي سافر إلى “حميميم”، للقاء بوتين في قاعدته العسكرية. وقبل أن تقلع طائرة بوتين من اللاذقية، التي كانت وصلتها صباحاً، لتحط بعدها في القاهرة ظهراً، قال الرئيس الروسي، بحضور وزير دفاعه، سيرغي شويغو، وقائد قواته بسورية، سيرغي سوروفكين، “من هنا من قاعدة حميميم العسكرية، آمر وزير الدفاع ورئيس الأركان العامة ببدء سحب مجموعة القوات الروسية إلى نقاط تمركزها الدائم”، مضيفاً أنه و”خلال أكثر من عامين قامت القوات المسلحة الروسية، مع الجيش السوري بدحر أقوى الجماعات الإرهابية الدولية. ونظراً لذلك اتخذت قراراً بعودة جزء كبير من القوة العسكرية الروسية الموجودة في الجمهورية العربية السورية إلى روسيا”.
لكن بوتين أعلن، في الوقت ذاته، أن “قراري اليوم يقضي بعودة الجزء الأكبر من القوات الروسية إلى الوطن روسيا بعد تحقيق الإنجازات المبهرة ضد الإرهاب. وسيبقى مركزين روسيين في طرطوس وحميميم لمواصلة العمل في سورية بشكل دائم”، مشيراً بذلك إلى قاعدتي بلاده العسكريتين في سورية، الأولى قاعدة بحرية، وهي موجودة على سواحل مدينة طرطوس منذ ما قبل بدء نقل طائرات ومئات الجنود والمعدات والعربات العسكرية للقاعدة الثانية “الجوية” في حميميم، التي تم تأسيسها في سبتمبر/أيلول 2015، وهي مركز قيادة القوات الروسية في سورية. وتابع “في حال رفع الإرهابيون رأسهم من جديد، نحن سنوجه إليهم ضربات لم يروها من قبل”، مضيفاً “نحن لن ننسى أبداً الضحايا والخسائر التي تكبدناها أثناء محاربة الإرهاب هنا في سورية وفي روسيا أيضاً”. وأبلغ بوتين رئيس النظام السوري أنه يريد العمل مع إيران وتركيا لبدء عملية سلام سورية، معرباً عن أمله أن يكون بالإمكان بدء عمل “المؤتمر السوري للحوار الوطني”، والمتوقع أن يعقد في سوتشي، موضحاً أنه سيبحث الأمر خلال اجتماعاته المقبلة مع رئيسي مصر وتركيا.
وفي حين أن هذا الإعلان عن سحب قوات روسية من سورية ليس الأول من نوعه، إذ كانت موسكو أعلنت منتصف مارس/آذار 2016، وبالتزامن مع جولة مفاوضات “جنيف 3″، أنها قررت سحب قسم كبير من معداتها وقواتها العسكرية من سورية لروسيا، وهو ما لم يثبت حدوثه لاحقاً، فإن الحديث الآن عن سحب القوات الروسية يأتي في سياقات وظروف مختلفة، سياسياً وعسكرياً، عن 2016. ويُعتقد أن إعلان روسيا في مارس 2016، كان مدفوعاً بعاملين أساسيين، الأول هو إظهار صورة للمجتمع الدولي بأن موسكو تلعب دوراً إيجابياً في دفع عملية الحل السياسي السوري إلى الأمام، ولا تركز جهودها على الجانب العسكري فقط، والثاني يرجح أنه داخلي روسي، إذ كان كبار المسؤولين الروس قد أعلنوا مع بدء عمليات بلادهم العسكرية في سورية، نهاية سبتمبر/أيلول 2015، أنها لن تطول لأكثر من أربعة أشهر، وكانت مع الإعلان الروسي السابق بتخفيف وجود القوات الروسية بسورية، قد مر على تواجدها أكثر من خمسة أشهر.
لكن الإعلان الروسي الذي جاء على لسان رئيس الكرملين هذه المرة، ومن داخل سورية، يأتي في وقت رجحت فيه القوات الروسية كفة قوات النظام على حساب قوى المعارضة السورية، التي كانت فصائلها العسكرية قد أحرزت تقدماً ميدانياً كبيراً سنة 2015 من إدلب وريفي حماة واللاذقية شمالاً إلى درعا جنوباً، قبل بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، عبر حملات قصف جوي مكثف منذ 30 سبتمبر 2015، وتصاعدت في أكتوبر التالي وما بعده في ريفي حماة واللاذقية الشماليين اللذين كانا تحت سيطرة المعارضة السورية، ثم توسع لباقي مناطق سيطرة المعارضة في إدلب، وأرياف حلب وشرقي مدينة حلب، وشمال حمص ودرعا وريف دمشق وغيرها.
وحديث بوتين، أمس الاثنين، عن بدء سحب قوات ومعدات عسكرية لبلاده من سورية، يأتي بعد أن كرست مُخرجات أستانة ما بات يعرف بـ”مناطق خفض التصعيد”، التي جمدت فعلياً جبهات القتال بين الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة من طرف، مع قوات النظام والمليشيات المساندة لها من طرف آخر، رغم أن معارك عديدة ما تزال دائرة في بعض مناطق الاتفاقيات المبرمة، أبرزها في غوطة دمشق الشرقية، وريفي حماة الشمالي الشرقي وحلب الجنوبي الشرقي. كما أن الإعلان الروسي الآن عن بدء سحب معدات وقوات عسكرية روسية من سورية، يأتي غداة نشوة القضاء شبه النهائي على تنظيم “داعش” من مناطق سيطرته الأوسع والأقوى، والتي كانت مرتعاً له شرقي البلاد، بداية من تدمر ثم مختلف مناطق ريف حمص الشرقي، والبادية السورية، وريفي دير الزور الغربي وحماة الشرقي، بالإضافة للرقة وجنوب الحسكة وشرق دير الزور التي قاد التحالف الدولي العمليات العسكرية فيها. وهي مناسبة لا شك مغرية، لتدفع موسكو للقول إنها أنجزت مهمة القضاء على الإرهاب في سورية، والذي لم تولِه أهمية في بداية عملياتها العسكرية، إذ كانت أولوية موسكو في سورية إضعاف كافة “قوى الثورة والمعارضة”، قبل تطويعها باتفاقيات أستانة، وتوجيه الحملات العسكرية بعد تأمين جبهات المعارضة نحو جبهات تنظيم “داعش”.
وبالعودة للزيارة المفاجئة، والتي بدا من التصريحات المقتضبة لبوتين فيها، أنه كان “وعد” الأسد بزيارة لسورية، وتم الإعداد لها، مثل زيارتي الأسد لموسكو وسوتشي، بسرية ولم يُعلن عنها حتى انتهائها، فإن دلالاتها البروتوكولية، كاختيار بوتين لزيارة قاعدة بلاده العسكرية في اللاذقية، لا عاصمة سورية الرسمية، تعطي انطباعاً، ربما يكون مقصوداً من روسيا، أنها تتحرك في سورية وتُحرك نظامها كما تشاء، وبأنها صاحبة الكلمة الفصل، فيما يتعلق بالميدانين العسكري والسياسي لهذا البلد. ويُذكّر إلى حد ما اختيار بوتين، الذي غادر اللاذقية إلى القاهرة، أن يلتقي رئيس النظام السوري في قاعدة روسيا العسكرية في سورية، بزيارة قام بها الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، إلى العاصمة المصرية منتصف سنة 2014، إذ استقبله داخل طائرته بمطار القاهرة، الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. وتُعطي رمزيات بروتوكولية كهذه دلالات لصورة طبيعة العلاقات بين طرفي الزيارة.
وتصف المعارضة السورية في بياناتها الرسمية خلال السنتين الأخيرتين، الوجود الروسي في سورية، بأنه احتلال. وترى أن دعم موسكو اللامحدود لنظام الأسد، دفع الأخير لرفض الانخراط في مفاوضات جدية تُنضج مسار حل للقضية السورية. وتوقعت مصادر في الهيئة العليا للمفاوضات، في حديث، لـ”العربي الجديد” أمس الاثنين، أن “تدفع زيارة بوتين النظام لمزيد من التمترس خلف مواقفه الرافضة للدخول في مفاوضات الانتقال السياسي، على اعتبار أن وفد النظام في جنيف سيقرأ في زيارة بوتين دعماً مُضافاً لبشار الأسد، الذي هو عقدة الحل الأساسية”. وبعيداً عن التكهنات ومصداقية الإعلان الروسي ببدء سحب قوات ومعدات عسكرية من سورية، وما إذا كان حديث بوتين هذا للاستهلاك الإعلامي أم لا، فإن مصادر روسية رسمية، وهي “دائرة العمليات العامة التابعة لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية”، كشفت أمس، بأن الطائرات الحربية الروسية، نفذت، منذ أول غارة لها في سبتمبر/أيلول 2015، “أكثر من 28 ألف طلعة، ووجهت نحو 90 ألف ضربة جوية” في سورية. وذكرت أنه و”في الأشهر الأخيرة كان الطيران الروسي ينفذ ما يصل إلى 100 طلعة يومياً، ويسدد ما يصل إلى 250 ضربة جوية في اليوم”، فضلاً عن القصف الصاروخي من البحر، ومشاركة حاملة الطائرات الروسية “الأميرال كوزنيتسوف” ضمن عمليات روسيا العسكرية في سورية.
ووفق حديث روسي رسمي من كبار المسؤولين في موسكو، وعلى رأسهم بوتين، فقد استثمر الجيش الروسي وجوده في سورية لاختبار نوعيات جديدة من الأسلحة والذخائر، إذ حول سورية إلى ميدان تجريب، في حين رفعت العمليات العسكرية الروسية في سورية حصيلة الضحايا من المدنيين، مع قتلها وجرحها المئات، فضلاً عن تسببها بنزوح وتشريد عشرات آلاف السكان من بلداتهم وقراهم. وفيما تصل العمليات العسكرية الروسية في سورية إلى نهايتها، مع تضاؤل جبهات القتال، فقد خسر الجيش الروسي، وفق أرقام رسمية لوزارة الدفاع في موسكو، 39 عسكرياً، بينهم ضباط، فضلاً عن أربع مروحيات قتالية وطائرتين حربيتين. ورغم عدم وجود أرقام رسمية، فإن التقديرات الجدية اليوم تتحدث عن وجود 5 آلاف جندي ومدني روسي عامل مع جيش هذا البلد على الأراضي السورية.
العربي الجديد
بوتين بين حميميم والقاهرة/ فايز سارة
في يوم واحد قام الرئيس الروسي بوتين بزيارتين عربيتين متتاليتين؛ كانت أولاهما إلى قاعدة حميميم الروسية في سوريا والثانية للعاصمة المصرية القاهرة. غير أن ما أحاط بالزيارتين من تفاصيل ومحتويات، أكد اختلافاً عميقاً للأولى عن الثانية، وبين أنهما لم تكونا متماثلتين ولا متقاربتين لا في الشكل ولا في المحتوى ولا في النتائج أيضاً، وهذا ما أبرزته الأخبار وتسريبات الفيديو، التي قدمتها المصادر الإعلامية الروسية عن زيارتي الرئيس الروسي ولقائه مع بشار الأسد الذي تعتبره روسيا رئيساً شرعياً لسوريا، بصورة مماثلة لنظرتها إلى لقائه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومكانته عندها.
ففي زيارة الرئيس بوتين الأولى، كانت قاعدة حميميم العسكرية الروسية في سوريا، المكان الذي قصده بوتين بدلاً من أن يقصد دمشق التي تعتبرها موسكو عاصمة نظام الأسد، وبهذا المعنى فقد اختار بوتين من سوريا المكان الذي يقع تحت السيطرة المطلقة للقوات الروسية على الأراضي السورية، مما يعني أن بوتين، لا يرى سوريا إلا من خلال وجود قواته وقاعدته، التي شكل وجودها محور التطورات السياسية والميدانية في القضية السورية منذ التدخل الروسي الواسع أواخر عام 2015.
والنقطة الثانية في وقائع زيارة بوتين السورية، هي استدعاء بشار الأسد ليكون في استقبال بوتين في القاعدة الروسية، وقد ظهر الأسد وحيداً دون أن يرافقه أي من السوريين سواء كبار المسؤولين أو القادة العسكريين والأمنيين، بل ودون مرافقة شخصية كما درجت العادة، بخلاف ما كان عليه بوتين المحاط بجنوده وجنرالاته وحرسه الشخصي، كما أن وجود الأسد في القاعدة بدا محكوماً بالسيطرة الروسية، حيث منع جنود روس الأسد من السير إلى جانب بوتين الذي ترك الأول، وكأنه أسير الجنود الروس.
وبخلاف ما ظهر في وقائع زيارة حميميم، فإن محتوى محادثات بوتين – الأسد، لم تتعدَ محتوى السياسة الروسية في سوريا، وأبرز نتائجها إصدار بوتين قراره بإعادة القوات الروسية الموجودة في سوريا إلى قوات تمركزها الأساسية في بلادها بعد ما وصفه الروس بدورها في الحرب على «داعش» وما تحقق من «انتصار» في نتائجها.
ومما لا شك فيه، أن ما ظهرت عليه زيارة بوتين للقاهرة في اليوم ذاته، تضيف أبعاداً أخرى لمحتوى زيارة حميميم السورية ولقائه مع الأسد فيها، وبالتالي فإنها توضح أكثر النظرة الروسية إلى سوريا وشكل التعامل معها ونظرتها إلى رئيس النظام الحاكم في دمشق.
ففي زيارته لمصر نزل بوتين في مطار القاهرة، واستقبله بصورة طبيعية الرئيس المصري محاطاً بكبار المسؤولين المصريين، وتوجه الرئيس الضيف بصحبة مضيفه إلى قصر الاتحادية لعقد المباحثات الروسية – المصرية سواء في لقاءات الوفدين، أو في اجتماعات الرئيسين المغلقة. وطبقاً للمعلومات، فإنه تم بحث العلاقات الثنائية بين الطرفين وخصوصاً في ميدان التعاون النووي والطيران والعلاقات التجارية، إضافة إلى القضايا ذات الاهتمام المشترك ومنها صراعات المنطقة وسبل حلها بالطرق السلمية، وبحث الوضع في سوريا والحرب على الإرهاب، وهي الموضوعات التي تناولها الرئيسان المصري والروسي في المؤتمر الصحافي الذي عقداه عند انتهاء الزيارة.
لقد أجملت زيارة بوتين ومجرياتها في حميميم، حقيقة النظرة الروسية للوضع في سوريا باعتباره بلداً تحت السيطرة الروسية، وأن رئيس النظام مجرد شخصية ضعيفة وتابعة، وقد أضافت مجريات زيارة بوتين للقاهرة ونتائجها بالمقارنة مع ما جرى في حميميم أبعاداً أخرى، لتوضح في الوقت نفسه الفارق بين تعامل روسيا مع النظام مع البلدين، حيث تنظر روسيا إلى مصر باعتبارها دولة ذات سيادة، تجري العلاقات معها بصورة طبيعية وفق مسار العلاقات الدولية القائمة.
خلاصة القول، فيما رسمته زيارتا بوتين إلى حميميم والقاهرة، أنها أوضحت نظرة الرئيس الروسي إلى سوريا باعتبارها بلداً تحت السيطرة الروسية، التي كثيراً ما يقول الروس إنهم يعتبرونها بلداً مستقلاً، ينبغي الحفاظ عليه واحترام سيادته، ونظرته إلى رئيس النظام القائم في دمشق بشار الأسد الذي يعتبر الروس أنه رئيس «شرعي ومنتخب»، ويبذلون كل جهودهم على كل المستويات من أجل الحفاظ عليه وعلى نظامه في إطار التسوية المقبلة للقضية السورية.
ولعل الأهم في هذه الخلاصة، أنها ترسم حدود ما يمكن أن يكون عليه الموقف الروسي في المفاوضات الجارية سواء في جنيف 8 أو في آستانة الوشيكة الانعقاد، أو في مؤتمر سوتشي، الذي تسعى إليه موسكو لحل القضية السورية، وكله يؤكد أن أفق العملية السياسية في سوريا وحولها يكاد يكون مغلقاً ما لم يحصل تغيير جوهري في النظرة الروسية، وخصوصاً في الموقف من النظام القائم ورئيس النظام بشار الأسد.
الشرق الأوسط
سوريا.. في خضم رهانات جنيف وسوتشي/ هوازن خداج
سبع سنوات من الجهود الدولية لحل الأزمة السورية والعشرات من المؤتمرات الدولية بمشاركة لاعبين محليين وإقليميين ودوليين، لم تسفر إلا عن المزيد من الاقتراحات والوثائق التي يغيب أي قرار تنفيذي لتطبيقها، فتعنّت الطرفين، النظام والمعارضة، في السير نحو التحاور الجدي لإيجاد حل للمأساة السورية مازال ملازما للمسار السياسي المستمر.
لم يكن مؤتمر جنيف 8 كغيره من المؤتمرات، فمن حيث التوقيت فإن هذه الجولة من المباحثات هي الأولى بعد إنهاء وجود تنظيم داعش وفرض مناطق لخفض التصعيد، الذي يصب باتجاه العودة إلى ثنائية النظام والمعارضة ودفع المسار التفاوضي ليكون أكثر جدية باتجاه الخلاص من تبعية الحل السياسي لإرباكات الميدان العسكرية.
أما من حيث المطالبة بالواقعية السياسية لكلا الطرفين، النظام والمعارضة، فقد عبّر عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة سوتشي بالقول إن “أطراف الأزمة السورية يجب أن تقدم تنازلات بما فيها الحكومة السورية”، وتلاها مطالبة المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا للمعارضة السورية بالتحلي بالواقعية السياسية لتحقيق تقدم في اجتماعات جنيف الحالية وإلا سيكون سوتشي بديلا لجنيف السورية.
لكن كل هذا لم يؤدّ إلى نجاح جنيف 8، فبدايته المتعثرة كانت نتيجة استياء وفد النظام من مخرجات مؤتمر الرياض 2، ورفضه المحادثات المباشرة مع المعارضة، وعدم قبوله مناقشة إعداد دستور جديد وانتخابات جديدة، أو نتيجة احتجاج المعارضة على وثيقة دي ميستورا التي لم تتطرق إلى تنحية النظام بل مشاركته برموزه في المرحلة المقبلة.
تعنّتُ طرفي النزاع في القبول بالحلول المطروحة لن يكون مديدا، فجملة المعطيات تشي بالتوجه نحو ترتيب الحلول، فإعلان الولايات المتحدة بقاءها في سوريا إلى حين استكمال الانتقال السياسي وقيام تسوية تحقق التغيير المنشود، يشكل ضغطا كبيرا على المحور الروسي الإيراني السوري، قد يجبره على المضي قُدما في المسار السياسي.
كما أن إعلان روسيا سحب قواتها من سوريا باعتبار أن عملية إنقاذ سوريا انتهت، يشكل انتقالا نحو فرض التسوية السياسية، وفق ما عبّر عنه بيان الرئيس الأميركي ونظيره الروسي في أن التوصل إلى تسوية سياسية نهائية للصراع يجب أن تكون في إطار عملية جنيف، وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 2254، وهذه الفقرة لم تأت على ذكر مصير بشار الأسد نهائيا، بل ركزت على التغيير الدستوري والانتخابات النزيهة بمشاركة كل السوريين تحت إشراف الأمم المتحدة للوصول إلى حكم غير طائفي وذي مصداقية شاملة.
المعضلة الحقيقية ستكون بماهية الحلول وأولوياتها. فالرهانات المتباينة للأطراف السورية والدولية لم تحل بعد، وعدم التوافق الأميركي الروسي على الأولويات مازال مستمرا. فالاهتمام الأميركي ينصبّ حول الانتخابات وأن صناديق الاقتراع ستولّد نظاما جديدا بغض النظر عن الاتفاق بين طرفي المفاوضات حيال تقاسم السلطة، والاهتمام الروسي يتجه نحو الدستور الذي يعني تغييرا في شكل الحكم لا مضمونه.
ويرى أن تعديلات الدستور ستحدد طبيعة النظام السياسي في المرحلة المقبلة، فروسيا لا تريد إحداث نقلة جذرية في بنية النظام. والأدهى أن هذا التباين له أثره الكبير على النظام والمعارضة اللذين مهما اختلفا فإن لهما مخاوفهما المتشابهة نسبيا من الانتخابات القادمة وترك القرار للشعب في الاختيار، ومن تغيير الدستور والتوجه نحو نظام ديمقراطي سيؤسس لقواعد وضوابط تساهم مع الوقت في الحدّ من سلطة النظام وقد لا تكسب المعارضة شيئا.
التوجّه العام لحلّ الأزمة السورية والسير باتجاه دفع عملية التسوية مازال مترنحا، والعملية السياسية لا تزال بعيدة عن إنتاج حلول، فمن مصلحة النظام الدفع باتجاه مؤتمر سوتشي المزمع عقده أوائل العام المقبل ليصبح الحل السياسي بيد الروس بشكل رسمي، وليصبح دور جنيف فقط هو المصادقة على ما يتم التوصل إليه في سوتشي من إعادة هيكلة النظام وجعل العملية الانتقالية في سوريا عملية إصلاح وليست انتقالا سياسيا يؤدي إلى تغيير جذري.
أما رهانات المعارضة فهي أن تُتَوّج عملية الإصلاح بتغيير سياسي لا دور فيه للنظام الذي كان تغييره، ولا يزال، بالنسبة لبعض المعارضين هو الحل الأساسي لكل مشكلات سوريا. ونتيجة لكل هذا فإن التسوية ستكون تعبيرا عن توافقات عربية وإقليمية ودولية ينصاع لها الطرفان بعد الكثير من الخيبات.
كاتبة سورية
العرب
هل انتهى مسار جنيف؟/ د. رياض نعسان أغا
لم يفاجئنا انسداد الأفق أمام الجولة الثامنة من المفاوضات، فقد تكرر هذا الأمر في سبع جولات سابقة، كان النظام فيها يلاعب المعارضة، بينما هو يمضي سريعاً في الحسم العسكري معتمداً على قوى روسيا وإيران والميليشيات الطائفية وعلى الشبيحة الذين بالغوا في الإجرام. ولم يظهر المجتمع الدولي اهتماماً جاداً في دفع المسار السياسي، رغم ما كان يبديه بعض سفراء الدول الصديقة من تعاطف مع قضيتنا، وكان إبطال روسيا لقرارات مجلس الأمن قد بلغ حداً غير مسبوق في عدد المرات التي استخدمت فيها «الفيتو»، ولم يبد أعضاء مجلس الأمن الباقون أكثر من التعبير عن الأسف!
وأما الولايات المتحدة، وهي الدولة الأقوى في العالم، فقد أبدت لفترات طويلة حالة من التخلي عن القضية السورية مفوضة روسيا باتخاذ ما تراه من إجراءات، وقبل أول جولة قامت بها الهيئة العليا للمفاوضات تردد الزملاء أعضاء الهيئة في الذهاب إلى جنيف، حيث لا شيء يوحي بإمكانية إيجاد حل سياسي مع النظام الذي صعد يومها هجومه الوحشي على الشعب، ولم يبد أية استجابة نحو التفاوض. يومها تدخل جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، بتقديم ما يشبه الضمانات في رسالة دعم وتعهد أرسلها إلى الهيئة، وهو يحثنا على المشاركة، ولم نلحظ أي دعم يذكر! وحين كنا نوقف التفاوض احتجاجاً على تصاعد العدوان والحصار -كما حدث يومها في مضايا- كانت تهرع إلينا دول الأصدقاء تطالبنا بألا نضيع الفرصة! وكان النظام لا يقبل بأي حديث سوى مكافحة الإرهاب، وقد تمكن من أن يقنع العالم بأن القضية هي صراع بين نظام شرعي وبين تنظيم «داعش» وما يشبهه! وكان يقول إن وفد المعارضة لا يمثل كل أطيافها.
كان الروس يومها ينظرون إلى الجيش الحر وإلى المعارضة على أنهم إرهابيون، وتمكنا عبر الفائدة الوحيدة من الذهاب إلى جنيف من أن نري العالم أن المعارضة ليست إرهابية، وأن القضية هي مطالب الشعب بالحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية، وكانت الإفادة من ساحة جنيف الإعلامية كبيرة لأنها حظيت باهتمام شعبي عالمي.
وأذكر في لقائنا الأول مع دي مستورا قوله لنا: «إن تشكيل الوفد المفاوض هو امتيازكم وحدكم» وبعد حين قال: «لا بد من إشراك منصتي القاهرة وموسكو»، ودرسنا الأمر بإيجابية لسد الذرائع، ووافق دي مستورا على أن يضم الوفد ممثلاً واحداً عن موسكو وآخر عن القاهرة. وأجرينا حوارات مع المنصتين، ولم يوافق الطرفان رغم ما أبداه فريق القاهرة من استجابة مبدئية، ثم فوجئنا بطلب ضم المنصتين بتمثيل أوسع. وكان لقاؤنا معهما في الرياض جاداً، حيث وضعنا القبول ببيان الرياض1 أساساً لتوحيد المعارضة، ورفض وفد موسكو، واعتبرنا متشددين، وعقد مؤتمر الرياض الثاني وفوجئ الجميع بأن أكثرية الوفد الجديد تتمسك بمطالب الشعب. وربما كان دي مستورا ينتظر أن يقابل وفداً مائعاً يفتتح الجلسات بترديد شعارات النظام، ويعلن التمسك به، ولهذا طالب وفد النظام بالتخلي عن بيان الرياض2، ولم يقبل مناقشة سلال دي مستورا. وأصر على أن يناقش موضوع الإرهاب، وأعلن أن سوريا ما تزال مهددة بالإرهاب. والحقيقة أن الإرهاب موجود تحت الطلب، فهو الذي مكن النظام من أن يبيد شعبه بذريعة مكافحة الإرهاب، وحقاً «داعش» اليوم تزحف نحو إدلب مع قوات النظام، وما تزال لها جيوب في أطراف دمشق وأطراف درعا أو في البادية، حيث سمح لها بالتمدد خفية بعد أن تبخرت دون قتلى أو أسرى أو معتقلين.
والسؤال الآن: هل حقاً تخلى أصدقاء الشعب السوري عنه؟ وهل سيقبلون بأن تبقى القضية السورية معلقة كما علقت قضية فلسطين؟؟ فالجميع يعلمون أن سوتشي قد تقدم حل إذعان، وربما مراضاة مؤقتة ببضعة مناصب وزارية في حكومة موسعة يقودها الأسد، والسوريون يعلمون أن هذا فخ للإيقاع بالمعارضة التي ستلقى عقاباً قد يدوم عشرات السنين، وقد يضطر النظام لبناء عشرات السجون في تصفية معارضيه، ولا توجد أية بارقة ثقة تدعو المشردين واللاجئين للعودة إلى فروع الأمن لتسوية أوضاعهم كما يخطط النظام.
وحتى لو عقد سوتشي وجاء بأفضل من التوقعات المتشائمة، هل سينسى السوريون ما ذاقوه من عذابات مريعة على يد النظام فيقبلون يده من جديد؟ وهل ستطلق سوتشي مثلاً أحكام الغفران نيابة عن الشعب على جرائم قتل مليون شهيد وإصابة مليوني معاق، فضلاً عن الجرائم التي ترتكب بحق المعتقلين، وفوق ذلك كله جرائم التهجير القسري وتدمير المدن والأرياف وهدم ملايين المنازل والمدارس؟ وهل ستنتهي مأساة العصر الكبرى بعد سبع سنين من شلالات الدم المستباح دون محاسبة للمجرمين ودون الخلاص من الديكتاتورية؟
الاتحاد
من انتداب فرنسي إلى انتداب روسي/ رياض معسعس
في عام 1920 قام المجلس الأعلى للحلفاء، أي المنتصرين، في الحرب العالمية الأولى بعقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا لاقتسام تركة الرجل المريض، الذي خسر الحرب: السلطنة العثمانية. ومما ترك الرجل المريض: بلاد الشام، أي العراق وسورية الكبرى.
عقد هذا المؤتمر على عجالة برعاية أكبر دولتين استعماريتين آنذاك، بريطانيا وفرنسا، إثر فشل مؤتمر باريس، ورفض الولايات المتحدة فرض هيمنة الدولتين على منطقة الشرق الأوسط، ومقاومة العرب لسياسة الهيمنة الأنكلو فرنسية، والمطالبة بالاستقلال التام وتنصيب الملك فيصل ملكا على سورية.
وقد استغلت الدولتان غياب الولايات المتحدة بعودة الرئيس وودرو ويلسون إلى واشنطن، واتخاذ سياسة العزلة الاطلسية لعقد هذا المؤتمر، لتمكين الدولتين الاستعماريتين من تنفيذ مخططاتهما الاستعمارية التي بدأت مع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
في هذا المؤتمر بحث المؤتمرون نتائج معاهدة سيفر، التي حددت مستقبل سورية والعراق. والمستقبل الذي رسم بالمقص على الخريطة الشرق أوسطية، قسّم سورية الكبرى إلى أربعة أقسام: سورية، لبنان، الأردن، فلسطين. وتم وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني.
بعد أقل من شهر قام السوريون بعقد مؤتمرهم لرفض مقررات مؤتمر سان ريمو، وإعلان استقلال سورية الكبرى، ورفض معاهدة سايكس بيكو، ووعد بلفور. في الرابع والعشرين من يوليو من العام نفسه غزا الجيش الفرنسي سورية بقيادة الجنرال هنري غورو فتصدى له الجيش السوري بقيادة يوسف العظمة، في معركة ميسلون، حيث استشهد العظمة واستطاع الجيش الفرنسي غزو سورية والسيطرة عليها، وقام بتقسيمها إلى خمس مناطق على أساس طائفي. على إثرها اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي قادها سلطان الأطرش في جبل الدروز، وحسن الخراط في دمشق وغوطتها، وصالح العلي في جبال العلويين، وإبراهيم هنانو في جبل الزاوية (هذه الثورة أكدت على وحدة الشعب السوري بكل مكوناته) حدث كل ذلك أمام نظر الولايات المتحدة الامريكية وعصبة الأمم. ولم يتمكن السوريون من نيل استقلالهم إلا عام 1946 بعد مخاض عسير وانتفاضات متتابعة ضد المحتل الفرنسي.
اليوم وبعد قرن كامل تقريبا يعيد التاريخ نفسه مع تغير القوى الفاعلة والغازية، فالشعب السوري في ثورة ضد نظام حكم طائفي تسلطي أسري، يجثم فوق صدره منذ أربعة عقود ونيف، وكاد النظام الأسدي يتهاوى تحت ضربات المعارضة قبل أن يستنجد الوريث بشار الاسد بحليفه الايراني أولا، الذي سرعان ما أسعفه بميليشيات حزب الله وميليشيات طائفية لبنانية وافغانية وباكستانية وايرانية ثم عراقية، ومع كل هذه الحشود الميليشياوية الطائفية التي حاولت وأد الثورة بارتكابها أبشع المجازر بحق الشعب السوري، لم تتمكن من إخماد الثورة الشعبية التي كادت أن تنتصر على الجميع وتسقط نظام الاستبداد.ولم يعد أمام الوريث سوى الاستنجاد بالحليف الروسي، وبعد حوالي سنتين من تدخل روسيا العسكري، خاصة بسلاحه الجوي ومختلف اسلحته الفتاكة التي قامت بتدمير المدن السورية وقتل آلاف المدنيين تحت مسمى «محاربة الإرهاب».
استطاعت روسيا فرض نفسها كدولة محتلة تقود نظاما فاشلا مستسلما لإملاءاتها، تغزو سورية ليس لإنقاذ نظام يقتل شعبه فحسب، بل للهيمنة على سورية والسيطرة على قرارها السياسي، في غياب تام للولايات المتحدة الامريكية، بعد اتفاق سري بين دونالد ترامب الذي تخلى عن الدور الامريكي في الشرق الأوسط، وفلاديمير بوتين صاحب الشهية الكبيرة لابتلاع ما يمكن ابتلاعه من سورية الجريحة، وقد رافقت العملية العسكرية عملية سياسية موازية بدأت باجتماعات أستانة التي ضمت وفدا معارضا من الفصائل المقاتلة، ووفدا من نظام الأسد بالتنسيق مع ستيفان ديمستورا، والتي تمخضت عن اتفاقات ما سمي «بمناطق خفض التوتر»، التي شملت اربع مناطق: ادلب، درعا، حمص، الغوطة الشرقية، وهذه الاتفاقات كانت حبرا على ورق، هدفها المعلن شبه وقف لإطلاق النار، وهدفها المضمر هو كسب الوقت لتحقيق انتصارات جديدة في المناطق المستعصية حتى الآن، فالغارات الأسدية ـ الروسية بقيت مستمرة تحصد عشرات الضحايا يوميا، بعد سبع جولات من هذه المحادثات، حيث دعت روسيا في ختام الجولة السابعة إلى مؤتمر حوار وطني في سوتشي، إلا أن الائتلاف الوطني وهيئة اركان الجيش السوري الحر رفضا المشاركة في المؤتمر، الذي يعتبر محاولة للالتفاف على مقررات محادثات جنيف.
وفي الثاني والعشرين من نوفمبر عقد مؤتمر الرياض 2 للمعارضة السورية التي شملت منصة القاهرة ومنصة موسكو بعد استقالة الرئيس السابق للهيئة العليا للمفاوضات الدكتور رياض حجاب ومجموعة من الهيئة، بعد تسريبات عن ضغوط سعودية للقبول بفترة انتقالية لا تتم فيها المطالبة برحيل بشار الأسد، لكن في البيان الختامي للهيئة العليا للمفاوضات أكدت على تمسكها برحيل الأسد وزمرته كشرط اساسي لبدء المرحلة الانتقالية.
بالأمس وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة إلى سورية وحط في قاعدة حميميم الروسية التي باتت أرضا روسية، ودعي بشار الأسد لحضور مراسم تهنئة الجنود الروس كشاهد على انتصارهم الأسطوري على « الإرهاب» بعد قتل آلاف السوريين وتدمير مدنهم من قبل القاذفات السورية، وتجربة كل أسلحة الترسانة الروسية في مشافيهم وأسواقهم ومدارسهم، ولم يسمح له حتى السير بمحاذاة الرئيس المنتصر، بما يعني أن سورية لم تعد ملكا لآل الأسد فملكيتها اليوم تتبع للمنتصر ككل المنتصرين في الحروب. فالأسد أدخل الدب الروسي إلى كرمه ولن يخرج منه، وفي الوقت الذي يعلن فيه بوتين انسحاب قواته «اللفظي» يقوم بتوسيع قاعدة طرطوس البحرية، فهذه القاعدة حلم بها قياصرة روسيا قبله للوصول إلى المياه الدافئة ولن يخرج منها. هذا من ناحية الشق العسكري، أما الشق السياسي الذي يحضره المطبخ الروسي في سوتشي، تحت مسمى « الحوار الوطني السوري» الذي فرض فيه منصة موسكو، ومنصة القاهرة، ودعوة مئات الأشخاص الذين لا يمثلون الشعب السوري، كي يتم إغراق المعارضة، والالتفاف على محادثات جنيف وتهميشها، وتعويم بشار الأسد، وشرعنة الانتداب الجديد على سورية بعد مئة سنة تقريبا من الانتداب الفرنسي: الانتداب الروسي.
كاتب سوري
القدس العربي
مفاوضات سورية تحت نقطة الصفر في صراع صفري/ ماجد كيالي
انتهت الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف السورية – السورية، والتي تجري بين النظام والمعارضة، منذ أربعة أعوام، من حيث بدأت الجولة الأولى، أي من تحت نقطة الصفر، بمعنى أن المسألة لا تتعلق بفشل جولة واحدة، كما لا تتعلق بإخفاق هيئة تفاوضية معيّنة.
وبكلام أكثر تحديدا فإن هذه المفاوضات، في جولاتها الثماني، التي بدأت في العام 2014، واستهلكت، حتى الآن، ثلاثة مبعوثين دوليين (كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي وستافان دي ميستورا) كانت مجرد صورة أو مجرد منبر سياسي وإعلامي، للطرفين المعنيين، كما للمبعوثين الدوليين الذين يعبّر وجودهم عن إرادة، أو لا إرادة، المجتمع الدولي بشأن وضع حد للصراع السوري الدامي والمـدمر، بعد التوافق على بيان جنيف 1 (في العام 2012)، الذي وضع تصورا دوليا أو خارطة طريق دولية، لحل هذا الصراع.
هكذا، فإن هذه المفاوضات أو الجولات التفاوضية، لم تشهد في حقيقة الأمر، أي عملية تفاوضية، إذ لم يجلس الطرفان المعنيان، أي وفدا النظام والمعارضة، ولا مرة على طاولة المفاوضات، ولم يتقابلا وجها لوجه، ولم يتبادلا أي أوراق أو وجهات نظر، ما يعني أن هذه المفاوضات اقتصرت على مجرد التواجد في جنيف، وإجراء المناقشات وتبادل الآراء مع المبعوث الدولي، وفريق عمله، وهو ما حصل تحديدا في فترة ستافان دي ميستورا، وخاصة في الجولات الخمس التي أدارها في هذا العام (من الجولة الرابعة إلى الجولة الثامنة).
ومعلوم أن دي ميستورا، حاول في تلك الجولات، أي طوال عام كامل، أن يدفع المفاوضات بين وفدي النظام والمعارضة، نحو خطوات ملموسة، ولو على صعيد تبادل وجهات النظر، خاصة مع الاقتراحات التي قدمها لتدوير الزوايا وتليين مواقف الطرفين، والمتمثلة بطرحه ما بات يعرف بـ“السلال الأربع”: الحوكمة أو مبادئ عملية الانتقال السياسي، وصوغ الدستور، وإجراء الانتخابات، ومحاربة الإرهاب (وهذه النقطة الأخيرة فرضها وفد النظام)، هذا إلى جانب صوغه نوعا من “اللاورقة”، التي تحدد المشتركات بين الوفدين بخصوص تصورهما لسوريا المستقبل.
في مقابل كل ذلك فإن وفد النظام لم يقبل إطلاقا الدخول في أي نقاش تفاوضي مع وفد المعارضة، وهو ما وضحه أو ما أفصح عنه، المبعوث الدولي قبل أيام، بعد أن سكت عن ذلك طوال الفترة الماضية، بإعلانه أن وفد الحكومة هو المسؤول عن فشل المفاوضات.
ومعلوم أن وفد النظام ظل طوال السنوات الأربع الماضية يبرر تهربه من أي نقاش تفاوضي بذريعتين: الأولى تقول إن الأولوية يجب أن تكون لمحاربة الإرهاب، وأن لا مفاوضات قبل الانتهاء من الإرهاب.
والثانية تتعلق بأهلية تمثيل وفد المعارضة، والدعوى بوجود منصات أو أطراف أخرى في المعارضة غير متمثلة بالوفد التفاوضي لها، مثل منصتي القاهرة وموسكو، وهو ما تم إلزام المعارضة به، على النحو الذي جرى في اجتماع الرياض 2 الذي تمخضت عنه الهيئة التفاوضية الجديدة التي تمثل المعارضة.
أما المعارضة فقدمت، من جهتها، تنازلات كثيرة، أو أبدت مرونة كبيرة، فهي أولا، رضيت بمفاوضة النظام الحاكم بعد أن كانت ترفض ذلك جملة وتفصيلا، لا سيما مع رفعها شعار “إسقاط النظام”.
وثانيا، قبلت بمبدأ إنشاء هيئة حكم انتقالية، أو حكومة مشتركة، مع النظام، يشارك فيها بعض أركانه من الذين لم تتلوث أيديهم بالدماء، وهو ما تجلى في تصور الحل الانتقالي الذي كانت قدمته الهيئة العليا للمفاوضات، برئاسة رياض حجاب (سبتمبر 2016). وثالثا رضخت لمطلب توسيع المشاركة في وفدها، بضمها ممثلين عن منصتي القاهرة وموسكو، علما أن الثانية هي أقرب للنظام، ويمكن أن تكون ضمن وفده بدلا من وفد المعارضة.
على أي حال فإن إخفاق العملية التفاوضية هو تحصيل حاصل للصراع الضاري في سوريا وعلى سوريا، وهو يؤكد عدة حقائق أولاها، أنه لم تكن هناك أي عملية مفاوضات، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية، طوال السنوات الماضية.
وثانيتها أن النظام، الذي لجأ إلى الحل الأمني تحديدا، وإلى الصراع على الوجود، أو إلى الصراع الصفري، بدلا من الصراع السياسي، هو المسؤول عن استعصاء العملية التفاوضية، وتاليا استعصاء عملية الانتقال السياسي. وثالثتها أن التفاوض الحقيقي في الواقع إنما يجري بين الدول الكبرى المنخرطة في الصراع السوري، أي الولايات المتحدة وروسيا، وبدرجة أقل إيران وتركيا.
ورابعتها، أن المعارضة السورية، في ضعفها وهشاشة كياناتها وارتهاناتها الخارجية، ومع انحسار المناطق التي تسيطر عليها الفصائل العسكرية المعارضة، لم تعد تملك أوراق قوة تستطيع الضغط بها لفرض مطالبها أو للمناورة، الأمر الذي يضعها أمام تحديات ومخاطر حقيقية سواء استمرت بالمفاوضات، بكافة مساراتها، أو توقفت عن ذلك.
طبعا لا تستطيع المعارضة، أو لا تملك ترف، الانسحاب من العملية التفاوضية، على الرغم من تحولها إلى مجرد مشهد مسرحي، ذلك لأن هذه العملية مفروضة من قبل الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، ولا يمكن إلا مسايرتها، لكن شرط ذلك أولا إدراكها حدود هذه اللعبة وغاياتها.
وثانيا الاستثمار فيها لتعزيز موقف المعارضة وتوضيح ذاتها مع شعبها وأمام العالم. وثالثا لتخليق وتطوير نوع من مشتركات وتقاطعات بين أهداف المعارضة وبين المجتمع الدولي، بحكم حاجتها إلى ذلك للتعويض عن الخلل الفادح في موازين القوى.
كاتب سياسي فلسطيني
العرب
حتى في سوتشي لن يكون الحل بيد موسكو/ جورج سمعان
النظام السوري لا يريد مفاوضات جنيف. ولا ينبع رفضه من التعويل على سوتشي. فهو لا يريد أيضاً المؤتمر الوطني الجامع في هذا المنتجع الروسي. يعتقد بأن ما حققه على الأرض يدعم موقفه الساعي إلى استعادة سيادته على كل الأرض. وهذا موقف حليفه الإيراني الذي توعد بالزحف إلى إدلب بعد «تطهير» شرق البلاد. هذا ما أعلنه صراحة علي أكبر ولايتي مستشار المرشد للشؤون الدولية، في زيارته حلب الشهر الماضي. وهو موقف ينسجم مع اعتراض طهران على تصنيف موسكو لفصائل المعارضة بين معتدلة ومتطرفة. ويشاهد السوريون أن القوات الإيرانية والميليشيات الحليفة لا تزال تتوافد إلى بلادهم، كأن الحرب لم تنته، أو هي على وشك دخول جولة واسعة من العنف. وتستعد لإرسال مقاتلين إلى إدلب حيث توقفت تركيا عن ضرب «جبهة النصرة» ربما في انتظار ضوء أخضر روسي يتيح لها دخول عبرين لإنهاء وجود «وحدات حماية الشعب» الكردية في هذه المنطقة. وهذه عقبة ثانية بوجه مساعي موسكو إلى إبرام صفقة سياسية تتمتع بغطاء دولي وتتيح لها تكريس «انتصارها» في بلاد الشام. انتصار لا يشاركها فيه أحد، عسكرياً على الأقل. غازلت كل الأطراف المنخرطين في الحرب. وأشركتهم في ترتيبات التهدئة وأتاحت لهم بناء شراكات اقتصادية أو تجارية لكنها لا يمكن أن تسمح بوجود استراتيجي لأي قوة أخرى أياً كانت. من هنا وصفها الوجود الأميركي بأنه احتلال ولا يحظى بشرعية من دمشق.
لا يمكن النظام المنتشي بما تحقق له من تقدم على الأرض، أن يقنع نفسه بوجوب تقديم تنازلات تتناول صلب صلاحياته وطبيعته وهويته ومؤسساته، والقبول بانتخابات برلمانية ورئاسية تشرف عليها الأمم المتحدة ويشارك فيها السوريون في أرض الشتات. لذلك لا معنى للذرائع التي يسوقها، أو الاتهامات التي يوجهها سواء إلى المعارضة أو المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، من أجل تبرير فشل الجولة الثامنة من المفاوضات. هل يرضى مثلاً بتقليص صلاحيات الرئيس وتوزيعها على الحكومة والمجالس المحلية في كل منطقة من مناطق البلاد؟ هل يرضى بتحول النظام برلمانياً يحرم الرئيس من امتلاك كل مقاليد السلطة؟ وهل يرضى بتحديد ولاية الرئيس باثنتين فقط كما هي الحال في معظم دساتير العالم، بما فيها الدستور الروسي؟ هذه عناوين مسودة الدستور التي قدمها الروس مطلع السنة، وستكون حتماً منطلقاً للبحث في سوتشي. قد لا تكون سورية مرشحة بعد فشل الجولة الأخيرة في جنيف للتقسيم الحتمي كما حذر المبعوث الدولي، أقله في المدى المنظور. تقسيمها يعني فتح الباب أمام سلسلة قد لا تتوقف عند حدود بلاد الشام. قد تشجع على التمدد نحو العراق وتركيا وحتى إيران وغيرها. ويستحيل أن يكون المجتمع الدولي، في ظل نظامه المهتز، مستعداً لاستقبال هذا الحجم من التحولات الكبرى وتداعياتها.
مشكلة روسيا ليست إذاً مع خصومها، وإن حملت وفد المعارضة فشل جنيف وحددت لها شروطاً خمسة أو ستة إرضاء للنظام وحماية له بعدما انتقده المبعوث الدولي. فالمعارضة لم ترفع شعار الحل العسكري. النظام هو الذي عسكر الحراك منذ البداية ولا يزال يصر على الحسم الميداني. مشكلتها مع شركائها في الأزمة، من دمشق إلى طهران وأنقرة. فلكل من هذه الأطراف أجندة مختلفة لا تلتقي مع ما يرسمه سيد الكرملين الذي تكفيه صعوبة التعامل مع المنافسين والخصوم المنخرطين في الميدان السوري. يربكه موقف الولايات المتحدة التي تبدي لا مبالاة أو تتعمد إظهار عدم اكتراث بما يجري سواء في جنيف أو في آستانة. وتكرر أن قواتها باقية في سورية إذا لم يكن الحل السياسي ملائماً أو مرضياً. ولا تبدي اهتماماً بإعادة الإعمار في البلد المدمر. ويمكنها في أي وقت أن تلعب ورقة الكرد، وإن أظهرت أخيراً رغبة في مراعاة تركيا المعترضة على تسليحهم. مثل هذه المواقف تعني أن واشنطن التي سلمت لموسكو بإدارة العملية السياسية، لا تمنحها شيكاً على بياض أو أنها ستوافق تلقائياً على قراءة الكرملين للتسوية، أو على طريقة توزيعه لـ «الحصص» على القوى المعنية بالصراع. ولا شك في أن إصرارها على البقاء العسكري شرق بلاد الشام وشمالها يعني أنها تمتلك حق «الفيتو» على «السلام الروسي». ويعكس إصرارها على ترسيخ حضور سياسي في هذا البلد لها أو لحلفائها في الإقليم يترجم، في التوقيت الملائم، دوراً في رسم مستقبل بلاد الشام. أو لعل أميركا راغبة في ترك روسيا تتخبط في هذا المستنقع. أو أنها راغبة فعلاً في ترجمة استراتيجيتها بخوض المواجهة مع إيران. وقد بدأت ملامح هذه المواجهة في صور عدة. بينها موقف فرنسا (وبعض أوروبا) الذي يسعى إلى الفصل بين الاتفاق النووي وسياسات طهران التوسعية في عدد من الدول العربية. وبينها أخيراً إعلان المندوبة الأميركية إلى الأمم المتحدة نيكي هايلي أن بلادها تريد بناء تحالف دولي للتصدي لسلوك الجمهورية الإسلامية في الخليج والعالم. وكررت اتهامها بدعم الإرهاب، وعدّت برنامجها الصاروخي انتهاكاً للاتفاق النووي. وقد ركزت على ما يجري في اليمن الذي قد يكون محكاً لجدية الدور الأميركي في ما يجري جنوب شبه الجزيرة العربية. فضلاً عن كون هذا نقطة ضعف لإيران التي بالغت في نشر قوات وميليشيات في معظم أنحاء المنطقة ستجد مع الوقت صعوبة بالغة في إدارة الصراع فيها أو ترسيخ أقدامها في كل هذه الأماكن في وقت واحد.
بات واضحاً أن الرئيس بوتين يستعجل سحب وحدات من سورية على أبواب حملته الانتخابية. ولكن ليس إلى الحد الذي يهدد وجود بلاده العسكري في قاعدتي حميميم وطرطوس، أو يهدد حضورها السياسي في بلاد الشام ومنها في الإقليم. صحيح أن هذا التقليص للقوات رسالة إلى الداخل «الانتخابي»، لكنه ربما كان رسالة أيضاً إلى حليفيه في دمشق أو طهران تشي باستعداده لوقف التدخل الميداني ليترك لهما وحيدين مواجهة أكثر من مئة ألف يشكلون فصائل في «الجيش الحر» فضلاً عن قوى أخرى متطرفة. هذا الواقع بالطبع ينذر بتجدد جولات جديدة من الحرب إذا لم تنجز التسوية… أو إذا أصرت إيران على وجود عسكري دائم في سورية. في حين يصر أكثر من طرف على خروجها من هذا البلد وفي المقدمة إسرائيل ودول أوروبية وعربية. أياً كان هدف موسكو من تخفيف الوحدات والترسانة، فإن التعويل على سوتشي كفرصة للخروج بتسوية يبدو في غير محله. فإذا تعذر تفاهم بضعة سوريين يمثلون النظام والمعارضة الموحدة في جنيف، فكيف سيتسنى لنحو ألف أو بضعة مئات أن يتفاهموا أو يتفقوا على حل سياسي في مؤتمر الحوار الوطني الموعود في سوتشي؟ وبعيداً من الأطراف المحلية، كيف يمكن موسكو أن تراهن على هذا المؤتمر وهي تدرك أن تعقيدات الأزمة أكبر بكثير من السوريين؟ ثمة قوى ومصالح دولية وإقليمية متناقضة ومتصارعة في بلاد الشام. وحتى لو نجح الروس في فرض صيغة حل في المؤتمر، فماذا عن موقف تركيا وإيران وخصومها العرب؟ وماذا عن الولايات المتحدة وإسرائيل؟
لذلك تدرك موسكو أن أي حل سيخرج من سوتشي، أياً كان الحضور ومستواه ومدى تمثيله، يحتاج إلى غطاء شرعي من المجتمع الدولي، مثلما يحتاج إلى قبول المعارضة الموحدة أو غالبية السوريين. من هنا تكرار الديبلوماسية الروسية أن سوتشي ليس بديلاً من جنيف بل هو مساعد ومكمل تماماً كما كانت الحال مع اجتماعات آستانة التي وفرت نوعاً من التهدئة في مناطق متفرقة. ولا يبدو أن بقية المنخرطين من أصحاب المصالح في سورية مستعدون للقبول بحل سياسي لا يرعى مصالحهم، خصوصاً إيران التي تبني قواعد عسكرية في حين لا تزال إسرائيل تهدد كل يوم بعدم السماح للجمهورية الإسلامية بوجود دائم في بلاد الشام. من السهل إشاعة قراءة متفائلة حيال المساعي السياسية، لكن واقع الأزمة لا يبشر بتسويات بقدر ما ينذر بأيام صعبة وربما بجولات دامية إذا تصاعدت المواجهة بين إيران وخصومها الكثر دولياً وإقليمياً.
الحياة
محاولة تفسير يائسة لمشهد حميميم/ حازم الامين
يمكن المرء أن يُخمن أن وظيفة الإهانة الروسية لبشار الأسد في قاعدة حميميم العسكرية هي عكس ما اعتقده خصوم الأسد، ذاك أن «كرامة» الأخير لم تعد اعتباراً في المشهد السياسي السوري. وربما علينا، نحن الراغبين في رحيل رئيس سورية، أن نتشاءم: ذاك أن واقعة حميميم تنطوي على تمسك روسي بالرجل، وهو تمسك مشروط بالاستتباع، وما قبول الأسد بما حصل له هناك إلا نتيجة لمعرفته بأن ذلك ثمن لا بد من دفعه لقاء تمسك بوتين به رئيساً. وهذه ليست لعبة كرامات بقدر ما هي رسائل في أكثر من اتجاه.
الصحافة الروسية تحفل هذه الأيام بتحقيقات ومقالات حول طبيعة النظام في سورية وحول تورطه بالدماء في بلده، وهذه كلها تساق نحو هدف واحد يتمثل في أن الأسد باقٍ في منصبه، ولكن ضمن الشروط الروسية التي ستحد من جموحه. الروس يريدون توظيف كل شيء في موقعهم الشرق أوسطي. يتحدثون عن علاقاتهم الاستثنائية مع تل أبيب، وعن تفاهمات مع إيران وعن اقتراب مغادرة «حزب الله» سورية. متعقب الموقع الروسي سيدهش بحجم الاستدارة الروسية، وبالرغبة في الانتقال من موقع القتال دفاعاً عن النظام إلى موقع راعي التسوية. وهم إذ يتحركون في الفراغ الذي خلفه الأميركيون، يملأون هذا الفراغ بنوع مختلف من المشاهد. فلا شيء يقف عند طموحهم في وراثة نفوذ واشنطن، ولا حساب يقيمونه لأحد في مساعيهم هذه.
البراغماتية الروسية «غير الأخلاقية» مستعدة للقول أنها تقف إلى جانب نظام كان له الدور الأبرز في صعود «داعش»، وتشير إلى المجازر التي ارتكبها، وهي إذ لم تعترف، حتى الآن، باستعماله أسلحة كيماوية، إلا أنها لا تستبعد قيام حليفها باستعمالها، وكل هذا في سياق القول أنها بصدد حماية السوريين من رئيسهم الذي سيبقى إلى 2021.
هذه هي خلفية مشهد قاعدة حميميم الذي حرصت موسكو على تظهيره للعالم. ووفق هذا الوعي وهذه المهمة، ليست كرامة الرئيس اعتباراً يُعتد به لتفسير شريط الضابط الروسي، ممسكاً بيد الأسد لمنعه من توديع بوتين. الديبلوماسية وفق هذه المعطيات هي عملية تخريج لمشهد سياسي من عناصر قذرة، ودعوة إلى قبول الجريمة بصفتها مؤسِّسة مستقبل البلد. الروس المنتصرون في الحرب في سورية يقولون للعالم أنهم سيحمون سورية من رئيسها الذي اختاروه، والرئيس بدوره قبل بهذه المعادلة وجاء إلى القاعدة العسكرية ليؤدي مشهد القبول.
علينا أن نباشر تمارين ذهنية تساعدنا على توقع مشاهد «التسوية» في سورية واستشرافها. ثمة وقائع ثقيلة تحصل في موازاة الحرب الدائرة هناك. في سوتشي، جلس الأتراك مع ما يمثلون في سورية والإيرانيين مع ما يمثلون أيضاً في سورية، وحصل ذلك في رعاية قيصرية. من المفترض أن تكون «التسوية» موازية لهذه الواقعة. شريكان صغيران وشريك أكبر. البداهة تأخذنا إلى أن ذلك يعني أن بشار الأسد سيقبل بـ «مساعد» من «الإخوان المسلمين» السوريين لإدارة المرحلة الانتقالية. المشهد قاسٍ للمترقبين على طرفي الانقسام في سورية. هذا مجرد تمرين ذهني، إلا أن الواقعية الروسية الجلفة، يمكنها أن تفرضه. فمن كان يتخيل أن يبقى الأسد رئيساً لسورية، ومن كان يتخيل أن يقبل الأخير بما حصل له في حميميم؟!
لم يسبق أن لعبت دولة كبرى الدور الذي تلعبه روسيا في سورية. فهي لا تقاتل لحماية الأسد فقط. تقاتل مع الأسد ومع «حزب الله»، وتفسح المجال للطائرات الإسرائيلية لتقصف مواقع حلفائها، وتتواصل مع الأردن لإشراكه في هدنة الجنوب السوري، وتقيم صلات متينة مع أنقرة، راعية «فصائل جهادية» في إدلب، وتنتزع من واشنطن تفويضاً ضمنياً حول مستقبل سورية، ولا تعطي بالاً لرغبات الرئيس الأميركي في مواجهة إيران، لا بل تشعر الأخيرة في أن موسكو ملاذها الأخير في ظل هذا التهديد.
الديلوماسية المتخففة من أي التزام أخلاقي، ومن أي بناء على سوابق الديبلوماسية، تقول علانية أن نظام بشار الأسد هو الذي سهّل المهمة لـ «داعش» وهو الذي أطلق قادته السوريين من السجون. وهذا لن يحد من رغبتها في القتال إلى جانبه. فلاديمير بوتين يتصرف من دون أي رقيب سواء في روسيا أو في العالم. بلده جديد على تقاليد المحاسبة، والعالم في ظل دونالد ترامب صار معجباً بـ «رشاقة» رجل الكرملين وبتخففه من الأخلاق التي تقيد السياسة في الغرب. ومن هذه حاله لا تمكن مقاومته.
بوتين أقوى من ترامب، على رغم أن أميركا أقوى من روسيا، لا بل لأن أميركا أقوى من روسيا. الأول يثير بتخففه من أخلاق السياسة وشروطها إعجاب العالم، والثاني تكاد تطيحه فضائح التحرش. الشرق الأوسط مسرح نموذجي للأول، فيما هو بؤرة عجز كامل للثاني. وبما أن الرجلين متشابهان، فلا بأس من تفويض طالما أن تل أبيب لا تمانع في إعطائه إياه.
وفق هذا السيناريو، يجب أن نفسر ما حصل في حميميم. ثقة القيصر المفرطة في النفس جعلته يشعر بأنه يستطيع أن يقول للعالم أن سورية هي مسرحه. إيران نفسها شريك أصغر في هذه المعادلة. وهي ستكون أكثر براغماتية وقبولاً ما إن تباشر واشنطن حملتها عليها. ستكون موسكو ملاذها. لقد انتصر الأشرار في كل مكان، وفي وقت جرى هزم شرير واحدٍ هو «داعش»، صار علينا أن نتعايش مع كل من انتصر عليه، وهؤلاء هم بقية أشرار العالم. وستتوالى علينا مشاهد المهانة، لكن علينا ألّا نسقط في فخ تفسيرها بغير ما هي. فلكي تكون رئيساً عليك أن تكون جزءاً من مشهد حميميم.
الحياة
الأمر الواقع … في سورية أيضاً!/ الياس حرفوش
كان يفترض بوفد المعارضة الذي شارك في مفاوضات جنيف الأخيرة أن يأتي إلى المفاوضات بورقة استسلام أمام شروط النظام، كي لا يغضب بشار الجعفري من المعارضين، ومن المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الذي هدّده الجعفري بأن بقاءه في هذه الوظيفة صار على المحك، بعدما أظهر مسايرة لوفد المعارضة، وفق اتهامات رئيس وفد النظام السوري.
ولأن الزمن هو زمن ضرورة «الاعتراف بالواقع»، تمثلاً بدعوة دونالد ترامب إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يقضي «الواقع السوري» كذلك افتراض حق بشار الأسد في البقاء حاكماً للسوريين. فكما نجحت القوة المجرّدة في فرض «واقعها» على الشعب الفلسطيني في الحالة الأولى بالقتل والاحتلال وتدمير البيوت، هكذا نجحت القوة المجرّدة للنظام السوري في فرض هيمنتها على الأرض وعلى الشعب في وجه المعارضين. وهو ما يطالب بشار الأسد السوريين والعالم بالاعتراف به والاستسلام أمامه: لقد انتصرنا في المعركة معكم فلماذا لا تقرون بذلك وتذهبون إلى بيوتكم؟
عدم الاعتراف بـ «انتصار» النظام هو ما سبّب غضب بشار الجعفري من دي ميستورا بعد مفاوضات جنيف الأخيرة، التي اعتبر المبعوث الدولي أنها كانت «فرصة ضائعة»، لأن النظام رفض البحث في الأمور السياسية مثل الدستور الجديد والانتخابات، وأصر على اعتبار محاربة الإرهاب بنداً وحيداً للنقاش. لكن «الجريمة» التي ارتكبها دي ميستورا أنه أكد على ضرورة تطبيق البيانات والقرارات الدولية التي أقرّت الشروط الضرورية لأي حل مقبول للأزمة السورية، وفي مقدمة هذه الشروط قيام هيئة حكم تشرف على المرحلة الانتقالية، التي يتم خلالها إقرار دستور جديد وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية بإشراف دولي. إنها «الجريمة» ذاتها التي أدّت سابقاً إلى اعتزال كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، بعدما اكتشفا أن رئيس النظام السوري لن يوافق على أي تسوية تُفضي إلى تنازله عن الحكم.
الاستسلام المطلوب من معارضي النظام السوري يعود في نظر النظام إلى تفوقه العسكري في المعارك التي يخوضها، والتي حسمت مصير معظم المدن والمناطق السورية. أما ما لم يُحسم بعد، كما هو وضع الغوطة الشرقية لدمشق، فيتم تدميره وقتل سكانه بهدف إخضاعه بالقوة. وليس مهماً في نظر النظام أن انتصاره على السوريين يتم بفضل الاستعانة بالقوات الروسية والميليشيات الإيرانية. فبالنتيجة هذا هو الواقع الذي يريد بشار الأسد من السوريين ومن دول المنطقة ومن العالم الاعتراف به. الواقع أن نظامه استطاع بعد أكثر من ست سنوات على الحرب التي يخوضها على شعبه، وأمام عجز دولي أدّى إلى ترك الشعب السوري لمصيره البائس، أن يفرض شروط الاستسلام التي يريدها، أو هكذا يعتقد.
بالتالي، لم يعد بشار الأسد ونظامه ومؤيدوه من «ممانعي» المنطقة يرون أي مبرر لتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بحل النزاع، ومن بينها بيان «جنيف1» والقراران الدوليان الرقم 2118 و 2254. إنه يعتبرها إضاعة لوقته الثمين. من هنا، كان غضب بشار الجعفري من تبنّي وفد المعارضة البيان الذي صدر عن المؤتمر الأخير الذي عقدته فصائلها في الرياض، والذي نص على «مغادرة رئيس النظام السوري بشار الأسد وزمرته ومنظومة القمع والاستبداد مع بدء المرحلة الانتقالية»، وهو نص لا يختلف مضمونه عن البيانات والقرارات التي تحدثت عن «قيام هيئة حكم انتقالية»، والتي انطلقت من أن أي حلّ قابل للعيش في سورية لم يعد ممكناً من دون أخذ المعطيات الجديدة في الاعتبار، ومن أهمها ضرورة القطع مع النظام القائم، المسؤول عن مقتل ما يقارب نصف مليون سوري وتدمير ثلاثة أرباع البلد.
الحياة
الصراع الأميركي الروسي على سورية يتصاعد: تبادل اتهامات وتحذيرات/ محمد أمين
يتصاعد صراع النفوذ بين الروس والأميركيين على سورية، ويهدد مستقبل البلاد التي تحوّلت إلى مناطق نفوذ إقليمي ودولي، في ظل انسداد أي أفق أمام التوصل إلى حل سياسي. ويتجلى هذا الصراع على أكثر من صعيد، أكان في المسار السياسي الذي تواصل فيه واشنطن دعم مفاوضات جنيف للتوصل إلى تسوية تنهي من خلالها الأزمة السورية، فيما نجحت موسكو إلى حد بعيد في إفشال هذه المفاوضات، مع سعيها لنقل مرجعية الحل إلى مؤتمر سوتشي. أما على الصعيد العسكري، فتستمر الاتهامات المتبادلة بين البلدين، مع تواصل حديث روسيا عن دعم الولايات المتحدة لـ”الإرهابيين”، واعتبارها الوجود الأميركي في سورية غير شرعي، في وقت تبدي فيه واشنطن قلقاً من خطر جديد يتمثل في إمكان حدوث اشتباك بين طائرات مقاتلة روسية وأميركية فوق سورية، في ظل تكرر الأحداث المشابهة في الأسابيع الماضية. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال مستبعداً أن يتحول هذا التنافس إلى صدام عسكري مباشر بين البلدين.
وفي هذا السياق، حذر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، من “التحليق غير الآمن والخطر” للطيران الروسي في الأجواء السورية، مضيفاً في تصريحات للصحافيين في مقر البنتاغون أمس الأول الجمعة، أن “الطرفين الأميركي والروسي يتابعان التنسيق هاتفياً بشأن حركة الطيران في أجواء سورية المكتظة”. جاء ذلك في تعليق لماتيس، على واقعة حصلت الأربعاء، عندما اعترضت طائرتا “اف-22” أميركيتان طائرة “سوخوي-25” روسية في المجال الجوي السوري في منطقة ما كان ينبغي لها أن تتواجد فيها، وفق مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية. وتكررت الأحداث المماثلة في الأسابيع الماضية، على الرغم من أن البلدين يستخدمان خط اتصال مباشر لتفادي الاشتباك منذ تدخّل روسيا في النزاع السوري في سبتمبر/أيلول 2015.
مقابل ذلك، اتهمت وزارة الدفاع الروسية صراحة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بمواصلة “التعاون” مع ما سمتهم بـ”بقايا الإرهابيين” في سورية، مشيرة في بيان صدر أمس عن قاعدة حميميم الروسية في الساحل السوري إلى “أن المدربين العسكريين الأميركيين يقومون بإنشاء وحدات عسكرية جديدة بعنوان “الجيش السوري الجديد” بالقرب من مخيم للاجئين في مدينة الحسكة”. وقالت إن هذا الجيش يتكوّن “من مجموعات منشقة عن المسلحين”، ناقلة عن “النازحين الذين عادوا إلى منازلهم” قولهم “إن العسكريين الأميركيين أعلنوا أن هذه الوحدات بعد انتهاء فترة تدريبها ستنقل إلى جنوب سورية لمحاربة القوات الحكومية”، وفق البيان. كما نقل المركز عن “شهود عيان” قولهم إن التحالف الدولي “يستخدم هذه القاعدة” لهذه الأغراض منذ أكثر من 6 أشهر، مؤكدين وجود نحو 750 مسلحاً وبينهم 400 مسلح من تنظيم “داعش” تم إخراجهم من الرقة في أكتوبر/تشرين الأول بدعم من الولايات المتحدة.
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد اتهمت الأسبوع الماضي، التحالف الدولي بمحاولات إعاقة استهداف الطائرات الروسية لمواقع تنظيم “داعش” في شرق سورية، مشيرة في بيان إلى أن “غالبية حالات التقارب بين الطائرات الروسية والأميركية فوق حوض نهر الفرات كانت متعلقة بمحاولات الطيران الأميركي إعاقة القضاء على إرهابيي داعش”، وفق البيان. وكانت موسكو وواشنطن تبادلتا على مدى سنوات الأزمة السورية اتهامات وصلت إلى حد الصدام المسلح بين وكلاء العاصمتين على الجغرافيا السورية، خصوصاً في شرقي البلاد الذي بات مسرح صراع على النفوذ بين الطرفين.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه موسكو الوجود الأميركي في سورية “غير شرعي” لأنه لم يحصل على موافقة النظام، ترى واشنطن أن موسكو تدعم رئيس النظام السوري بشار الأسد ونظامه وتغلق كل السبل المتاحة من أجل التوصل إلى حل سياسي ينهي الصراع. وأجهضت موسكو على مدى سنوات الأزمة مشاريع قرارات في مجلس الأمن الدولي من أجل تخفيف معاناة السوريين من آثار حرب لا تزال مفتوحة من قبل النظام على معارضيه، ما جعل المجتمع الدولي مكتوف الأيدي منذ عام 2011، ولا يزال. كما تنظر الولايات المتحدة بعين الاستياء للتعاون الروسي الإيراني في سورية والذي أفضى إلى سيطرة الجانبين على غالبية البلاد التي باتت ميادين نفوذ معلنة لموسكو وطهران.
ونجحت روسيا إلى حد بعيد في إفشال مساعي الأمم المتحدة في التوصل لحل سياسي في مفاوضات جنيف بين المعارضة السورية والنظام بسبب الدعم اللامحدود للأخير الذي بات يتصرف كـ”منتصر” بسبب الدعم الروسي. وتريد موسكو فرض حل يحقق طموحاتها في الشرق الأوسط، لذا تدفع باتجاه عقد “مؤتمر الحوار الوطني السوري” في سوتشي ليكون بديلاً عن مسار جنيف. وفي آخر التصريحات الروسية التي تؤكد عدم نيّة موسكو تسهيل التوصل لحل في سورية، قال السفير الروسي لدى الأمم المتحدة في جنيف أليكسي بورودافكين الجمعة إن على المعارضة “ومموليها” إدراك ضرورة استبعاد مطالب، كمغادرة الأسد، من أجندتهم.
كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في كلمة له يوم الجمعة أمام مجلس الاتحاد الروسي، إن على جدول أعمال مؤتمر “الحوار السوري” المزمع عقده في مدينة سوتشي مطلع العام المقبل “وضع دستور جديد، والتحضير لانتخابات عامة، وحل القضايا الإنسانية، ووضع برنامج لإعادة الإعمار”، ما يعني عملياً إفراغ مسار جنيف الأممي من أي قيمة سياسية، وتكريس الحل الروسي للصراع بعيداً عن قرارات الشرعية الدولية.
في المقابل، أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية هيذر نويرت في بيان تأييد بلادها “دعوة المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، مؤيدي النظام إلى الضغط عليه للمشاركة الكاملة في مفاوضات ملموسة مع المعارضة في جنيف”، مشيدة بـ”المشاركة البنّاءة” للمعارضة السورية في مفاوضات جنيف. وتدعم الولايات المتحدة مسار جنيف التفاوضي في محاولة لتحقيق حل سياسي بعيد عن الرغبة الروسية في إعادة تأهيل بشار الأسد الذي وصفه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أخيراً بـ”الوحش”، مشدداً على أنه لا مستقبل له في سورية، في إشارة واضحة إلى أن واشنطن ستضع عراقيل في طريق أي مخرجات من مؤتمر سوتشي لا تدفع باتجاه تنحي الأسد عن السلطة، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بالملف السوري.
وجاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أيام إلى القاعدة الروسية العسكرية في حميميم بالساحل السوري، أوضح رسالة للجانب الأميركي والغرب عموماً مفادها أنه بات المتحكم بالقرار السوري. وكان واضحاً من طريقة “إهانة بشار الأسد المتعمدة” من قبل بوتين، أن الأسد بات تابعاً للروس، وأن سورية باتت منطقة نفوذ للروس في شرقي المتوسط، وهو الحلم الذي طالما حاولت روسيا تحقيقه، فالوصول إلى “المياه الدافئة” كان هدف موسكو منذ أيام القياصرة وقد تحقق أخيراً، وليس في نيّة موسكو التخلي عنه وقد بات حقيقة.
على الرغم من كل هذا التوتر، ليس من المتوقع أن يتحوّل الصراع الروسي الأميركي على سورية إلى صدام مسلح يمكن أن يؤدي إلى خلط أوراق إقليمية، وربما يدفع إلى ما هو أخطر. ولكن لا يمكن عزل التنافس الروسي الأميركي عن تنافس مماثل في شرقي آسيا، وفي شرقي أوروبا، وفي شمال أفريقيا، حيث تضع روسيا عينها على ليبيا، في وقت توسع فيه نطاق تعاونها مع مصر. ومع انتهاء الحرب على تنظيم “داعش” في شرقي سورية، تسابق الجانبان الروسي والأميركي على إعلان “النصر” الذي أدى إلى تدمير مدن كاملة وتشريد عشرات آلاف المدنيين.
العربي الجديد
سوريا بعد فشل جنيف8/ سمير صالحة
يستعد المبعوث الأممي إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، لتقديم تقريره الى مجلس الأمن الدولي حول أسباب فشله اللامعلن في جنيف8. سيحاول ان يكون متوازناً ومنصفاً في توجيه الاتهامات وتحميل المسؤوليات للنظام والمعارضة، حول دورهما في عرقلة المفاوضات وعدم الخوض في خطته التي تقوم على مناقشة 12 بنداً للتسوية في الملف السوري.
يقول رئيس وفد النظام السوري، بشار الجعفري، أن الحكومة السورية لن تقبل الدخول في حوار بوجود أي شرط مسبق، وطبعا نحن نعني بذلك أن بيان الرياض2 يمثل شرطاً مسبقاً للمحادثات. في المقابل، اتهم رئيس “هيئة التفاوض السورية”، نصر الحريري، وفد النظام بإضاعة الوقت وعدم الجدية خلال الجولة الحالية. أما دي ميستورا، فيكتفي بإبداء أسفه لعدم حصول “مفاوضات حقيقة” بين الطرفين، ويعلن أنه سيبادر الى توجيه الدعوات لجولة جديدة من المفاوضات في كانون الثاني/يناير2018. وهو لن يستطيع الحصول على قرار أممي توافقي جديد يمنحه تفويض الضغط والمساءلة في اجتماع جنيف المقبل، لكنه لا يملك الشجاعة أيضاً لمفاجأتنا بطلب إعفائه وقرار التنحي عن الاستمرار في مهمته التي تزداد تشابكاً وتعقيداً.
الرهان على فشل محادثات جنيف8، لم يكن صعباً قبل اسبوعين، لأن الهدف الحقيقي للقاء لم يكن إنجاح المؤتمر وتنفيذ المطلوب منه بعد 7 لقاءات فاشلة أخرى، بل تكريس مقولة انتهاء دور المنظمة الأممية ووساطتها واستبدالها بحلول الأستانة وسوتشي ومؤتمر الحوار الوطني، والتي أصبحت تلخص مسار فتح الطريق أمام استراتيجية “تنازلات ما قبل التسوية” في ملف الأزمة السورية.
جنيف8 ساعدنا حتى الآن في فهم العديد من النقاط العالقة:
– موسكو تدعو أنقرة لإنهاء ما كلفت به في الأستانة حول تواجدها في إدلب وتترك موضوع عفرين إلى التسويات السياسية النهائية في الملف السوري، بينما تتمسك تركيا بإسقاط ورقة عفرين من يد البعض ضدها. في المقابل، تواصل روسيا تحركها الإقليمي وباتجاه القاهرة تحديداً، حيث يدور الحديث عن محاولة إقناع عواصم عربية بالدخول المباشر على خط الأزمة عبر إرسال قوات فصل تتمركز على الجبهات السورية. هل يعني هذا أن موسكو تتراجع عن تعهداتها السابقة لأنقرة في إطار تفاهمات الأستانة والسماح بإقامة نقاط مراقبة تركية في إدلب؟ قناعة تبرز رويداً رويداً، تقدم قوات النظام السوري نحو الحدود الإدارية لإدلب لا يمكن سوى تلقيها على أنها رسالة روسية إلى تركيا حول أن صبر موسكو يكاد ينفد وأن العملية العسكرية ستتم بشكل أو بآخر ومع تركيا أو من دونها هناك.
– التحرك العسكري لمجموعات داعش نحو إدلب لم يكن سوى مبرر لإطلاق يد النظام وقواته هناك لمحاصرة داعش و”هيئة تحرير الشام” على السواء، ودفعهما نحو الانتحار العسكري والسياسي، وفتح الطريق أمام سيناريو آخر مشابه في عفرين هذه المرة. هذا، من دون التوقف مطولاً عند الرسائل الأخيرة التي وجهها بوتين الى أنقرة عبر طهران التي تطالب دائماً بانسحاب القوات غير الشرعية من سوريا!
– أنقرة اليوم، وإلى جانب كل هذه المطبات، أمام تقاطع مراجعة مواقفها في موضوعي تمثيل “قوات سوريا الديموقراطية” ورحيل بشار الأسد قبل انطلاق المرحلة الانتقالية واحتمال أن يشعل ذلك أزمة بينها وبين حلفائها في المعارضة السورية.
– إدارة دونالد ترامب ما زالت تجد صعوبة فائقة في مسعى إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا وفي خطة التمسك بجنيف كبديل وحيد للتسوية هناك. كما أنه، من دون تفاهمها مع موسكو مباشرة، لن يكون هناك حل دائم في سوريا.
– تقدم احتمال قبول موسكو بالعودة الأميركية العسكرية الى الملف السوري وقرار إشراكها سياسياً في التسويات هذه المرة، في مقابل تخليها عن موقف أن جنيف هو المسار الوحيد لحل الصراع السوري. هل تضحي واشنطن بجنيف في مقابل إشراك حليفها المحلي الكردي في طاولة الحوار الوطني؟
– “وحدات حماية الشعب” تبحث عن مكان جديد لها بين موسكو وواشنطن، وهي تشيد بنتائج التنسيق العسكري معهما والدعم الجوي واللوجيستي الذي تحصل عليه، والذي يفتح الأبواب، كما ترى قيادات عسكرية كردية، أمام تشكيل هيئة أركان وغرفة عمليات مشتركة بهدف رفع وتيرة التعاون.
– الإبرة ما زالت تميل نحو تبني مسار حل وتسوية، يعتمد على الكثير من مقترحات المبعوث الدولي إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، لكن ليس تحت إشرافه، أو في جنيف، بل بضمانات المظلة الأممية فقط. التفاهمات النهائية قد تتم في المؤتمر الوطني السوري.
– خيار الحوار حول الطاولة البديلة التي تطرحها موسكو، في جمع غالبية كيانات وشرائح الشعب السوري لتكون نواة هيئة الحوار الوطني، لا بد أن تسبقه تفاهمات ورزمة إصلاحات سياسية ودستورية واضحة ومحددة في سوتشي، لتترجم الى خطة تحرك ميداني في الاستانة تطلق يد منصة الحوار السوري-السوري التي سيتم تشكيلها.
– الموقف الروسي أوجزه بوتين، مرة أخرى، على هامش لقائه برأس النظام في سوريا في قاعدة حميميم. العملية السياسية ستبدأ انطلاقاً من انتهاء الحرب على “داعش”، وبدء تفكيك “جبهة النصرة”، واستناداً إلى عملية احتواء الصراع الداخلي المسلح في مناطق خفض التصعيد. رسالة بوتين هي أمام بشار الأسد، لكن المعنيين فعلاً هم حلفاء وشركاء موسكو وخصومها، إذا ما كانوا راغبين في إنجاز التسوية السياسية في سوريا على الطريقة الروسية.
– ثمة حقيقة أخرى، وهي أن قوى المعارضة السورية التي ترفض أي دور للأسد في المرحلة الانتقالية، والتي كررت موقفها هذا في البيان الختامي لقمة الرياض2 الأخيرة، تواجَه بالتصلب الروسي الذي يقول أن الأسد باقٍ في المرحلة الانتقالية. وها هي تستعد لسوتشي آخر، وهي تعرف تماماً أنها ستُطالَب بترك شروطها المسبقة عند باب قاعة المفاوضات، فكيف ستتصرف؟
– الطرف الأكثر تراجعاً في مشروع التسويات السورية، هو المنظومة العربية، التي فشلت في فرض نفسها وسط تشرذم وتشتت مستمر حول إنقاذ الموقف والدور. وهي نتيجة سياسية واستراتيجية ليست الأولى من نوعها في العالم العربي في العقود الأخيرة.
– أولويات قيادات “حزب العدالة والتنمية”، في سوريا، تتغير تماماً، بالمقارنة مع ما كانت تفعله وتقوله قبل 7 سنوات عند انطلاق الثورة. وصول السياسة التركية إلى طريق مسدود في الخطط والحلول التي اقترحتها، دفعها إلى التحول نحو روسيا وإيران للتنسيق معهما في سوتشي والاستانة، وغداً أمام طاولة المؤتمر الوطني السوري، رغم معرفتها أن ذلك قد يتعارض مع سياستها الغربية الأميركية والأوروبية والأطلسية وربما العربية أيضاً.
المدن
مرحلة سياسية جديدة في سورية/ ليونيد إيساييف
استؤنفت المحادثات السورية في جنيف في 5 كانون الأول (ديسمبر). واختتمت الجولة السابقة، من 28 تشرين الثاني (نوفمبر) إلى 1 كانون الأول، بإحراز دمشق نجاح ديبلوماسي. وعلى رغم أن مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، قدم ورقة مبادئ من اثني عشر بنداً للتسوية السلمية خلت من بنود غير مريحة لنظام دمشق مثل اعتماد الدستور الجديد والإصلاح السياسي، لم يكن وفد السلطات السورية في عجلة من أمره للعودة إلى طاولة المفاوضات. ويبدو أن النظام السوري مستعد لمواصلة المحادثات مع المعارضة إذا اعترفت هذه بدوره القيادي والراجح في عملية السلام. وكانت السنة الحالية منعطفاً: انخفاض حدّة العمليات العسكرية بعد سبع سنوات تقريباً من إراقة الدماء. واليوم يتصدر السلام والاستقرار أولويات السوريين ويتقدم على مشكلات السلطة ومستقبل النظام السياسي.
واليوم مع الانتقال من المرحلة العسكرية في الصراع السوري إلى المرحلة السياسية– الديبلوماسية، تجبه موسكو تحديات أكثر صعوبة: ترسيخ النفوذ بواسطة أدوات غير عسكرية. وهذا ما هو وراء إفراط القيادة الروسية في النشاط في الأسابيع الأخيرة، إذ يبدو أن موسكو تحاول بذل كل ما في وسعها لإبقاء عملية التفاوض تحت سيطرتها. ولكن مع مرور الوقت، يضعف اعتماد نظام بشار الأسد على الأسلحة الروسية، وتكبر حاجته إلى مساعدة مالية لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة. وهذا يفقد صيغة «الترويكا» (روسيا وإيران وتركيا)، التي صارت أخيراً أثيرة على موسكو، جاذبيتها. وأولاً، لا يمكن أياً من هذه البلدان أن تبعث النمو والانتعاش الاقتصادي في سورية. وثانياً، لن يكون وضع روسيا في المستقبل القريب أفضل من شركائها في التحالف، أي تركيا وإيران. بل ستضطر موسكو إلى قبول دور متواضع نسبياً. وهذا كله يحملها على البحث عن حلفاء جدد، وفي المقام الأول، في صفوف المعارضة. وجلي أن لا أحد قادر على إرغام الرئيس بشار الأسد الذي انتصر في الصراع العسكري على الاستقالة. وعلى رغم إدراك هذا التعذر، تسعى القيادة الروسية إلى إشراك قوات من المعارضة في قيادة البلاد، التي يمسك بمقاليدها ممثلو حزب البعث الحاكم.
وتجلت الرغبة في إبراز دور روسيا الرئيسي في المبادرات الأخيرة للقيادة الروسية، ابتداء من بيان فلاديمير بوتين حول مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي وانتهاء بسلسلة من الاجتماعات التي عقدها مع قادة بلدان الشرق الأوسط. وأكثر المؤشرات وضوحاً إلى هذه الرغبة هي زيارة الأسد إلى سوتشي. وهذه الزيارة تثبت للمجتمع الدولي أن موسكو هي صاحبة نفوذ استثنائي على النظام السوري وأنها قادرة على إقناعه بالحوار مع المعارضة. ففي كل مرحلة النزاع السوري، غادر بشار الأسد البلاد مرتين فحسب، في عامي 2015 و2017، وفي الحالتين للاجتماع بالزعيم الروسي.
تقاسم النصر
وموسكو مدعوة إلى إجراء حسابات دقيقة. أولاً، لا أنقرة، ولا سيما طهران، تنويان الانسحاب من مواقعهما. وأظهر اجتماع بوتين مع رئيسي إيران وتركيا، حسن روحاني ورجب طيب أردوغان، أن مصلحة ظرفية تجمع بين الطرفين وتحملهما على التعاون. أما الرؤية الاستراتيجية التركية والرؤية الإيرانية إلى مستقبل سورية، فهي متباينة. لذا، أبرز ما نجم عن اجتماع «الترويكا» هو تأجيل إلى وقت غير محدد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، الذي كان مقرراً في أوائل كانون الأول. ويبدو أن المؤتمر قد يحاكي اجتماعات آستانة لكن من دون مشاركة عسكريين فيه، وسيتناول جدول أعمال سياسية. ونجاح هذا المؤتمر هو رهن قدرة وزارات الخارجية والدفاع واستخبارات في البلدان الثلاث، على إرساء نهج موحد، إلى حد ما، للحوار السياسي السوري. وثانياً، النظام السوري، إثر رجحان كفته، صار أقل اهتماماً بعملية التفاوض، ولم يعد يرى أن المعارضين مصدر خطر قد ينافسه على القيادة السياسية. وأبرز قرينة غير مباشرة على ذلك هو رفض دمشق الأولي المشاركة في مفاوضات جنيف.
ولذا، تتعاظم أوجه الشبه بين مؤتمر الحوار الوطني- ويفترض أن يحدد معالم الدولة السورية المستقبلية- ومفاوضات المنتصر مع الخاسر. وقد تدور هذه المفاوضات، في أحسن الأحوال، على إدراج ممثلين عن المعارضة في المؤسسات الخاضعة لسيطرة البعثيين، شرط تنفيذهم قرارات دمشق. وفعالية عملية التفاوض هي وثيقة الصلة بقدرة موسكو على التوسل بما تبقى لها من نفوذ في ترسانتها من أجل الضغط على دمشق لحملها على الدخول في حوار سياسي. وإلا فإن الإنجازات التي حققتها روسيا على مدى العامين الماضيين قد تتبدد بلمح البصر.
* محلل سياسي، عن موقع «آر به كا» الروسي، 5/12/2017، إعداد علي شرف الدين.
الحياة
الأسد لخدمة بوتين/ رندة تقي الدين
زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سورية يوم الإثنين، للاحتفال مع بشار الأسد أولاً ببسط نفوذه في المتوسط من قاعدة بحرية باقية إلى أجل غير مسمى في طرطوس، وثانياً لمنع امتداد أي نفوذ أميركي وغربي. فبوتين أنقذ بشار الأسد الذي بدأ حرب أهلية على شعبه قتلت أكثر من ٤٥٠ ألف مواطن وشردت الملايين. وأدت إلى أكبر موجة من اللاجئين في التاريخ. لولا القوة الجوية العسكرية الروسية ومقاتلو «حزب الله» ومرتزقة إيران على الأرض، لما استطاع بشار الأسد استعادة السيطرة على معظم المدن مثل دمشق وحماة وحمص واللاذقية وحلب بعد تدميرها. وجاء بوتين الإثنين ليطمئن الأسد في بلد أصبح تحت وصايته المشتركة مع إيران أنه باق تحت مظلته. فبوتين كما الأسد، يطمح إلى إعادة ترشيح نفسه في انتخابات على نمط انتخابات سورية المفبركة. وانتصار روسيا بوتين جعل معظم الدول العربية تسرع إلى التحاور معه، لأنه حول مركز النفوذ العالمي في المنطقة إليه. وأصبحت روسيا القوة المهيمنة في هذا الشرق الأوسط المأساوي، بعد أن تخلت الولايات المتحدة في عهدي الرئيسين أوباما وترامب عن الاهتمام بمصير سورية. وقد انطلقت مرة أخرى، مفاوضات عقيمة في جنيف بين معارضة سورية تنهال عليها الانتقادات الدولية حتى من المبعوث الأممي، فيما يستفيد النظام من حماية روسيا وإيران والعالم أصبح يتجنب إدانة جرائم الأسد.
إن السياسة الأميركية كارثة في منطقة الشرق الأوسط. فمسألة نقل الرئيس دونالد ترامب سفارة بلده إلى القدس هي من بين مآسي تداعيات السياسات الأميركية المستمرة للرؤساء المتعاقبين. ولو أنها بأسلوب مختلف عن ترامب ولكن المضمون ذاته. فأوباما امتنع عن ضرب قواعد بشار الأسد في السنوات الأولى من الحرب بحجة أنه اتفق مع الروس على عدم تجاوز الأسد الخط الأحمر باستخدام السلاح الكيمياوي. لكن الخط الأحمر تم تجاوزه وظهر «داعش» وتركت سورية لـ «حزب الله» وإيران وروسيا منذ أوباما. جاء بعد ذلك ترامب يحاول التغيير عن سلفه، ويضرب صاروخاً على أسلحة كيمياوية سورية في بلدة خان شيخون ويدين الأسد، قائلاً أن كل محاولات تغيير نهجه فشلت وإنه يُعدّ العالم بإنهاء الإرهاب والقتل بكل أشكاله في سورية. إلا أنه يبدو كأنه تراجع في ذلك، إذ أن كل المؤشرات تدل على أن ترامب لا يبالي بمصير سورية، وأنه وافق لبوتين أن يبقى الأسد حتى عام ٢٠٢٠. إن معظم الدول والمسؤولين انهالوا بانتقادات على المعارضة السورية بأنها منقسمة ومخترقة وضعيفة، وأن ليست هناك شخصية بارزة يمكنها أن تكون في القيادة. لكن يجدر السؤال هل أن الأسد هو الأكفأ بالتدمير والقتل والتخويف. وأي شرعية لحكمه سوى الوراثة من أب استولى على الحكم بالقوة والتخويف. فسهل القول إن ليس هناك معارضة سورية وتوجيه اللوم إليها وكأن الأسد ضرورة لبلد دمره بالعناد والإرهاب والوحشية. وبوتين متمسك ببطله السوري الذي جعل منه القوة العظمى في المنطقة حتى إشعار آخر. وكلما قيل له عن ضرورة رحيل الأسد يرد قائلاً إنه لن يجد شخصية أخرى بارزة بديلة.
طبعاً، من سيكون أفضل من الأسد لخدمة مصالح روسيا وإيران على حساب بلده ودم أبنائه؟ إن المأساة أن الولايات المتحدة سلمت مصير سورية لروسيا، بسبب تراجعها وبسبب عدم السماح لقوة مثل فرنسا أن تلعب دوراً في مثل هذه المفاوضات من أجل حل حقيقي وديموقراطي لبلد أصبح قراره في موسكو وطهران والضاحية الجنوبية لبيروت. وإعلان بوتين سحب بعض قواته من سورية هو الثالث خلال سنة ونصف السنة، وهو بعيد عن الحقيقة. فروسيا باقية ومتمركزة في طرطوس وفي قاعدتها الجوية في اللاذقية لحماية مصالحها ونفوذها أولاً وآخراً، وليس حباً بالأسد، بل لأنه يجسد لها خدمة هذه المصالح على حساب شعبه. فكيف بعد ذلك يتخلى بوتين عن الأسد؟ لكن السؤال على المدى الطويل هو: هل يدوم التحالف الروسي- الإيراني في سورية أم أنه يتحول تنافساً وصراعاً على الهيمنة؟ وهذا أمر من السابق لأوانه التطرق إليه، لأن الحرب في سورية لم تنته بعد على رغم كل ما يقال، والحلف الروسي- الإيراني ضرورة آنية للإثنين.
الحياة
بعد إهانة الأسد في حميميم: لن نغني لهم مجدداً/ بشار جابر
أثار المقطع المصور الذي أمسك فيه جندي روسي الرئيس السوري بشار الأسد، مانعاً إياه من مرافقة بوتين على السجادة الحمراء، إشكالاً وأزمة لدى الموالين في محافظة اللاذقية. المقطع المصور لم يظهر على القنوات المعارضة للنظام أو الحيادية، بل بثّه التلفزيون الروسي الذي يحظى بمتابعة كبيرة، ما جعل النظام في وضع حرجٍ جداً تستحيل فيه إخفاء المقطع أو حجبه عن الموالين.
قيادي في “حزب البعث”، قال لـ”المدن”: “الروس اهتموا بالزيارة جداً، ودعت محطة روسيا اليوم كل الفاعلين السياسيين في اللاذقية وطرطوس للحديث عنها في قناة روسيا اليوم، ومنحونا وقتاً طويلاً للحديث عن أهمية الزيارة، ولا يبدو الفيديو المنتشر ذا أهمية، فهو مجرد خطأ في تنظيم آليات بروتوكلات التشريف”.
وفي حين غلب الانكار والتقليل من أهمية الحادثة لدى مسؤولي النظام ورموزه، سرت موجة من الاحتقان بين الموالين، بعضها صب جام غضبه على الروس وقلة احترامهم للرئيس الأسد، وبعضها الآخر استعاد بفخر صورة حافظ الأسد، الذي كان “رجلاً حقيقياً” وما كان سيسمح لذلك بالحدوث معه.
في الأحاديث العامة، هاجم الجميع العسكري الروسي الذي لا يضع رُتباً، وكيف أمسك بالأسد من يده وأعاده للخلف، من دون أي تردد أو تفكير أو تقدير لشخص الرئيس. إلا أن الموالين، لطالما تهامسوا، في كل مرة يظهر الأسد فيها برفقة الروس، عن الانطباع الضعيف الذي يتركه وجه وجسد الرئيس السوري، وهذا ما لم يعتادوا عليه. فالأسد في التلفزيون الرسمي أو في ساحات المعارك والخطابات، يبدو قوياً واثقاً من نفسه، مستمتعاً بأصوات الموالين من حوله تهتف: “يا بشار ولا تهتم عندك ناس بتشرب دم”.
يد الجندي الروسي أكدت الانطباعات المخفية عن وضع الرئيس السوري الضعيف أمام العالم، وأمام الروس تحديداً، ما جعل الموالين بلا مهرب من مواجهتها.
أبناء جيل الستينيات والخمسينيات من العسكريين المتقاعدين استعادوا ذكرى الرئيس الراحل حافظ الأسد، بكثير من الحنين. فحافظ برأيهم لم يكن ليسمح أبداً بموقف ذليل كهذا. هذه الحادثة دفعت لاستعادة قصص خيالية عن كرامة حافظ الأسد وهيبته. ومعظم القصص المستعادة مختلق، لكن انقاذ النظام بدا واجباً حتى ولو بالمرويات الشفوية، الأسطورية الحميمة، تجاه الأسد الأب.
فهل تعوّض هذه القصص عن المصيبة التي رآها الجميع؟ لا يبدو ذلك ممكناً، فالشعور العام العلوي، أخرج للعلن، وللمرة الأولى، فكرة أن الروس مجرد مُحتّلين، وإن كانوا حلفاء. البعض من الموالين يقول إن ما حصل جيد، فهو للمرة الأولى شاهد بأم عينه السيد يُهان. سيدهم المحبوب، الوحيد التائه في حميميم، بين كبار الضباط الروس، بدا مهاناً من عسكري روسي صغير. الموالون ضائعون تماماً، فحليفهم أصبح قاسياً على زعيمهم. وسرت شائعة بأن صور بوتين ستزال قريباً من اللاذقية.
وعلمت “المدن” من مصد موثوق من القصر الرئاسي، أن الأسد، وفي انتظاره وصول بوتين، حاول زيارة القاعدة العسكرية في حميميم، فلم يُسمح له، وسمح له فقط بالاطلاع على الجزء المدني منها. فالروس قسموا القاعدة إلى جزئين؛ عسكري ومدني. ويحوي القسم المدني كنيسة صغيرة وصالة رياضة ونشاطات اجتماعية وسياسية. ولم يُسمح للأسد بمعاينة القسم العسكري منها إلا حينما وصل بوتين. ولم يُسمح لمنظمي زيارات الأسد بالتنسيق مع الجهاز الأمني الروسي، ولا القيام بقواعد التشريفات. المصدر أكّد أن الأسد لم يستطع إقناع بوتين بتمديد فترة زيارته.
العلاقات القرابية لدى المجتمع العلوي في الساحل السوري، التي تتشابك مع المقربين من الرئيس وبطانته المقربة، ساهمت في أشاعة هذه المعلومات سريعاً. وفي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر انتقادٌ واسع للروس، وسط حالة نفور عامة لدى الموالين، واتهامات بأن الروس لا يُقدّرون رمز العلويين.
في الأحياء الشعبية العلوية، بدا التهكم أكثر حدّة، ودرجت نكتة سرعان ما انتشرت بقوة: “العسكري الروسي قال لبشار بالعربية: وين رايح حبيبي؟”.
امتعاض موالي النظام العلويين، جاء من فكرة مفادها: “ما بيعرف الجندي الروسي أنو هادا هو الرئيس تبعنا؟”. وانتشر جو من التهكم المرير، بعدما خلص الموالون إلى أن “الروس ليسوا أصدقاء، ويحاولون إهانة الأسد بهذه الطريقة”، أو أنهم “ليسوا حلفاء بالمعنى الحقيقي للكلمة”.
ما حدث مع بشار مُحرج جداً، وغير مفهوم، وفيه إهانة هائلة. العسكري الروسي أوقف حركة الأسد، والكاميرا لاحقت بوتين، وتركت الأسد في الخلفية. أحدهم قال: “هم احتلال، لكنه احتلال يحمينا.. لن نغني له ونمدحه بعد الآن”.
المدن
“النمر” في حميميم: روسيا تزكّي القيادة البديلة.. بالصورة/ نذير رضا
أعاد حضور العميد سهيل الحسن، المعروف بـ”النمر”، في اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع القادة العسكريين في حميميم، النظام السوري الى حقبة حافظ الاسد العسكرية، لناحية ترميز القادة العسكريين الميدانيين، مع فارق وحيد بين تجربتي الأسد الأب والابن، أن الأول كان يختصر حضور نظامه في المشهد الدولي، بينما يبدو “النمر” شريكاً للأسد، ومنافساً ميدانياً له، يتوسع حضوره من اطار الفيديوهات المحلية، الى الصورة الخارجية.
والنمر الذي بدا مرتبكاً في حضرة بوتين، صاغراً، ومستمعاً جيداً لا دور له بما يُحكى، أعطاه الرئيس الروسي في المشاركة في الاجتماع حجماً يتخطى توقعاته وأحلامه. فالحسن، هو سليل حقبة من الجنرالات التي تحكم ميدانياً، وتتحكم في اطار محلي، ولم تخرج الى الاعلام الا في صور رسمية، ولم تتصرف مع الكاميرا الا في اطار الشخصية التبعية لنظام يوفر لها الامتداد الشعبي المحلي الضيق جداً.
لكن الحسن، ولأول مرة في تجربة الجنرالات السورية منذ العام 1970، ينافس رأس النظام نفسه على الحضور في المشهد الدولي. وإذا كان الاعلام سيقدمه بوصفه حضوراً تكريمياً، فإن الواقع يوحي بعكس ذلك، كونه حضوراً تشاركياً مع النظام في حضرة بوتين، على الاقل في الجانب الميداني، وهو ما لم يكن مألوفاً في حقبة جنرالات الأسد الأب.
في الحقبة السابقة، بقيت مهام الجنرالات العسكرية والامنية، تحت مظلة الاسد الاب. بقي حضورهم الاعلامي بعد حرب تشرين في 1973 ، وخصوصاً الجنرالان مصطفى طلاس وحكمت الشهابي، ملتصقاً بالاسد وانجازاته. لم يخرج الضابطان الابرز في حقبة حافظ الأسد، من تلك المظلة الاعلامية والسياسية، ولم يستقلا بالصورة إلا حين توليا مناصب رسمية، مثل وزارة الدفاع (طلاس)، أو رئاسة الاركان (الشهابي).
يدرك بوتين تماما كيفية التعاطي الاعلامي مع خصوصية الشخصيات العسكرية السورية، تلك التي يجب أن تبقى محصورة في الجانب التبعي للنظام، أو الرسمي، أو المحلي في اطار ميداني محدود. لكن النمر، له خصوصية أخرى، بالنظر الى معيارين، أولهما أنه بات الشخصية العسكرية الأوسع انتشاراً، والاكثر حضوراً في الميادين العسكرية، والتي تحتكر “المهام الصعبة”، وثانيهما الحاجة الى قيادة رديفة، هي قيادة عسكرية تشد العصب الشعبي، بالنظر الى “مهام وانجازات” ليست محل انقسام، على الاقل في صفوف البيئة الموالية، وصفوف المحايدين “التواقين لمحاربة الارهاب”، وتشكل لبنة لجهود اعادة تشكيل “جيش وطني”.
يتشارك الروس والنظام السوري، النظرة الى القيادة البديلة، وهي العسكرية التي تتخطى الانقسامات. من هنا، جاء حضور “النمر” في الاجتماع العسكري، وظهوره اعلامياً في الموقع نفسه، رغم أن قائد القوات المسلحة الذي شارك في استعراض الجيش في قاعدة حميميم، لم يكن موجوداً في الاجتماع. منحه الأسد تزكية تحت عنوان “الضحية” حين قال ان الضابط الحسن لم يزر عائلته منذ سبع سنوات.
وإذا كان ذلك يمثل انقلاباً على استراتيجية الأسد الأب الذي أبعد الشخصيات العسكرية من الاعلام وأحجم عن اظهارها في صورة مستقلة عنه، فإنه يمثل استكمالاً للاستراتيجية الروسية بترميز بطل ميداني في الاعلام، يشبه القناص السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، أو رامي الدبابات في معركة ستالينغراد، أو الطيار الروسي الذي نفذ من الغارات الاميركية في فيتنام، كما يصوره فيلم وثائقي عرضته “روسيا اليوم” العام الماضي.
وعليه، نشأت في سوريا قيادتان مواليتان لروسيا. القيادة السياسية التي تتمثل بالاسد، والقيادة البديلة التي تتمثل بالجناح العسكري، أو النمر في سوريا. وهو ترميز للدفع به الى معارك أخرى، أصعب، بدأت مع الاعلان عن تكليفه بمعركة ريف حماه الشمالي الشرقي، وريف ادلب الشرقي.
المدن
السوبرمان بوتين يتفقد غنائم موسكو في الشرق الأوسط
رأي القدس
في قاعدة حميميم العسكرية كانت ثلاث ساعات هي كل ما احتاجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإيصال ما سعى إلى تثبيته من رسائل إلى ثلاث جهات على الأقل. فقد أبلغ مواطنيه الروس أولاً أنه، وقد أعلن ترشيح نفسه لدورة رئاسية رابعة تطيل حقبة هيمنته في روسيا إلى 24 سنة، الأجدر بقيادة البلد، بدليل مغانم موسكو في سوريا، وتحقيق حلم القياصرة القديم في الوصول إلى شطآن المتوسط الدافئة. صحيح أنه ذرّ بعض الرماد في العيون حين أعلن بدء التحضير لسحب «معظم» القوات الروسية المنتشرة في سوريا، كما سبق له أن فعل في ربيع 2016، إلا أنه حرص على التذكير بأن موسكو باقية في قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية.
الرسالة الثانية تتوجه إلى العالم خارج روسيا، وإلى الولايات المتحدة بصفة خاصة، وإلى القوى العالمية والإقليمية الأخرى المعنية بالملف السوري، ابتداء من إيران وميليشياتها المختلفة، وليس انتهاء بالمملكة العربية السعودية واستثماراتها في صفوف فصائل المعارضة المسلحة. والرسالة بسيطة وقاطعة في آن معاً، مفادها أن روسيا باتت سيدة المشهد هنا، وهي التي تضع قواعد اللعبة السياسية بعد أن أرست قواعد الشطر العسكري من اللعبة و»أنجزت المهمة».
الرسالة الثالثة تخاطب الداخل السوري، معارضة وموالاة على حدّ سواء، وهي هنا أيضاً بسيطة وصريحة، مفادها أن موسكو وقد أنقذت النظام من السقوط عن طريق تدخل عسكري واسع النطاق يتواصل منذ 27 شهراً، فإنها فعلت ذلك لكي تضمن سقوطه تحت إمرة القيصر الروسي في المقام الأول. وهذه رسالة حملت طرائق إبلاغها مقداراً لافتاً من الجلافة والإذلال، فاستدعي رأس النظام إلى موسكو أو سوتشي أو حميميم عندما شاء سيد الكرملين، وأمكن لضابط مراسيم روسي عادي أن يهين بشار الأسد علانية وفي عقر داره وأمام أنصاره.
وحين تفاخر بوتين بدور الجيش الروسي في «هزيمة الإرهابيين»، فإنه تعامى عامداً عن حقيقة الدور الاهمّ الذي أنيط بالطائرات الحربية الروسية، أي قصف مواقع فصائل المعارضة المسلحة، وما أسفر عنه من مجازر دامية في صفوف المدنيين، واستهداف التجمعات السكانية والمشافي والأسواق الشعبية. كذلك توجب أن يغفل بوتين الإشارة إلى وجود آلاف المقاتلين الروس المتعاقدين مع أجهزة النظام المختلفة، خارج وزارة الدفاع الروسية وعبر شركة «فاغنر» التي تعتبر النظير الروسي للشركة الأمريكية «بلاك ووتر».
وبعد ساعات الصباح في حميميم، سافر بوتين إلى القاهرة ليقضي الظهيرة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فكان جمع غنائم موسكو الاقتصادية، وتوقيع اتفاقية المحطة النووية في مصر التي ستتولى تنفيذها مؤسسة «روس أتوم» الروسية، على رأس جدول الأعمال. وأما في فترة المساء فقد توجه بوتين، وقد صار أشبه بالسوبرمان الطائر، إلى أنقرة فالتقى بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان لإعادة التأكيد على دور أنقرة لتسهيل ما يسمى بـ»مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي. وهنا أيضاً تضمنت المغانم صفقة صواريخ إس ـ 400 وبناء محطة نووية واتفاقات ائتمان لصناعة الدفاع مع تركيا.
والأرجح بذلك أن مرشحي رئاسات العالم، أجمعين، يحسدون بوتين على هذا الطراز الاستثنائي من افتتاح الحملات الانتخابية!
القدس العربي
ما حقيقة الانسحاب الروسي من سوريا وسرّ الغياب الأمريكي؟/ عبدالله حاتم
فلاديمير بوتين بنفسه على الأراضي السورية، وصل إلى قاعدة حميميم التي منحها بشار الأسد لموسكو، ليعلن من هناك، الاثنين 11 ديسمبر 2017، انسحاب بلاده من سوريا.
انسحاب شكّك به كثيرون، على رأسهم الولايات المتحدة، وشبّهوه بتكرار سيناريو العام 2016؛ عندما أعلن بوتين بنفسه حينها سحب قواته، لكن بعدها زاد من وتيرة القصف على مواقع المعارضة السورية، لا سيما في حلب.
بوتين هدد من سمّاهم “الإرهابيين” قائلاً: “إذا رفع الإرهابيّون رأسهم من جديد، فسنوجه إليهم ضربات لم يروها من قبل”، مضيفاً: “لن ننسى أبداً الضحايا والخسائر التي تكبّدناها أثناء محاربة الإرهاب هنا في سوريا وفي روسيا أيضاً”.
وبالتزامن مع هذه الخطوة، أعلن وفد النظام السوري أنه لن يتابع مفاوضات جنيف مع المعارضة السورية، كما أبلغ المبعوث الأممي الخاص، ستافان دي مستورا، المعارضة بأنها لم تعد تملك أي دعم دولي حالياً، وهدد بأن فشل مفاوضات مؤتمر جنيف سيعني استبداله بالمؤتمر الذي تحضّر له روسيا في “سوتشي”، إلا أنه عاد واعتذر عن كلامه هذا.
ولم يوضح بوتين عدد الجنود الروس الذين سيبقون في سوريا، علماً أن وكالة الصحافة الفرنسية تشير إلى أن روسيا نشرت ما بين 4000 و5000 من قواتها في سوريا في العامين الأخيرين، وتشير الأرقام الرسمية إلى أن 40 منهم لقوا مصرعهم.
وتنقل وكالات الأنباء عن مصادر حقوقية أن القصف الروسي أدى خلال عامين إلى مقتل أكثر من 6300 مدني، منهم أكثر من 1500 طفل.
– غير واقعي
ورغم أن موسكو توحي بأن السلام في سوريا بات قاب قوسين أو أدنى، فإن المسؤولين الأمريكيين يشكّكون في تصوير الروس لهذا الأمر، حيث أكّدوا أن قوات النظام السوري أضعف من أن تستطيع حفظ الأمن في البلاد.
كما حذّر المسؤولون الأمريكيون، بحسب وسائل إعلام محلية، من أن “داعش وجماعات أخرى في سوريا لديها فرصة كبيرة في إعادة تنظيم صفوفها، خاصة إذا ظلّت المظالم السياسية التي تسبّبت في اندلاع الصراع دون حلّ”.
كذلك شكّكت واشنطن في صحة انسحاب روسيا، وقال الميجر بمشاة البحرية الأمريكية، أدريان رانكين جالاوي، وهو متحدث باسم وزارة الدفاع “البنتاغون”، بحسب “وكالة الأنباء الفرنسية”: إن “الولايات المتحدة لم تلحظ أي سحب كبير للقوات الروسية منذ إعلان بوتين”، مشيراً إلى أنه “لم يحدث خفض كبير في القوات المقاتلة في أعقاب الإعلانات الروسية السابقة بخصوص عمليات انسحاب مزمعة من سوريا”.
– تركيا تشكّك بنوايا الحليف
واشنطن ليست وحدها من شكّك بالخطوة الروسية، بل حتى تركيا -التي باتت في اليوم حليفة وطيدة لها- شكّكت أيضاً على لسان وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، الذي قال، الثلاثاء 13 ديسمبر: إن “خلق انطباع بأن روسيا تنسحب من سوريا هو أمر غير واقعي”.
وأشار إلى أن “روسيا سبق أن سحبت جنوداً من سوريا، لكن مع احتدام الاشتباكات أرسلت جنوداً بأعداد أكبر لاحقاً”، في إشارة إلى خطوتها المشابهة عام 2016.
الدكتور باسل الحاج جاسم، الخبير في الشؤون الدولية، والمراقب لمفاوضات أستانة، أوضح في حديث مع “الخليج أونلاين”، أنه من “الصعب الجزم بمدى التزام الروس بإعلانهم الانسحاب؛ لأنه لا أحد يعرف على وجه الدقة حجم القوات المتواجدة حالياً”، لافتاً إلى أن “الهدف من الإعلان هو لإبعاد صفة الاحتلال التي تتهم أطراف كثيرة روسيا بها”.
وأضاف: “أياً كان الإعلان، بما أن هناك قاعدتين عسكريتين روسيتين بشكل دائم، فحتى لو كان هناك انسحاب فعلاً فهذا لن يغيّر من حجم تواجدهم العسكري في سوريا”.
– مسار المفاوضات
وربط مراقبون بين هذه الخطوة وبين ما زعموا أنه “ضغوطات روسية” على النظام السوري للتفاوض بجدية في جنيف، فقد ذكر مركز “بيغن – السادات للدراسات الإسرائيلي”، أن “بوتين جاء خصيصاً ليبلغ الأسد أنه لم يعد ملتزماً بالدفاع عنه، بعد التطوّرات الأخيرة ورفضه حضور جنيف”.
وكان وفد النظام السوري قد عاد إلى جنيف، الاثنين، للاجتماع مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة، دي مستورا، حيث سبق أن غادرها بعد رفضه إجراء أي نقاش حول مستقبل الأسد، الأمر الذي دفع دي مستورا إلى تحذير وفد النظام من مغبّة أن يكون يعمل على تخريب العملية التفاوضية.
وفي إشارة إلى الضغوط التي تمارسها روسيا على النظام السوري، أكّد الرئيس الروسي، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في أنقرة، عقب لقائه الأسد في حميميم، أنه “يجب وضع دستور جديد لسوريا وتنظيم الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وتفعيل التسوية السياسية في سوريا في إطار جنيف وأستانة”، كاشفاً أنه “تحدّث مع الأسد اليوم للوصول إلى تسوية سياسية”.
لكن ما زال بعض المحللين يستبعدون فرضية أن يكون بوتين قد مارس ضغطاً على الأسد من أجل الدخول في مفاوضات جدية مع المعارضة، من بينهم الدكتور باسل حاج جاسم، الذي أوضح أن الخطوة الروسية في سوريا لن يكون لها أي تاثير، لا على مفاوضات جنيف ولا مفاوضات أستانة”.
وبيّن في حديثه لـ “الخليج أونلاين” أن “روسيا اليوم هي صاحبة الكلمة الأعلى داخل الساحة السورية، وأما مدى صحة الأخبار حول ما يتداول من إبلاغ بوتين الأسد فالأيام وحدها كفيلة لكشف صحة ذلك أو عدمه”.
وفي هذا السياق، يشير الحاج جاسم إلى أن “القضية السورية سيحسمها من سيملك كلمة على الأرض، وصاحب المدفع الأكبر، والواضح أن موسكو ترغب بإشراك أطراف أخرى معها في حمل (المعضلة السورية)”، كما قال.
– أين واشنطن؟
من جهة ثانية يلاحظ المتابع أنه رغم الخطوات الاستراتيجية التي تقوم بها في روسيا، تبدو واشنطن متفرجة وتكتفي بالتصريحات المكررة، والتي تقلل من الخطوات الروسية، لكن التصريحات تتضمن إيحاء بأن واشنطن سلمت ببقاء بشار الأسد في السلطة، على الأقل حتى عام 2021، بحسب محللين
كما أصبحت الولايات المتحدة منعزلة عن الجهود الثلاثية؛ الروسية – التركية – الإيرانية، التي تدير مناطق خفض التوتر في سوريا.
صحيح أن الخارجية الأمريكية أكدت، الثلاثاء 13 ديسمبر، أن القوات الأمريكية لا علاقة لها ببقاء أو انسحاب القوات الروسية من البلاد، وستبقى في سوريا “حتى عودة الاستقرار”، لكن في نفس الوقت أكدت أن “بقاء الأسد أو رحيله لا تقرره الولايات المتحدة؛ بل الشعب السوري”، في تحول لافت بعد أن كانت تشدد على أن الأسد لا مستقبل له في سوريا، فهل باتت غائبة عما يدور هناك.
باسل الحاج جاسم أجاب أنه من الخطأ القول إن الولايات المتحدة غائبة عن سوريا، موضحاً أن “واشنطن موجودة، وإنما لأسباب لا علاقة لسوريا والسوريين بها، بل لدعم مشروعها القديم المتجدد الفوضى الخلاقة”، كما قال.
ولفت إلى أن “العالم كله يعرف أن واشنطن لم تقدم أي شيء لعملية جنيف سوى الضغط على المعارضة لإدخال أطراف انفصالية إليها، وأستانة التي اجتمع فيها أصحاب الكلمة الحقيقية في الساحة السورية فضّلت أمريكا أخذ دور المراقب فيها”.
ماذا لو خرج الروس من سوريا؟/ عبد الرحمن الراشد
على افتراض أن ما صدر من موسكو عن عزمها سحب معظم قواتها من سوريا بالفعل صحيح، فإن ذلك سيخلط الأوراق من جديد في هذا البلد الذي يبدو على طريق الخروج من الحرب.
المفارقة أن دخول الروس كان له دور سلبي مكّن كلاً من نظام الأسد وإيران من السيطرة، بعد أن فشلا قبل ذلك في الانتصار على قوى الثورة ومع الجماعات الإرهابية. والآن للروس دور «إيجابي» في تحقيق التوازن بين القوى، وتحديداً تقييد نشاط إيران وميليشياتها على الأرض.
ووفق وكالة الأنباء الروسية، فإن الرئيس فلاديمير بوتين تحدث بوضوح قائلاً: «لقد اتخذت قراراً بسحب جزء كبير من الفرقة الروسية الموجودة في سوريا، وعودتها إلى موطنها في روسيا».
وسواء خرج الروس، أو قلّصوا وجودهم، سيتقلّص معه نفوذهم، وهنا فإن الاحتمال الأكثر حدوثاً، أن ذلك سيكون لصالح الإيرانيين. نظام خامنئي يقاتل من أجل السيطرة شبه الكاملة على سوريا، باستثناء مناطق كردية أو مجاورة لتركيا. انتشاره يمكن تتبعه من مراكز ميليشياته، من الحدود السورية مع العراق ولبنان والأردن، وبالطبع في دمشق.
ليس واضحاً دوافع روسيا للإعلان عن الانسحاب الجزئي، هل هو نتيجة خلافات مع الإيرانيين على السيطرة وإدارة الوضع على الأرض، أم أنه جزء من التهدئة مع الولايات المتحدة الموجودة بقوات أصغر حجماً في سوريا أيضاً؟
من الطبيعي أن يختلف حلفاء الأسد فيما بينهم على ما بعد الحرب، فالإيرانيون يريدون السيطرة للهيمنة، وضمن تحديهم للولايات المتحدة والضغط عليها. أما بالنسبة للروس، فهم يريدون خلق توازن أيضاً مع الولايات المتحدة في عدد من مناطق النزاع في العالم. وهي حسابات لا يمكن أن تتطابق بين الروس والإيرانيين إلا بشكل مؤقت، كما كان الحال عليه خلال الحرب. كلا البلدين دخل سوريا بدعوى محاربة الإرهاب؛ لكن المعارك التي خاضتها قواتهما كانت موجهة للمعارضة السورية المسلحة. التحالف الذي قادته الولايات المتحدة وحده من ركز على محاربة «داعش».
ليس لموسكو مصلحة في أن تقوم بحماية ودعم القوات الإيرانية، التي تتشكل من عشرات الآلاف من أفراد ميليشيات من جنسيات متعددة جلبتهم إيران من دول مختلفة. ما المقابل الذي تعطيه إيران للروس لقاء هذه الخدمة العسكرية؟ فعلياً لا يوجد.
ولكن تقليص وجود روسيا عسكرياً سيضعف النظام السوري والميليشيات الإيرانية، فهل الكرملين يرغب في التخلي عن حليفه السوري والتضحية بكل ما فعله من أجله؟
كل ذلك سيعتمد على خطة إقليمية وأميركية، إن وجدت، في مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا نفسها. إن كان هناك شعور بالخطر من التمدد الإيراني، ورغبة في مواجهته، فإن سوريا هي التربة المتحركة المناسبة لتحويلها إلى مصيدة للحرس الثوري الإيراني. لن تستطيع ميليشيات إيران أن تستقر في بيئة معادية، خاصة إن لم تنجح مفاوضات السلام، فالمفاوضات لن تنجح طالما أن الأسد ومعه إيران يعرقلان أي حل يجمع النظام مع المعارضة في حكومة.
انسحاب الروس جزئياً، وفشل المفاوضات الأخيرة في جنيف، يمكن تطويرهما ليصبحا عاملين ضاغطين على نظام الأسد وإيران؛ لإعادة التفكير وتقديم تنازلات واقعية.
الشرق الأوسط
المرشح بوتين في حميميم/ بسام مقداد
المرشح بوتين للرئاسة الخامسة لروسيا بحاجة هذه الأيام لكل انتصار، ليس خوفاً من فشل في الإنتخابات القادمة أمام لا أحد،عملياً حتى الآن، بل سعياً وراء أوسع مشاركة ممكنة والحصول على معدل قياسي من أصوات الناخبين. بعض المتابعين للشأن الروسي يؤكد أن رئاسة بوتين الخامسة سوف تكون الأخيرة ، ولذلك يريد أن يغادر الكرملين، إذا صح هذا التوقع، مكللاً بأعلى نسبة حضور وأصوات ، بعد أن يكون قد أمضى ربع قرن رئيساً لروسيا، مرت أربع سنوات منها في كرسي رئاسة الوزراء، كلف خلالها ديمتري ميدفيديف حراسة كرسي الرئاسة ، ريثما يعود إليها .
ولا يتوانى بوتين عن القيام باية مسرحية SHOW في سبيل ذلك ، وهو بدأ إعلان ترشحه بمسرحية مماثلة . فقد أعلن ترشحه خلال لقاء مع عمال أحد مصانع السيارات ، بعد أن تمنى عليه أحد العاملين أن يتكرم عليهم ويقدم لهم ترشيحه هدية . وتكرم عليهم بوتين وأهداهم ترشيحه ، مما دفع “در شبيغل” الألمانية للقول ، بأن ثمة تقليداً في المجتمعات التسلطية يقضي بسعي الحاكم لكي يتمنى عليه الشعب بأن يتولى زمام الحكم . فكأن الحاكم في هذه المجتمعات يقول ، بأنه لا يسعى إلى السلطة ، بل هو يريد فقط خدمة رعيته ، مهما كان الأمر صعباً بالنسبة له .
ولم تكن الزيارة الخاطفة، التي قام بها بوتين الإثنين إلى الشرق الأوسط ، سوى في السياق الدعائي الإنتخابي عينه . فقد كتبت صحيفة “vedomosti” المستقلة ، معلقة على زيارة قاعدة حميميم ، تقول بأن بوتين يتقدم إلى الإنتخابات كرجل سلام ، وأن سحب القوات من سوريا يجب أن ينال إعجاب الناخبين الروس . وتنقل الصحيفة عن المستشرق ألكسندر شوميلين قوله، بأن الإعلان عن هزيمة “داعش” الكاملة ، هو إعلان متسرع ، إذ أنها ستستمر بالتواجد على شكل بؤر . وإعلان بوتين مهم من الناحية الإنتخابية لا غير ، وموسكو تراهن على الحل الدبلوماسي، وهي، بإعلانها هذا، إنما تقوم بإرسال إشارة إلى الأسد ، بأن عليه أن يكون أقل تصلباً .
ويضيف شوميلين قائلاً، بأن التناقضات بين روسيا وتركيا وإيران لم تغب عن الساحة : بين روسيا وتركيا هي مشكلة الأكراد ، وبين روسيا وإيران هي مسألة انسحاب روسيا الفعلي من سوريا . فإذا كان بوتين يريد “انسحاباً جميلاً” من سوريا هو بحاجة إليه في مؤتمره الصحافي السنوي في 14 من الجاري، فإن الإيرانيين لا يزمعون الإنسحاب من هناك أبداً، بل ويعتبرون الإنسحاب “خيانة ” .
وتنقل الصحيفة عن عالم سياسي روسي آخر قوله ، أن موضوع النصر في سوريا يمكن أن يستخدمه بوتين خلال الحملة الإنتخابية القادمة ، إذ بوسعه أن يصور نفسه منتصراً جدد القوات المسلحة الروسية ، واكتسب جميع الضباط الروس ن عملياً ، خبرة عسكرية فعلية . ويؤكد على قول هذا العالم السياسي مدير مركز ليفادا لدراسة الرأي العام ، إذ يقول أن من المهم بالنسبة لبوتين أن يظهر بصورة رجل السلام ، لأن الروس ينتظرون ذلك ، ولا يفهمون معنى العملية في سوريا وكانوا يتخوفون من أفغانستان ثانية ويتوقعون “الإنتهاء من سوريا”. وجاء إعلان بوتين بمثابة الإستجابة لهذه التوقعات .
وترى صحيفة “nezavisimaya” أن بوتين جاء إلى الشرق الأوسط، ليستفيد من مبادرة ترامب بشأن القدس ، وليعلن أن موسكو مستعدة للحلول مكان الولايات المتحدة في المنطقة. وترى الصحيفة أن بقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا ، هو أحد أهم انتصارات بوتين في السياسة الخارجية .
وقد أسهبت معظم المواقع الروسية في الحديث عن تفاصيل ” الرحلة السريعة” ، وكيف أن طائرة بوتين أقلعت في الثامنة صباحاً ، ولم تعد سوى في وقت متأخر بعد منتصف الليل . ونقل أحدها عن النائب الأول لرئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس الإتحاد فرانتس كلينتسييفتش قوله ، بأن “ما يقوم به بوتين لا يستطيع القيام به أي رئيس آخر” . وقال هذا السيناتور ، بأن الرئيس الروسي جاء شخصياً إلى قاعدة حميميم ليصدر الأمر بعودة العسكريين إلى روسيا. ورأى أن بوتين كان يزور دوماً مواقع العمليات الحربية في الشيشان وداغستان، وسواها من المواقع الساخنة . وقال، أن من المتعارف عليه منذ زمن بعيد ، “أن الرئيس لا يخاف” ، ومجيؤه إلى قاعدة حميميم يتناسب تماماً مع أسلوب رئيس “هو ضابط روسي” .
وتؤكد صحيفة الكرملين “vzgliad” على شجاعة بوتين هذه ، وتقول ، بأن لا ترامب ولا ماكرون ولا سلمان آل سعود لم يأتوا إلى سوريا ، في حين أن بوتين قد فعل ذلك . وتقول الصحيفة في مجرى تعدادها لمكونات “النصر السوري” ، بأن بقاء الأسد هو النتيجة الرئيسية للحرب ، وهو البرهان على الدور الحاسم ، الذي لعبه السلاح الروس . فلا الإتفاقات الدولية ، ولا التزامات الشراكة تمكنت هذه المرة من تشويه النجاح ، الذي تحقق، وبقيت سوريا ، كساحة للمعركة ، موالية للروس، وعززت روسيا بشدة دورها في الشرق الأوسط ، الأمر الذي يعزز موقعها في سوق النفط والغاز، خاصة بعد أن يستعيد الإقتصاد السوري عافيته.
وعن الإنسحاب نفسه ، ينقل موقع الهولدنغ الإعلامي RBK عن مصدر في وزارة الدفاع الروسية قوله، بأنه سيتم سحب ثلثي عدد القوات والتقنيات من سوريا . لكن هذه القوات لن تنسحب إلى روسيا ، بل للمشاركة في حروب السودان ، وقد يكون في اليمن أيضاً ، كما يؤكد البروفسور في معهد الدبلوماسية الروسية ، فاليري سالافي . ويرى هذا البروفسور، أن روسيا بلد فقير لا يتحمل أعباء أكثر من حرب ، على أن المشاركة المحتملة في حروب السودان واليمن ، لن يتم الإعلان عنها ، كما كانت الحال في سوريا ، بل سيجري التكتم عليها، كما يجري الآن في ليبيا. فالروس لم يفهموا حتى الآن العملية الروسية في سوريا، حتى وإن تم تبريرها بوجود مسيحيين أرثوذوكس فيها ، وبالتالي لن يتمكن الكرملين من تسويق مشاركة محتملة لروسيا في السودان واليمن .
ويرى سالافي أن الوضع في روسيا اليوم يشبه الوضع ، الذي كانت عليه روسيا أواخر ايام الإتحاد السوفياتي قبل سقوطه . ويقول في مقابلة مع إذاعة “صدى موسكو” المستقلة ، أن من الواضح أن ثمة مرحلة قد انتهت ، ولا بد من بزوغ مرحلة جديدة ما لا أحد يعرف كيف ستكون عليه ،لأن المجتمع الروسي يعاني من انسداد كبير ، وتزداد عدوانيته وتهدد بالإنفجار في كل لحظة . وإذا كانت مرحلة الإنسداد ، الذي عانى منها المجتمع الروسي بعد احتجاجات العامين 2011 ـــ 2012 ، قد أمكن استيعابه باحتلال القرم لاحقاً ، فمن الوضح أن سوريا لم تتمكن من استيعاب ما يعانيه المجتمع الروسي من انسداد حالي . لكن من المؤكد بالنسبة له ، أن مرحلة بوتين قد انتهت ، وان رئاسته القادمة سوف تكون الرئاسة الأخيرة .
المدن
مسار جنيف السوري في مهب رياح “سوتشي”/ محمد أمين
يتجه مسار جنيف التفاوضي بين المعارضة السورية والنظام نحو التأزيم والتعقيد، إذ بات من الواضح أنه وصل إلى باب مسدود، في ظل رفض النظام الانخراط في تفاوض جدي، فهو يرى نفسه منتصراً ومن حقه إملاء ما يريد على المعارضة التي تتسلح بقرارات دولية متعددة، لا يبدو أن المجتمع الدولي معني بتنفيذها، خصوصاً أن سورية باتت “محمية” روسية، وورقة مساومة بين موسكو والغرب حول ملفات أخرى. وبعد عدة جولات من مفاوضات جنيف، تبيّن للمعارضة السورية، أن هذه المفاوضات باتت “عبثية” و”ملهاة” على حساب دماء السوريين، إذ تؤكد مصادر مواكبة للمفاوضات أن المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، لجأ إلى تهديد المعارضة بشكل واضح، بل هددها بنقل الاهتمام السياسي والإعلامي إلى مؤتمر سوتشي لـ”الحوار السوري” الذي تستعد روسيا لعقده العام المقبل.
وقالت مصادر إعلامية مواكبة للجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، إن دي ميستورا أبلغ وفد المعارضة السورية، أول من أمس، أن تغيير بشار الأسد يتم عبر الانتخابات، مشيرة، لـ”العربي الجديد”، إلى أن دي ميستورا أبلغ الوفد أيضاً رفض وفد النظام إجراء مفاوضات مباشرة. وبذلك فقدت المفاوضات أهميتها بالنسبة إلى المعارضة التي تتمسك ببيان “جنيف 1” والقرارين 2218 و2254، وكلها تدعو إلى انتقال سياسي في البلاد، إذ يبدو أن المبعوث الأممي يسعى إلى تأجيل التفاوض حوله. كما أشارت المصادر إلى أن دي ميستورا نقل لوفد المعارضة أنها لم تعد تحظى بدعم دولي، وأن تركيا تدعم مؤتمر سوتشي المقرر عقده بدايات العام المقبل، فيما شدد وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أمس الثلاثاء، على عدم وجود أي تغير في موقف تركيا من موضوع الأسد. وقال “من المهم في هذه النقطة، توصل النظام ومجموعات المعارضة إلى وفاق حول الحكومة الانتقالية، وموقفنا في هذا الموضوع واضح”، مضيفاً “نعتقد أن الأسد لن يتمكن من توحيد سورية، حتى لو تشكلت حكومة انتقالية، بل على العكس سيفتتها”. وأعرب عن اعتقاده أنه لا يمكن التحضير بشفافية لانتخابات نزيهة في سورية مع حكومة انتقالية بوجود الأسد. كما أن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون شدد، بحسب مسؤول أميركي، على أن الأسد “وحش” ولا مكان له في مستقبل سورية.
من جانبه، قال عضو وفد المعارضة أحمد العسراوي، لـ”العربي الجديد”، إن دي ميستورا قال إن “الدستور والانتخابات مقدمات التغيير”، معتبراً أن ما نقلته وسائل إعلام عن هذا الأمر “ليس دقيقاً”، مضيفاً “لن نأخذ ما قاله المبعوث الأممي بمنحى سلبي حتى اللحظة”. وأشار العسراوي إلى أن ما طلبه وفد النظام عن عدم ذكر مصير بشار الأسد خلال التفاوض “هو شرط مسبق”، مضيفاً “يجب أن يطرح كل شيء على طاولة التفاوض”، مؤكداً أن الحديث عن دستور أو انتخابات يجب أن يأتي في سياق الانتقال السياسي. وأشار إلى أن العملية الدستورية تتضمن جانبين، الأول هو إعلان دستوري ينظم المرحلة الانتقالية، والثاني دستور دائم للبلاد تضعه جمعية يجب أن نحدد مبادئها خلال التفاوض، رابطاً التفاوض حول العملية الدستورية والانتخابات بعملية الانتقال السياسي.
وأكدت مصادر مواكبة للمفاوضات، أن المبعوث الأممي طلب من المعارضة السورية تأجيل النقاش بالانتقال السياسي والبدء بالتفاوض حول العملية الدستورية من أجل تحقيق تقدم، مشيرة إلى أن المعارضة كانت واضحة بالتمسك بالقرارات الدولية التي تدعو إلى إنجاز انتقال سياسي يقوم على هيئة حكم مشتركة كاملة الصلاحيات، وأن التفاوض حول الدستور والانتخابات قبل الانتقال السياسي بمثابة وضع العربة أمام الحصان. وأوضحت المصادر أن وفد النظام عاد للتشكيك بوفد المعارضة لجهة تمثيله لكل تيارات المعارضة السورية، مطالباً بدعوة ما يسميه بـ”معارضة الداخل” إلى مفاوضات جنيف، في إشارة إلى أحزاب تُوصف بـ”الكرتونية” شكلتها أجهزة النظام الأمنية. كما يطالب وفد النظام بـ”سحب” بيان “الرياض 2” الذي صدر أخيراً، وأثار حفيظة النظام بسبب مطالبة المعارضة فيه برحيل الأسد عن السلطة مع بداية المرحلة الانتقالية. وأشارت المصادر إلى أن المبعوث الأممي فشل بالضغط على وفد النظام، فلجأ إلى ممارسة ضغوط “كبرى” على وفد المعارضة والتهديد بتوجيه الاهتمام إلى مؤتمر سوتشي. وذكرت، أن دي ميستورا قال للوفدين، إنه سيلجأ إلى مجلس الأمن الدولي لوضعه في صورة ما جرى، خصوصاً عدم تقديم الوفدين ما يساعد في نجاح المفاوضات.
وأشارت مصادر مطلعة، لـ”العربي الجديد”، إلى أن المبعوث الأممي “ربما يعلن فشل مفاوضات جنيف أو تجميدها في الوقت الراهن”. وفي السياق، نقلت وكالة “الأناضول” التركية عن “مصادر موثوقة واسعة الاطلاع على المفاوضات في جنيف 8” إن دي ميستورا طلب من وفد المعارضة أن يكون “واقعياً”، معتبراً أن المعارضة فقدت الدعم الدولي. وأضافت، بحسب المعلومات المتوافرة من تلك المصادر، أن “اجتماع الإثنين بين دي ميستورا وفريقه مع المعارضة، كان سيئاً بالنسبة للأخيرة، حيث تحامل دي ميستورا على المعارضة، مطالباً إياها بأن تكون واقعية أكثر، وتتعامل وفق ذلك مع المعطيات”. ونقلت عن المصادر ذاتها، إن المبعوث الأممي اعتبر أن المعارضة “فقدت دعمها الدولي”، وأنها إذا شاركت في مؤتمر سوتشي من دون تحقيق تقدم في سلة الدستور في اجتماعات جنيف الحالية، فإنها “ستتلاشى وتضيع هناك”، وسيكون سوتشي بديلاً لجنيف. ولفتت المصادر ذاتها إلى أن دي ميستورا اعتبر أن “المعارضة تحلل القرار الدولي 2254 وبيان جنيف 1 (2012) بشكل خاطئ، وتدلي بتصريحات ترفع من سقفها دون أساس واقعي”.
من جهته، اعتبر المتحدث باسم الوفد التفاوضي المعارض في جنيف، يحيى العريضي، أن ما تتناقله وسائل الإعلام “لا يقدم ولا يؤخر”، مضيفاً، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “هذه تكتيكات في استراتيجية مفاوضات نفهمها تماماً ونستوعبها ولا يمكن أن يهزنا شيء”. وأضاف أن “وفد المعارضة لديه إطار القرارات الدولية، خصوصاً 2254، والذي من خلاله يمكن مناقشة تلك الأعمدة والعناصر الأساسية المشكلة لعملية الانتقال السياسي، ولا أحد يستطيع أن يتهرب من هذه المعايير والقرارات، ودور الوسيط الدولي عملياً هو دور ميسر ومسهل للعملية، وليس لإصدار أحكام ليست من حقه”. وقالت مصادر مطلعة، لـ”العربي الجديد”، إن وفد النظام رفض مناقشة أسئلة المبعوث الأممي الـ 12 في ورقة المبادئ المتعلقة بمستقبل سورية السياسي، كما رفض التطرق إلى موضوع المعتقلين، والمناطق المحاصرة كما ينص القرار الدولي 2254.
ومن الواضح أن مسار جنيف بات برمته في “مهب رياح” مؤتمر سوتشي، الذي تسعى روسيا إلى أن يكون بديلاً عن مسار جنيف، لأنها تستطيع فرض ما عجزت عن فرضه في مفاوضات جنيف، إذ لن يكون هناك تفاوض في سوتشي بل استعراض سياسي لا أكثر. وهذا ما يفسر عدم انخراط النظام في مفاوضات جادة، ومتابعة أسلوبه في تبديد الوقت بقضايا على هامش التفاوض، إذ لم تمارس موسكو ضغطاً على النظام من أجل تسيير التفاوض للتوصل لحل سياسي بات بعيد المنال في الوقت الراهن. ويبدو أن القضية السورية بدأت تتجه إلى مستويات جديدة، إثر اصطفافات إقليمية ودولية تدفع إلى حلول لا تلبي الحد الأدنى من مطالب المعارضة السورية التي تبدو أنها باتت بلا نصير حقيقي في ظل عدم اكتراث أميركي بالضغط الكافي والقادر على تغيير دفة الصراع بشكل كبير.
وليس من المتوقع أن يحصل اختراق في “جنيف 8″، إذ تتمسك المعارضة بالقرارات الدولية، في وقت يلعب النظام دور “المنتصر”، رغم أن نصره الإعلامي جاء بسبب الطيران الروسي والمليشيات الإيرانية التي تسيطر على أماكن سيطرة النظام وتفرض مشيئتها بشكل كامل. وبدأت وسائل إعلام تابعة للنظام الترويج لفكرة أن عملية جنيف “بحاجة إلى مراجعة” وأن القرار الأممي 2254 “أصبح ضيقاً جداً، ولا يناسب الوقائع العسكرية والسياسية الجديدة”، في مؤشر على أن العملية السياسية برمتها باتت خارج حسابات النظام. وذهب إعلام النظام أبعد من ذلك من خلال مطالبة عودة قوات النظام إلى مناطق خفض التصعيد الأربع التي تسيطر عليها المعارضة في جنوب وشمال غرب ووسط سورية. ولا تبدو المعارضة في وضع يساعدها على تحقيق مطالب الشارع السوري المعارض عبر المفاوضات في جنيف، وهو ما سيدفعها للجوء إلى خيارات أخرى. وقال مصدر في وفد المعارضة السورية، لـ”العربي الجديد”، نعلم أن النظام غير جاد في المفاوضات، وأنه يريد كل شيء، ولكن جبهة جنيف على مساوئها أفضل لنا من جبهات أخرى.
العربي الجديد
محادثات جنيف السورية تواجه محاولات نقل المرجعية إلى سوتشي/ محمد أمين
تتواصل المرحلة الثانية من الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف بين وفدي المعارضة السورية والنظام من دون مبرر لاستمرارها، بعدما عطّلها النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون، لأنه يقوم على تنفيذ قرارات دولية تدعو إلى انتقال سياسي، يرى فيه النظام تهديداً لوجوده، ومقدمة لخروج رأسه بشار الأسد من السلطة. وبات من الواضح أن الجانب الروسي لم يضغط على النظام من أجل الانخراط في العملية التفاوضية في جنيف، في مسعى واضح لتحويل الاهتمام والأنظار إلى مؤتمر تحضّر له موسكو، في بدايات العام المقبل، من المقرر عقده في سوتشي، وتطمح أن يكون تتويجاً سياسياً لهيمنة روسية كاملة على سورية.
واعترفت وسائل إعلام تابعة للنظام، أنّ وفد الأخير لم يدخل في المفاوضات في جنيف، حيث لا يزال يحاول دفع المعارضة إلى تقديم تنازلات مؤلمة، تؤكّد مصادر في هذه المعارضة، أنها لن تقدم عليها، وأنّ أي حل يجب أن ينهض على قرارات الشرعية الدولية التي تدعو إلى انتقال سياسي يجب ألّا يكون الأسد جزءاً منه.
وأكدت مصادر مطلعة ومواكبة للجولة الثامنة من المفاوضات لـ”العربي الجديد” أن النظام “وضع حائطاً أمام المفاوضات، وقال للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، بشكل واضح إنه لا يعترف بوفد المعارضة الموحّد المفاوض في جنيف، مطالباً بدعوة ما يُسميه بـ”معارضة الداخل” التي تدور في فلكه، إلى المفاوضات، وهو ما يعتبر “مهزلة”، وفق المصادر. وأوضحت المصادر نفسها، أنّ وفد النظام يطالب بتعديل بيان الرياض2 الذي أصدرته المعارضة السورية، أواخر الشهر الفائت، في ختام اجتماعات لها في العاصمة السعودية، تمخضت عن هيئة تفاوض جديدة تضم كل منصات المعارضة، بحيث يتم حذف كل ما ورد في البيان يتعلق برأس النظام بشار الأسد.
وكانت المعارضة السورية شدّدت في “الرياض2″ على أنه لا وجود لبشار الأسد و”زمرته” في السلطة مع بداية المرحلة الانتقالية، في حين كان النظام ينتظر من المعارضة بياناً مهادناً معتمداً على تغيّر في المزاجين الإقليمي والدولي حيال القضية السورية. وأوضحت المصادر، أنه بات واضحاً أن وفد النظام “يريد إطلاق رصاصة أخيرة على مسار جنيف برفضه الانخراط بالمفاوضات”، مشيرةً إلى أنّ رئيس الوفد، بشار الجعفري، رفض كل طروحات المبعوث الأممي، مصراً على مناقشة السلة الرابعة وهي المتعلقة بالإرهاب، ورافضاً أيضاً التطرّق إلى الحكم والدستور والإرهاب، “وبذلك يمكن القول إن نتيجة جنيف8 صفر، كما حال الجولات الفائتة”. وأشارت المصادر إلى أنّ التشاؤم “سيّد الموقف في جنيف”، موضحةً أنّ المبعوث الأممي سيطلع مجلس الأمن، مساء اليوم الخميس، على نتائج الجولة، متوقعة أن يطلق “مواقف حادة”، وأن يبيّن للمجلس فشل مساعيه في تجسير الهوّة بين وفدي المعارضة والنظام.
من جانبه، قال عضو وفد المعارضة السورية، أحمد العسراوي، في حديث مع “العربي الجديد”، إن اجتماع وفد المعارضة السورية مع المبعوث الأممي الثلاثاء “كان فيه الكثير من الدقة، إذ إنه تمّ التوافق على متابعة المفاوضات حول الدخول بشكل جدي في العملية السياسية ومناقشة هيئة الحكم الانتقالي خلال لقاءات الأربعاء والخميس”. وأشار العسراوي إلى أنّ دي ميستورا “لم يقل لنا أن وفد النظام رفض التفاوض في السلات الثلاث (الحكم والدستور والانتخابات)، ولكن من الواضح أن هذا الوفد ليس في وارد التفاوض في هذه السلال”. كلام يناقض إعلان كل من المتحدث الرسمي باسم الهيئة، يحيى العريضي، والمسؤول الإعلامي للائتلاف الوطني، أحمد رمضان، حول تلقيهم رسمياً من دي ميستورا رد النظام الرافض لأي تفاوض خارج بند مكافحة الإرهاب.
ولفت العسراوي إلى أنّ المبعوث الأممي “لا يدفع باتجاه سوتشي”، قائلاً “ليس هناك قرار أممي واضح حول هذه القضية. مؤتمر سوتشي بحاجة لدراسة وخصوصاً حيال مكوناته، وجدول أعماله، ومخرجاته”. وشدد على أن موقف المعارضة “مع جنيف وليس مع سوتشي أو أستانة”، مضيفاً “جنيف هي المكان الأساسي لإنتاج الحل السياسي”. ونفى العسراوي وجود أي خلافات داخل وفد المعارضة كما تروّج وسائل إعلام النظام، مؤكداً أنّ “هناك انسجاماً تاماً بين أعضاء الوفد جميعاً، وضمن أعضاء هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية”.
وأبرزت وسائل إعلام النظام، أمس الأربعاء، ما قاله المبعوث الأممي لوفد المعارضة من أنه “لم يعد هناك دولة في العالم تريد مساندتكم، وإن دولاً من بينها إيران وتركيا باتت تدعم مسار سوتشي”. ونقلت صحيفة “الوطن” عن مصدر في النظام أن وفد الأخير “أبلغ دي ميستورا في اللقاء الذي عقد الإثنين أن القراءة الاستنسابية للقرار 2254، غير مقبولة بتاتاً”، مشيراً إلى أنّ رئيس الوفد، بشار الجعفري، قال: إن دمشق ليست بوارد البحث في تسليم السلطة في جنيف، كما أن دمشق لن تناقش مصير الرئيس الأسد الذي يحدده الشعب السوري حصراً، رافضاً الدخول في أي عملية تفاوض مع وفد المعارضة بعد بيانهم في “الرياض2” الذي “يفرض شروطاً مسبقة ويتضمن ألفاظاً نابية بحق الدولة السورية”، وفق ما نقلته الصحيفة عن المصدر.
وكشفت “الوطن” أن وفد النظام “لم يدخل في أي مفاوضات مع دي ميستورا خلال اليومين الماضيين، بل عاد وأكد ضرورة أن يلتزم المبعوث الأممي بدوره كوسيط وميسّر للمفاوضات، وليس من حقه طرح أفكار”، مشيرةً إلى أنّ وفد النظام “رفض البحث في ورقة دي ميستورا التي قدمها، منذ أسبوعين، والتي لا تستند إلى أي عملية تفاوض، بل كانت بمبادرة من دي ميستورا”، وفق الصحيفة. وكان المبعوث الأممي قدّم في بداية الجولة الثامنة 12 سؤالاً للمعارضة والنظام حول مبادئ تتعلّق بمستقبل البلاد، إذ قدمت المعارضة أجوبتها ورفض النظام التعامل معها.
ولم يعد خافياً أنّ النظام يريد تحويل الزخم السياسي والإعلامي إلى مسار بديل، وهو مؤتمر سوتشي الذي أعطته روسيا عنوان “الحوار السوري” والمقرر عقده أواخر الشهر المقبل أو الشهر الذي يليه. وأكّدت مصادر مطلعة أن هناك نية للمبعوث الأممي للمشاركة بـ”فعالية” في مؤتمر سوتشي، ووضع مبادئ حلّ يجري اعتمادها في جولة تاسعة من مفاوضات جنيف كي تأخذ شرعية دولية. وأكدت المصادر أنّ المعارضة السورية لن تنوي المشاركة في سوتشي، ولكن المصادر لم تستبعد مشاركة شخصيات هامة في المعارضة بشكل شخصي في هذا المؤتمر الذي تعوّل عليه موسكو لترسيخ هيمنتها المطلقة على القرار السوري راهناً ومستقبلاً.
العربي الجديد
روسيا في سورية بين الحرب والدبلوماسية/ باسل الحاج جاسم
أعلنت روسيا، منذ البداية، أن تدخلها العسكري في سورية سيكون محدوداً، ولمدة تتراوح بين شهرين وثلاثة شهور، وبعد مضي أكثر من عامين على هذا التدخل، ظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في زيارته القصيرة للقاعدة الجوية الروسية في سورية، وقال، مرةً أخرى، إن الجيش الروسي أنجز مهمته، وسيعود إلى بلاده. وصحيح أن هذا الأمر كان قد تعهَّد به مراراً في السابق، إلا أن التوقيت والدلالات مختلفة هذه المرة.
ترك بوتين لنفسه مساحةً كبيرةً للمناورة بقوله إن “جزءاً كبيراً” من القوات سيعود إلى البلاد، وإفادته بأن روسيا أسَّسَت وجوداً دائماً في سورية من خلال قاعدة حميميم وقاعدة طرطوس البحرية المُوسَّعة. وكان ديمتري بيسكوف، المُتحدِّث باسم بوتين، أكثر غموضاً، حين أشار إلى إنه لا يوجد جدولٌ زمني مُحدَّد للانسحاب، وقال: “من الواضح أنها مسألة لا تنتهي بين ليلةٍ وضُحاها”. ولا بد من التساؤل عن جدوى الحملة العسكرية التي قامت بها روسيا على مدار عامين؟ وعما يريد بوتين؟ وهل حقق ما يصبو إليه؟
كان الهدف الرئيس من التدخل العسكري الروسي إنقاذ نظام الأسد من السقوط، وإضعاف
“تخشى روسيا على علاقاتها السياسية والاقتصادية القوية مع الدول التي يثير التقارب مع إيران استياءها”
أعدائه، كما أرادت روسيا ضمان مصالحها، وعرض قواتها العسكرية، واختبارها، إضافة إلى استهداف التنظيمات المتطرّفة، بسبب مشاركة المواطنين الروس في نشاطها، كما حاول بوتين ربط تحركاته في سورية بملفات أخرى، مثل نزاع أوكرانيا، والخلافات مع الاتحاد الأوروبي، والعقوبات الغربية على روسيا. وينظر بعضهم إلى أن التدخل الروسي ساهم، نوعاً ما، في تحجيم الدور الإيراني الذي استفرد بالقرار السوري، منذ نهايات عام 2012، حيث انعكس الانزعاج الإيراني من التهميش الروسي، بتقارب إيراني مع تركيا، إضافة إلى تصريحاتٍ سابقة للرئيس الإيراني، حسن روحاني، تفيد بعدم رضا إيران عن جميع القرارات التي تتخذها روسيا في سورية، إلا أن ذلك كله لا يرتقي إلى مستوى خلاف روسي – إيراني على أهدافهما القريبة في سورية.
أوجد التدخل الروسي نوعاً من التوازن العسكري في ميزان القوى بين جميع الأطراف، بحيث لا يسمح لأي منها بتحقيق أي انتصارٍ يمكن أن يقلب المعادلة على الأرض السورية، واستطاعت روسيا إعادة مناطق كثيرة في سورية إلى يد النظام، باستثناء بعض المناطق في شمال شرقي البلاد. وعلى الرغم من أنه من الممكن أن تعيد الجماعات المتطرّفة بناء نفسها مرة أخرى، إلا أن تحذير بوتين شديد اللهجة لهم، يترك باب الاحتمالات مفتوحاً.
وقد استفادت روسيا استفادةً كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل في صراعاتٍ مختلفة في الشرق الأوسط وغياب دور واضح لها في أزماتٍ كثيرة، وخصوصا سورية، لتُعيد بناء علاقاتها مع عواصم مختلفة في المنطقة، سيما الخليجية منها. وقد عملت روسيا بتدخلها العسكري في سورية على تحقيق أهداف جيو – استراتيجية، ونجحت، إلى حد كبير فيها، على الرغم من فشلها في تحقيق بعض تلك الأهداف، وجاء قرار إعلان الانسحاب مع اقتراب موعد مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري، فموسكو ينتظرها دور سياسي مهم، حين يعقد مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي سيضم ممثلين عن المعارضة السورية. ووفقا للرؤية الروسية، فإن الحل الوحيد للأزمة السورية يتمثل في تشكيل حكومة جديدة، لإعادة الهدوء إلى البلاد، إلا أن موقع “المونيتور” الأميركي يعتبر تنفيذ تلك الرؤية مع رئيس مثل الأسد أمرا صعبا للغاية. وهنا يجب أن تظهر قدرات موسكو الدبلوماسية في تطبيق رؤيتها.
ويرى مراقبون أن إعلان روسيا الانسحاب، بالتزامن مع مفاوضات جنيف بجولتها الثامنة،
“استفادت روسيا استفادةً كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل في صراعاتٍ مختلفة في الشرق الأوسط”
واقتراب الجولة الثامنة من محادثات أستانة، والاستعداد لمؤتمر سوتشي، رسالة إلى الأطراف الإقليمية بالدرجة الأولى التي اعتبرت أن روسيا، بتدخلها العسكري، أبعدت الحل السياسي، وعقّدت الوضع السوري المعقد أصلاً.
وعلى الرغم من التدخل العسكري الروسي القوي في سورية طوال عامين، إلا أن روسيا ما زالت تفتقر إلى تفعيل دور سياسي قوي، خصوصا بعد إعلان الانسحاب، وباتت تواجه تحدياً من نوع آخر هذه المرة، سياسي وليس عسكريا.
ومن هذه الزاوية، تعاونت موسكو سياسيا وعسكريا مع دول إقليمية في المنطقة، بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف. وكان ذلك خلال محادثات أستانا، الذي نظمته موسكو بالتعاون مع طهران وأنقرة، حيث استطاعت الدول الثلاث تهدئة الوضع في سورية، بالإضافة إلى إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد.
ولا يمكن تجاهل موقف دول كبرى عديدة، والإقليمية الرافضة للنفوذ الإيراني في سورية والمنطقة، وهو ما يجعل روسيا في موقفٍ لا تحسد عليه، فهي تخشى على علاقاتها السياسية والاقتصادية القوية مع تلك الدول، التي يثير التقارب الروسي الإيراني استياءها.
ويبقى القول إن لجولة بوتين أخيرًا من حميميم إلى أنقرة مروراً بالقاهرة رسائل داخلية أيضاً، إذ تستعرض دوره زعيماً أعاد لروسيا هيبتها التي فقدتها في السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، في وقتٍ يشرع فيه بحملته للفترة الرئاسية الخامسة. وعلى الرغم من ثقته من انتصاره في الانتخابات الرئاسية في مارس/ آذار من العام المقبل، إلا أنه يسعى للحصول على مستوى عال من الدعم، وإقبال قياسي في عملية الاقتراع.
العربي الجديد
الخيبة من بوتين بعد ترامب/ وليد شقير
بين إعلان فلاديمير بوتين من سوتشي في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أثناء استقباله بشار الأسد، أن روسيا «تعوّل على مشاركة الأمم المتحدة بشكل فعال في المرحلة النهائية من التسوية في سورية»، وإعلانه من قاعدة حميميم العسكرية في سورية بعد أقل من 3 أسابيع، النصر على الإرهاب في بلاد الشام تمهيداً لسحب جزء من قواته، ثم قوله أمس إن «روسيا وسورية لن تتمكنا من حل أزمة اللاجئين بمفردهما، وهناك حاجة لجهود دولية»، يلعب الرئيس الروسي على حبال الأزمة السورية في ظل غموض البحث عن التسوية السياسية للحرب.
ولعل بوتين يتقصد إضافة الالتباسات إلى هذا الغموض الذي يحيط بالحاجة إلى إنهاء الحرب في سورية. وهو غموض تكرّس في إفشال مفاوضات جنيف8 بين الموفد الدولي ستيفان دي ميستورا ووفدي النظام والمعارضة، فعلى رغم أن القيصر كان يأمل بانتهاء تدخل قواته الذي بدأ في آخر شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015 في الحرب، خلال بضعة أشهر، فإنه بات يبتدع أساليب التكيف مع امتداد القتال هناك، ويتقن المناورات التي تسمح له بأن يلائم تورطه فيها مع إطالة أمدها. مناسبة حديثه أمس للترويج لترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية في آذار (مارس) العام المقبل، كافية للإضاءة على أن هناك حيثيات داخلية تتعلق بالسياسة المحلية تلعب دوراً في المواقف التي أعلنها في الأسابيع الأخيرة، وتضيء على خلفيات المناورات التي يقوم بها في شأن الحرب في سورية.
طبعاً ليس بوتين وحده مَن لديه دوافع داخلية (تضاف إلى عوامل الصراع الأخرى)، في عملية إخضاع أزمات منطقتنا لمتطلبات السياسات المحلية في الدول الكبرى. فقرار دونالد ترامب الأخرق الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية خضع أيضاً لهذه الاعتبارات في توقيته، إذ أراد عبره إرضاء اللوبي الإسرائيلي في واشنطن كي يقف إلى جانبه، سواء في مواجهة التحقيقات حول الدعم الروسي الذي تلقاه عبر التدخل في الحرب الإلكترونية، أم في مواجهة تراجع شعبية حزبه الجمهوري في انتخابات حكام بعض الولايات التي استعادها الديموقراطيون، كمؤشر سلبي لما ستكون عليه نتائج الانتخابات النصفية لمجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة خريف العام المقبل.
في الحالتين، أي الحرب في سورية ودور ترامب في ملاقاة اليمين الإسرائيلي في تصفية القضية الفلسطينية، دليل على الدرك الذي بلغه الضعف العربي في التأثير في السياسات الإقليمية والدولية وخضوع قضاياهم للمناورات الداخلية في الدول المؤثرة وتحولهم ألعوبة في أيدي الدول العظمى. وواحد من الأدلة على بئس حال المنظومة العربية أن الدولة الأضعف فيها، لبنان، باتت تتصدر الموقف المدافع عن الحق العربي بالقدس، وتدعو إلى مواجهة القرار الأميركي بخطوات عملية اقترحها الرئيس ميشال عون، يفترض بالدول القوية والمؤثرة في هذه المنظومة أن تتصدى لها. والفلسطينيون لم يجدوا إلا في تلك الدولة الصغيرة من يناصرهم قياساً إلى الأشقاء الكبار.
في حال سورية، تزيد مواقف بوتين المتناقضة من قناعة قلة تجرؤ على القول، على رغم كل المظاهر باقتراب الحل السياسي، إننا أمام التمهيد لمرحلة جديدة من الأزمة وليس التسوية، فليست المرة الأولى التي يعلن فيها الكرملين عن سحب قوات له من سورية. سبق أن فعل ذلك في ربيع عام 2016 حين أعاد العديد من المقاتلات والقاذفات ثم أعادها وضاعف العدد. وهو سبق أن دعا القوات الأجنبية إلى الانسحاب من الميدان السوري واتفق مع الأميركيين على أن تنكفئ قوات «الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات التابعة له من الأراضي السورية، وتكرر الأمر بعد لقائه السريع مع ترامب، وجرى تسريب المعلومات عن قرب الانكفاء الإيراني بعد قمة سوتشي الروسية الإيرانية التركية، إلا أنه تبين أن الحاجة إلى وجود القوات الإيرانية في سورية تتفوق على الحاجة إلى المناورة الروسية بسحب جزء من القوة الجوية. بل على العكس، أخذ المسؤولون الروس يتحدثون عن أن المعني بانسحاب القوات الأجنبية هو انكفاء القوات الأميركية من الشمال السوري حيث تستظل حلفاءها في «قوات سورية الديموقراطية» (وتشكل مظلة دولية لهم في الوقت ذاته)، ومن منطقة التنف على الحدود العراقية السورية، لأن وجودها غير شرعي وليس بطلب من الحكومة السورية.
وأقصى المناورة في الموقف الروسي الذي لا يبشر ببدء العملية السياسية، هو تبرؤ بوتين من القدرة على إعادة النازحين، الذي كان أحد مبررات لإقامة مناطق خفض التصعيد في آستانة.
مقابل خذلان بعض القيادة الفلسطينية من دور واشنطن في السلام بعد قرارها الأخير، فإن الخيبة مصير الرهان على دور روسي في العملية السياسية في سورية.
الحياة
بوتين.. الذي باتت سوريا خلف ظهره/ محمد قواص
بات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يطل على منطقة الشرق الأوسط بصفته الرقم الصعب الذي لا بد منه. تجاوز الرجل مرحلة السعي لإحداث اختراق داخل ما كان يعتبر جزءا من الفضاء الاستراتيجي الأميركي. أضحت روسيا حاضرة بقوة وأضحى العالم بأجمعه، بما في ذلك الولايات المتحدة، مُسلّما بالنفوذ الروسي في المنطقة، مستسلما خصوصا للوظيفة الروسية في مقاربة المسألة السورية. تلخص رحلة اليوم الواحد التي قادت فلاديمير بوتين الاثنين الماضي إلى سوريا ومصر وتركيا المشهد برمته.
عادت روسيا بقوة إلى مصر بعد عقود على “إهانة” طرد الخبراء السوفيات من قبل الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1972. باتت موسكو شريكة للقاهرة في القطاع النووي (مفاعل الضبعة)، كما باتت مصر أرضا ودودة تستقبل قواعدها العسكرية الطائرات العسكرية الروسية، وبالتالي صارت لموسكو إطلالات متعددة على خرائط العالم.
لكن التفصيل الروسي في مصر يكشف منحى لدى القاهرة نفسها بقطع مع رتابة شابت علاقاتها الدولية لجهة التعويل، ربما الوحيد، على صلابة العلاقة التي تربطها بواشنطن.
كان الرئيس السادات يعتبر أن 99 بالمئة من أوراق الشرق الأوسط في يد واشنطن، فيما بدا أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يكتشف في السنوات الأخيرة كم فقدت الولايات المتحدة من هذه الأوراق. وسيسهل على المراقب ملاحظة أن مصر في استقبالها للخيارات الروسية المتاحة، إنما تعود للتّدثر بعباءة روسية جرى إهمالها خلال العقود الماضية.
يكشف الحدث حدّة التحوّل الذي طرأ على استراتيجيات تركيا في العالم. بات البيض التركي يتكاثر في السلة الروسية، بينما يتسرب من سلال الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تميلُ تركيا بشكل مطرد صوب الفضاءات الأوراسية، بحيث أن التباين التركي الروسي بات فرعا ينمو على هامش الأصل في استراتيجية العلاقة المتنامية بين البلدين.
بدا أن ما يجمع روسيا وتركيا يتجاوز هواجس الأمن (منظومة الدفاع الجوي الصاروخي إس- 400 الروسية لتركيا) والتي ستطيح يوما بأطلسية تركيا، ويروح بالاتجاه إلى تأسيس مصير مشترك تحدده خطط التعاون الاقتصادي لا سيما في مجال الطاقة (وفق مشروع “تورك ستريم” الاستراتيجي اللافت).
لا يمكن فهم قرار بوتين سحب قسم كبير من قواته من سوريا، إلا علامة من علامات القوة، وليس عارضا من عوارض الحرد التي كان يحلو له ممارستها بسادية يهوّل بها على حلفائه كما على الخصوم. بدا الرجل في زيارته المفاجئة إلى القاعدة العسكرية في حميميم متفقدا حسن سير إدارة من الإدارات الروسية، وبدا من خلال استدعائه الجديد لبشار الأسد متفحصا حسن سلوك الرجل داخل دفتر الشروط الذي تحدّثه موسكو يوميا في شأن مآلات المسألة السورية.
يسحب رجل الكرملين قسما من القوات الروسية في سوريا بما يتسق تماما مع إعلانه السابق عن انتهاء تنظيم داعش داخل هذا البلد. لكنه في الإعلان عن الاستغناء عن الحضور العسكري الثقيل ما يشي بأن بوتين بات ممسكا بقرار سوريا دون الحاجة إلى صيانة ذلك عبر القوة النارية للدولة العظمى.
والظاهر أن بوتين الذي لا شك يستخدم إعلان الانسحاب كأداة من أدوات حملته الرئاسية المقبلة، أصبح يدرك، بعد ورشه في أستانة وتلك السابقة واللاحقة قيد الإعداد في سوتشي، أن أنقرة وطهران لا يملكان خيارات أخرى في الشأن السوري غير تلك التي يعرضها سيد الكرملين. أمر فهمه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حين علّق أن “خلق انطباع بأن روسيا تنسحب من سوريا غير واقعي”.
وفيما يخيل أن تعفف بوتين العسكري قد يحرر نظام دمشق كما نظام الولي الفقيه في طهران من القيود التي تفرضها الأجندة الروسية في سوريا، تفصح عنجهية بوتين عن ثقة مفرطة في عدم قدرة كافة الأطراف الإقليمية، كما الدولية، على الانخراط في السياق السوري دون المرور من البوابات الروسية.
وفيما يتدلل نظام دمشق في التعاطي مع مفاوضات جنيف بقيادة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، يعلن هذا الأخير ولو من خلال إبلاغه لوفد المعارضة، أن بديل جنيف هو سوتشي وهو أمر تلاحظ موسكو أن دمشق لا تستسيغه أبدا.
تتسرب في الأيام الأخيرة تقارير تتحدث عن ريبة تشعر بها طهران مما يحيكه بوتين مع العواصم الأخرى بشأن سوريا. يعلن بوتين أن تنسيقا سيجري مع مصر في شأن الورشة السورية، فيما يبدو أن اللقاءات الثنائية والثلاثية التي أجراها الرئيس الروسي مع الرئيسين الإيراني والتركي نجحت في تدجين إيران وتركيا والضغط على طموحاتهما داخل الميدان السوري.
يتحرك بوتين داخل بلدان المنطقة وكأنه يصادر ما تحركت به طهران منذ عقود داخل بلدان نفس المنطقة. تجاري السعودية صعود روسيا في الشرق الأوسط وترفد مسعاها في سوريا.
تنتقل العلاقات بين موسكو والرياض من المغامرات التجريبية إلى مراحل الثبات الدائم، ويدرك رجل الكرملين أن زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الأخيرة ترتقي بالعلاقات بين البلدين من إطار رد الفعل ضد واشنطن إلى إطار الفعل مع موسكو.
تلحظ طهران بقلق هذا التحوّل المريب في دور روسيا في الشرق الأوسط. ويستنتج النظام الإيراني غياب أدواته الدفاعية ضد موسكو كتلك التي يستخدمها ضد الرياض أو واشنطن.
لم يصدر عن أي مفوّه في إيران ما ينتقد هذا التواطؤ العلني الروسي في الضربات التي تشنّها إسرائيل منذ سنوات على أهداف تطال قواتها وميليشياتها التابعة داخل سوريا. ولم تملك الأدوات الإيرانية في سوريا إلا هامشا تخريبيا محدودا أمام التفاهمات التي أقامت مناطق خفض التصعيد داخل هذا البلد.
وفيما يمعن بوتين في تكرار إشارات الإذلال التي يمارسها بحقّ بشار الأسد عند كل لقاء يجمعه به، تبدو طهران، كما دمشق للمفارقة، مستسلمة لحقيقة أن مصير رجل دمشق هو رهن ما يقرره الكرملين وسيّده يوما ما.
بدا بوتين في جولة اليوم الواحد، الاثنين الماضي، إلى ثلاث من دول المنطقة، بأنه بات يعتبر الشأن السوري تفصيلا داخل الخارطة التي يطمح إليها في الشرق الأوسط.
وحتى ردّ الفعل الأميركي الذي اعتبر أن قرار الانسحاب العسكري الروسي الجزئي من سوريا لن يؤثّر على عمل القوات الأميركية في هذا البلد، أظهر السعي الأميركي في سوريا بصفته جزءا من فضاء العمليات الروسية هناك، وليس مستقلا أو عصيا على قواعده.
وعليه لا يسير بوتين داخل الشرق الأوسط داخل حقل ألغام أميركي، بل يتجوّل داخل ميدان أزالت واشنطن فخاخه منذ أن ظهر أن نزوع الرئيس السابق باراك أوباما للانسحاب النسبي من المنطقة ما زال معتمدا لدى إدارة دونالد ترامب الحالية، وإن اختلفت مقاربة الأمر وتوضيب أولوياته.
صحافي وكاتب سياسي لبناني
العرب
جيوش المرتزقة الروس تسيطر على سوريا
ترجمة وتحرير الخليج الجديد
قبل أن يقتله قناص في سوريا في سن الـ 23، كتب «إيفان سليشكين» رسالة مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي لخطيبته: «سنرى بعضنا البعض قريبا، وسأعانقك بشدة قدر الإمكان».
إلا أننا لن نعثر على اسم «سليشكين» بين السجلات الرسمية لوزارة الدفاع الروسية للضحايا في الحرب ضد «الدولة الإسلامية».
وذلك لأن الشاب الذي غادر مسقط رأسه أوزايورسك في جبال الأورال كان واحدا من آلاف الروس المنتشرين في سوريا من قبل متعاقد عسكري خاص غامض يعرف باسم «فاغنر»، والذي لا تتحدث عنه الحكومة.
فاغنر
ويصور «سليشكين» على قبره يحمل بندقية رشاشة، ووفقا لموقع إخباري محلي أرسل مراسلا إلى الجنازة في 2 مارس/آذار، قال أصدقاؤه إنه انضم إلى «فاغنر» لكسب المال لدفع ثمن حفل زفافه.
وقال صديقه «أندريه زوتوف» لوكالة أنباء أسوشييتد برس: «لقد كان في مجموعة فاغنر»، مضيفا أن «سليشكين» قتل بينما كانت قواته تتقدم في اتجاه حقل الشاعر النفطي شمال تدمر.
وقال «زوتوف»: «هناك الكثير من المال هناك. وتطوع للانضمام إلى الشركة، حيث أراد – مثل العديد من المقاتلين الروس – أن يحل مشاكله المالية».
وأفاد موقع فونتانكا – الذي يقع مقره في سان بطرسبرغ – أن نحو 3000 من الروس الذين تم التعاقد معهم مع مجموعة فاغنر قاتلوا في سوريا منذ عام 2015، أي قبل أشهر من الحملة العسكرية الروسية التي استمرت عامين في سوريا، والتي ساعدت على تحويل تيار الحرب الأهلية لصالح رئيس النظام السوري «بشار الأسد»، حليف موسكو منذ فترة طويلة.
وعندما توجه «بوتين» إلى قاعدة جوية روسية في سوريا يوم الإثنين، قال للقوات الروسية: «ستعودون إلى بلادكم بالنصر»، إلا أنه لم يذكر المرتزقة. ومن المتوقع أن تبقى القوات الروسية في سوريا لأعوام، بينما من المحتمل أن يبقى المرتزقة لحراسة حقول النفط والغاز المربحة، بموجب عقد مبرم بين الحكومة السورية وشركة روسية أخرى يزعم أنها مرتبطة برجل أعمال يعرف باسم «طباخ بوتين» في الكرملين.
لقد لعب مقاتلو الشركات الخاصة مثل «سليشكين» دورا رئيسيا في سوريا. وبالإضافة إلى تعزيزهم للقوات التي أرسلتها موسكو رسميا، ساعد نشرهم السري على الحفاظ على عدد القتلى الروس الرسمي منخفضا، حيث يسعى بوتين إلى الترشح لدورة رئاسية أخرى العام المقبل.
وذكرت وزارة الدفاع الروسية إن 41 من قواتها قد لقوا مصرعهم في سوريا. وقال فونتانكا إن 73 من المرتزقة الروس قتلوا هناك.
وأثار الكرملين ووزارة الدفاع أسئلة حول الروس الذين يقاتلون في سوريا بصفة خاصة. واستخدمت دول أخرى مثل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان المرتزقة لأعوام، ولكن يحظر القانون الروسي استخدام المرتزقة أو العمل كمرتزقة.
لكن روسيا استخدمت هذه الشركات الخاصة من قبل في النزاعات، مثل استخدامهم لمساعدة الانفصاليين المؤيدين لموسكو في شرق أوكرانيا منذ عام 2014. وتفاخر أحد القادة الروس بالعمل إلى جانب القوات الروسية، التي قال إنها «في إجازة» أثناء القتال في أوكرانيا.
ورفضت وزارة الدفاع تحديد عدد قواتها في سوريا، على الرغم من أن التقديرات التي استندت إلى إحصائيات الغائبين الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية الروسية العام الماضي أشارت إلى نشر 4300 فرد هناك. وربما ارتفع هذا الرقم على الأرجح هذا العام، لأن موسكو أرسلت الشرطة العسكرية الروسية للقيام بدوريات في «مناطق التصعيد».
وقال «مارك غاليوتي»، وهو باحث كبير في معهد العلاقات الدولية في براغ: «لا يتحمس الشعب الروسي جدا إلى فكرة إمبراطورية من شأنها أن تشمل عودة أولادهم إلى ديارهم في الأكفان. ومن الواضح أن هناك عدم حماس لهذا الصراع».
وأضاف: «ومن خلال امتلاك مثل هذه الشركة العسكرية (فاغنر)، يمكن امتلاك القوة اللازمة … ولكن عندما يموت الأشخاص، لا يتم الإعلان عنهم».
وحصل فونتانكا – الذي يحظى بالاحترام لتقاريره المستقلة – على ما وصفه بجداول فاغنر واستمارات التوظيف التي تشير إلى أن الآلاف من الروس قاتلوا في سوريا.
وقال «دينيس كوروتكوف»، وهو مراسل في فونتانكا، إن من بين نحو 3 آلاف من موظفي فاغنر – الذين تم نشرهم في سوريا على مر الأعوام – كانت أكبر وحدة في وقت واحد ضمت 1500 فرد.
ومنذ عام 2015، قُتل ما لا يقل عن 73 منهم.
ونشر كل من فونتانكا وسي آي تي صورا لما أسموه قاعدة تدريب فاغنر في منطقة كراسنودار في جنوب روسيا. وبدت بعض المرافق مماثلة لتلك التي وردت في صور وزارة الدفاع الرسمية لقاعدة عسكرية في مولكينو، في نفس المنطقة.
ومنعت الاتفاقات الموقعة مع شركات الأمن الخاصة المرتزقة وأفراد أسرهم من التحدث إلى وسائل الإعلام عن أنشطتها. ويتلقى الناجون تعويضا سخيا عن الصمت، ولم تنجح معظم محاولات أسوشييتد برس للاتصال بأقارب وأصدقاء القتلى.
وأفادت وسائل الإعلام في جنوب روسيا بوفاة «ألكسندر كارشينكوف» في سوريا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016. وأظهر موقع «بيلبريسا» عمدة مسقط رأسه «ستاري أوسكول» وهو يعطي ميدالية لأرملة «كارشينكوف»، مارينا، وأمه.
وقالت «مارينا كارشينكوف» إن زوجها ذهب إلى سوريا كجندي مرتزق، لأنه «كان لديه أطفال لرعايتهم».
وفي أكتوبر/تشرين الأول، أصدر تنظيم الدولة الإسلامية مقطع فيديو عن اثنين من الأسرى الروس قالوا إنهما كانا يقاتلان في سوريا. ونفت وزارة الدفاع أنهم من الجنود الروس، وذكرت تقارير إعلامية أنهما يعملان لصالح «فاغنر».
وتجدر الإشارة إلى أن مجموعة «فاغنر» قد تأسست من قبل المتقاعد «ديمتري أوتكين»، الذي تعرض للعقوبات الأمريكية في يونيو/حزيران، بعد أن قالت وزارة الخزانة إن الشركة جندت جنود سابقين للانضمام إلى الانفصاليين الذين يقاتلون في أوكرانيا. وقد تم تصوير «أوتكين» قبل عام في مأدبة أقامها الكرملين قدمها «بوتين» لتكريم قدامى المحاربين العسكريين.
طباخ بوتين
كما فرضت عقوبات أمريكية على «يفغيني بريغوجين»، رجل أعمال سانت بطرسبورغ الذي يطلق عليه اسم «طباخ بوتين» من قبل وسائل الإعلام الروسية، بسبب مطاعمه وشركات التموين التي استضافت عشاء الكرملين مع كبار الشخصيات الأجنبية. وخلال أكثر من 10 أعوام منذ أقام العلاقات مع بوتين، توسعت أعماله إلى خدمات أخرى للجيش.
وفي وقت سابق من هذا العام، كشفت مؤسسة لمكافحة الفساد – يديرها زعيم المعارضة «أليكسي نافالني» – كيف أن شركات «بريغوجين» قد أصبحت تهيمن على عقود وزارة الدفاع. ووضعت وزارة الخارجية الأمريكية «بريغوجين» على قائمة العقوبات عام 2016 – المتعلقة بالنزاع الأوكراني – مستشهدة بـ «تعاملاته التجارية الواسعة» مع وزارة الدفاع.
ومن بين الشركات المرتبطة بـ «بريغوجين» شركة إيفرو بوليس، وهي شركة مسجلة في موسكو ذكر فونتانكا أنها أصبحت واجهة لعمليات فاغنر في سوريا.
وفي عام 2016، أدرجت إيفرو بوليس بيع المنتجات الغذائية باعتبارها نشاطها الأساسي، وفقا لقاعدة بيانات سبارك إنترفاكس. ولكن هذا العام، أدرجت الشركة قائمة من النشاطات مثل التعدين وإنتاج النفط والغاز، وفتحت مكتبا في العاصمة السورية دمشق.
وحصلت الوكالة على نسخة من عقد من 47 صفحة بين شركة إيفرو بوليس وشركة البترول العامة المملوكة للدولة في سوريا، أوضحت أن الشركة الروسية ستحصل على 25% من عائدات إنتاج البترول والغاز في الحقول التي يقوم جنودها بالسيطرة عليها وتأمينها من الإسلاميين. وعلى الرغم من عدم إمكانية التأكد من موثوقية العقد الذي يستمر لـ 5 أعوام، كان فونتانكا قد أبلغ عن نفس الصفقة في يونيو/حزيران.
وقال «كورونتكوف: «إن الارتباط بين إيفرو بوليس وبريغوجين كبير ولا شك فيه. ونعتقد أن هذه الشركة مجرد غطاء لشركة فاغنر الخاصة، وقد تكون محاولة لإضفاء الشرعية على هذه المجموعة، ربما للاستخدام التجاري في وقت لاحق».
ووجد مراسل أسوشييتد برس – الذي ذهب إلى مكتب إيفرو بوليس في دمشق – المكتب مغلقا، دون أي إشارة على الباب.
ورفضت وزارة البترول والثروة المعدنية السورية التعليق عندما سئلت عن صفقة إيفرو بوليس. وردا على سؤال حول العقد، قالت وزارة الطاقة الروسية لـ(فونتانكا) إنها لا يمكنها الكشف عن «الأسرار التجارية»، ورفضت التعليق على أخبار أسوشييتد برس.
ومع اقتراب انتهاء الحملة الروسية في سوريا، يبقى عمل شركات المرتزقة مستمرا، بحسب ما يقول المحللون.
المصدر | واشنطن بوست
بين روسيا وإيران في الساحة السورية/ بهاء أبو كروم
مثلت المحطة الثامنة لمحادثات جنيف الاختبار الأكثر جديّة للانتقال من منطق الارتباط ووقف النار في المناطق الأكثر استقراراً الذي انتهت إليه مفاوضات آستانة، إلى البحث عن أطر دائمة للحلول، بخاصة بعد الانتهاء نظرياً من «داعش».
هنا، لا يستطيع بشار الأسد التذرع بالمقاربة الأمنية التي بررت له عدم الاعتراف بالمعارضة ووصفها بالإرهابية، ولا تستطيع روسيا التفلت من الالتزام بما تعهدت به منذ البداية، وهو التمسك بأن مستقبل الأسد يحدده السوريون أنفسهم عبر انتخابات يشترك فيها اللاجئون باعتبارهم محسوبين على المعارضة!
لكن، كلما ابتعدت بوادر الحل السياسي تعقد المشهد أمام الروس الذين بات عليهم المفاضلة بين السير بالأجندة الإيرانية في الداخل أو البحث عن استقرار يتيح لهم حضوراً آمناً طويل الأمد في الساحل السوري. فحضورهم هناك عليه أن يحدد وجهة تطلّعه في المستقبل إما شرقاً أو غرباً. وروسيا التي تخشى انزلاقها إلى استنزاف في الصراع السوري، وضعت نفسها أمام خيارات محددة لا بد أن تنعكس على استراتيجيتها الشرق أوسطية كلها.
فالحضور العسكري في قواعد ذات طابع استراتيجي في طرطوس واللاذقية، يخولها الإشراف على مياه المتوسط ومد نفوذها إلى شمال أفريقيا بدءاً من مصر وليبيا، ما يجعلها أكثر إحاطة بالجغرافيا الأوروبية. وفي حال ذهبت في هذا الاتجاه باعتبارها قوة عالمية، فإنها إذّاك تنزه نفسها عن الغرق في تناقضات معقدة فشلت في إدارتها تاركة لإيران وإسرائيل إيجاد توازن يتوزع بينهما في وسط الساحة السورية وجنوبها. ذلك في الوقت الذي انتقلت فيه الولايات المتحدة إلى تصحيح علاقاتها بتركيا كمدى حيوي يحمي ظهرها في الحضور الاستراتيجي في سورية والعراق، وأكدت حضورها المستدام على الأراضي السورية هي الأخرى.
وأمام روسيا خيار آخر وهو أن تذهب بعيداً في الانخراط الداخلي من موقع الوصي على النظام السوري، وفي هذه الحال سيكون مآلها التورط في تنافس تلقائي مع حسابات إيران التفصيلية.
خيارات مفصلية أمام الرئيس فلاديمير بوتين في هذه المرحلة تستدعي منه إعادة تحديد خياراته، بخاصة بعد تأكيد الولايات المتحدة أهمية ما يحصل في أوكرانيا وانعكاسه على العلاقة مع الروس. وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أكد في اجتماع وزراء خارجية «دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» في فيينا أن العقوبات المتعلقة بالقرم ستبقى إلى أن تعيد روسيا السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة إلى أوكرانيا وتسحب قواتها من دونباس وتفي بالتزاماتها في اتفاق مينسك.
إن ما قدمته روسيا في الحرب على الإرهاب في سورية أتاح لها رعاية تقنية للمفاوضات بين السوريين لكن من دون القدرة على التقرير فيها. وعلى رغم التنسيق العسكري والمساكنة التكتيكية مع الغرب في الأجواء السورية، والتسويات والصفقات الإقليمية التي أجرتها مع تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية، فإن ذلك لم يُصرف في مسألة رفع العقوبات عنها أو في التوازن الأوروبي مع الأطلسي أو في انتزاع القرم والاعتراف به لروسيا.
وعلى رغم نجاح روســـــيا في تكريس سياقات آستانة وسوتشي كمحطات حوارية، فإنها لا تمتلك مفاتيح التوصل إلى خواتيم ونهايات لأزمات بهذا الحجم. خبرة الروس في إدارة التناقضات الشرق أوسطية ترتكز على وسائط القوة ويحفزها التنافس المستدام مع الغرب بينما تفتقر إلى المقاربة الديموقراطية التي أصبحت أكثر إلحاحاً في عصرنا الحديث.
* كاتب لبناني.
الحياة
أميركا لروسيا: باقون في سوريا/ حسين عبد الحسين
منذ دخول روسيا الحرب السورية، أواخر العام 2015، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انسحاب قواته، خمس مرات على الأقل، في عملية تكاد تقارب العبث. أما سبب إعلانات الانسحاب الروسية المتكررة فبقي مجهولاً، الى أن كادت مقاتلات “سوخوي-35” الروسية تصطدم بمقاتلات “اف-22” الاميركية، الأسبوع الماضي، في السماء السورية شرقي الفرات.
وسبق لتحالف روسيا وايران والرئيس السوري بشار الأسد، ان حاول امتحان جدية الولايات المتحدة في اقفال المنطقة الجوية، التي يسيطر عليها التحالف الدولي للحرب ضد تنظيم “الدولة الاسلامية” في الشرق السوري، فأرسل سوخوي سورية، فأسقطها الاميركيون بعدما اسقطوا طائرات ايرانية من دون طيار.
الرسالة الاميركية الى روسيا وإيران واضحة: الولايات المتحدة باقية في شرق الفرات، وستبقيه عصياً على سيطرة الروس والايرانيين الى أن يتوصل السوريون الى تسوية سياسية، تؤدي إلى إنهاء الحرب، وتشكيل حكومة تمثل النظام ومعارضيه، فعلياً لا شكلياً.
والسبب الاميركي الذي أعلنته وزارة الدفاع الأميركية للبقاء شرق الفرات، هو “منع عودة داعش”، لكن القيادة الاميركية لمحاربة “داعش” مركزها العراق، ما يعني أن للبقاء الاميركي شرقي سوريا هدفاً آخر غير معلن.
في تعريفه “مهمة الولايات المتحدة في سوريا”، يكتب السفير الاميركي السابق والباحث في “معهد واشنطن لشؤون الشرق الادنى” جيمس جفري، إنه “يمكن، وعلينا، تفسير مهمة الحرب على داعش بصورة اوسع لتشمل ضبط إيران وعميلها في دمشق (الأسد)، بما ان تصرفاتهما هي التي أدت الى صعود داعش في العام 2013”.
هذه المهمة الاميركية المطاطة في سوريا، لا يبدو أنها تعجب بوتين، الذي يسعى لإظهار سوريا وكأنها أصبحت في جيب روسيا، وهو لهذا السبب، لم يترك مناسبة إلا وأذلّ فيها “حليفه” الأسد، تارة بدعوته للوقوف في سوتشي وحيداً أمام بوتين وجنرالاته، وطوراً في زيارة بوتين قاعدة حميميم العسكرية الروسية في سوريا، من دون مراسم ولا سيادة سورية، وبحضور فردي للأسد، مرة أخرى.. ثم يأتي مشهد إمساك الضابط الروسي بذراع الأسد لثنيه عن اللحاق ببوتين لوداعه أمام الطائرة، ليؤكد، مراراً وتكراراً، الذلّ الذي يبدو أن بوتين يتقصد إنزاله بالأسد.
إمساك الولايات المتحدة وحلفائها بمساحة شاسعة من سوريا شرقي الفرات، وفي الجنوب، تفسد على بوتين محاولته تصوير نفسه سيداً للأسد وسوريا. لذا، يكرر بوتين أن روسيا تسحب قواتها من سوريا، في محاولة لحمل الاميركيين على القيام بخطوة مماثلة. لكن القوة العسكرية الاميركية، التي يمسك بها الجنرالان جيمس ماتيس وزير الدفاع وهنري ماكماستر رئيس مجلس الأمن القومي، لا تبدو مستعدة للتنازل لبوتين عن شرق سوريا، وقيام مقاتلاتين اميركيتين بطرد نظيرتيهما الروسيتين، بعدما قاربت المقاتلات المتواجهة الاصطدام. وهي رسالة حاسمة من ماتيس وماكماستر الى بوتين، مفادها أن أميركا مستعدة لقتال روسيا للبقاء في شرق سوريا، وهو موقف أميركي لا يملك بوتين وسيلة أو حيلة للتعامل معه أو التخلص منه، وهو ما يغيظ الروس.
“نعتقد أنه بعد الانتصار على داعش، لم تعد هناك جدوى لبقاء قوات التحالف بقيادة أميركية في سوريا، خصوصاً أنهم لم تتم دعوتهم من الحكومة السورية”، يقول السفير الروسي في جنيف اليكسي بورودافكين في تصريح نقلته وكالة “تاس” الروسية الرسمية.
خلافاً لما يعتقد البعض، ليس الوجود العسكري الروسي في سوريا دليلاً على عودة القوة الروسية العظمى الى سابق عهدها، بل هو دليل مرور الولايات المتحدة بمرحلة اختلال توازن سمحت للقوى الأصغر، مثل روسيا وايران، بالإبقاء على صورة رئاسة الأسد، بلا رئاسة ولا سيادة. لكن حتى في أوقات انعدام توازنها، تلتزم القوة الاميركية بمصالحها القومية في حدها الأدنى، وتكشّر عن انيابها، في وجه بوتين او غيره، عندما يحاول الرئيس الروسي امتحانها.
أما الرئيس الاميركي دونالد ترامب، فمنشغل عن شؤون العالم بإهانة خصومه السياسيين، من حزبه أو حزب معارضيه، وغارق في أزمات تبقيه غافلاً عن السياسة الدولية، التي يديرها الجنرالات، وهو ما يظهر رهان بوتين على ترامب رهاناً خاسراً بعض الشيء.
المدن
النص الكامل لبيان “أستانة-8“
اختتم في العاصمة الكازاخستانية أستانة، الجولة الثامنة من محادثات السلام السورية، بإقرار وثيقة حول تشكيل فريق عمل خاص لبحث ملف المفقودين والمعتقلين والأسرى. وقال مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، إن اللجنة ستباشر عملها خلال أسبوعين أو ثلاثة، وستقتصر على ممثلين عن الدول الضامنة لعملية أستانة.
كما أعلن المجتمعون في بيانهم الختامي، عن موعد انعقاد مؤتمر “الحوار السوري” في مدينة سوتشي الروسية، يومي 29 و30 كانون الثاني/يناير المقبل.
في ما يلي النص الكامل للبيان الختامي لـ”أستانة-8″:
بيان مشترك لإيران وروسيا وتركيا حول الاجتماع الدولي الخاص بسوريا في أستانة
21-22 كانون الأول/ ديسمبر 2017
جمهورية إيران الإسلامية والاتحاد الروسي وجمهورية تركيا بصفتها ضامني مراقبة نظام وقف إطلاق النار في الجمهوري العربية السورية:
– مؤكدة على التزامها القوي والمستمر بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها.
– ومرحبةً بالتقدم المحرز في تنفيذ المذكرة المتعلقة بإنشاء مناطق خفض التصعيد في الجمهورية العربية السورية بتاريخ 4 أيار/مايو 2017.
- ترحّب بالإنجازات المحرزة في محاربة الإرهاب في سوريا، لا سيما هزيمة داعش والتحرير الوشيك لجميع الأراضي السورية من داعش.
- تؤكد إصرارها على مواصلة التعاون بغية القضاء النهائي على داعش/تنظيم الدولة الإسلامية، جبهة النصرة وغيرها من الكيانات الإرهابية حسب تصنيف مجلس الأمن الدولي ولمنع إعادة تموضع الإرهابيين الدوليين في دول أو مناطق أخرى.
- تعبّر عن عزمها المشترك في مواصلة تنسيق الجهود لضمان عدم انتكاس التقدم المحرز في تخفيض العنف. وتؤكد على ضرورة اتخاذ الخطوات الدولية العاجلة والفاعلة لأجل مساعدة السوريين في استعادة وحدة البلاد، والوصول إلى حلٍ سياسيٍ للأزمة وفقاً لأحكام قرار مجلس الأمن 2254 (2015) من خلال عملية شاملة وحرة ونزيهة وشفافة بقيادة سورية ويمتلك زمامها السوريون تفضي إلى دستور يحظى بدعم الشعب السوري وانتخابات حرة ونزيهة بمشاركة جميع السوريين المؤهلين تحت إشراف مناسب للأمم المتحدة.
- تؤكد عزمها على التفاعل الوثيق بشكل منتظم لدعم التحضير لمؤتمر حوار وطني سوري وعقده في سوتشي بتاريخ 29-30 كانون الثاني/ يناير 2018 بمشاركة جميع شرائح المجتمع السوري والدعوة إلى تمثيل حكومة الجمهورية العربية السورية والمعارضة الملتزمة بسيادة سوريا واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها والطبيعة غير المجزّأة لسوريا للتعاون بشكل فاعل. ولتحقيق هذا الهدف، سيعقد الضامنون الثلاثة اجتماعاً تحضيرياً خاصاً في سوتشي قبل المؤتمر، وذلك بتاريخ 19-20 كانون الثاني/ يناير 2018.
- تؤكد على أنها ترى مؤتمر الحوار الوطني السوري القادم باعتبارها مبادرةً تهدف لتقديم زخم لعملية المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة في جنيف وتيسير الاتفاق السوري السوري بناء على التوافق المتبادل.
- سعياً لبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة في سوريا، تتبنى “تنظيم مجموعة العمل الخاصة بالإفراج عن المعتقلين/المختطفين وتسليم الجثث وتحديد هويات المفقودين” و”البيان المشترك حول نزع الألغام الإنساني في سوريا، بما يشمل مواقع التراث الإنساني حسب قائمة اليونسكو”.
- تؤكد عزمها مواصلة تنفيذ أحكام المذكرة الموقعة بتاريخ 4 أيار/مايو 2017 وغيرها من القرارات التي جرى إقرارها سابقاً في إطار عمل عملية أستانة.
- تركّز على الحاجة لاستمرار الجهود الرامية لتعزيز نظام وقف إطلاق النار وضمان العمل الناجع لجميع مناطق خفض التصعيد الأربع.
- تعرب عن خالص امتنانها لرئيس جمهورية كازاخستان، السيد نصرلتان نازرباييف والسلطات الكازاخية لاستضافتها الجولة الثامنة من الاجتماع الدولي رفيع المستوى حول سوريا في أستانة.
- تقرر عقد الاجتماع الدولي رفيع المستوى التالي في أستانة في النصف الثاني من شباط/ فبراير 2018.
أستانة، 22 كانون الأول/ ديسمبر
وفد فصائل أستانة يتلقى دعوة لحضور مؤتمر سوتشي: أي مرجعية سياسية ستقرر المشاركة؟/ منهل باريش
رسمت الجولة الثامنة من مباحثات أستانة خريطة الطريق إلى مؤتمر الحوار السوري ـ السوري. ونجحت روسيا بالضغط على حلفائها ورمي الطعم إلى الوفد العسكري الذي لم يتردد بابتلاعه سريعاً، فانعدم رفض المؤتـمــر وركز الجــانبان الروسي والتركي خلال اجتماعهما بالوفد على مسألة حضور مؤتمر سوتشي، وصرف كامل الوقت خلال يومي الاجتماع في التشديد على حضوره.
وأكد رئيس الوفد العسكري الدكتور أحمد الطعمة «تلقي المعارضة السورية دعوة لحضور سوتشي وسيتم تقييم الدعوة من مرجعياتنا السياسية لاتخاذ قرار المشاركة من عدمها»، دون تحديد المرجعية السياسية. فمن المعلوم أن الوفد العسكري منذ حضوره في استانة -1 لم يكن لديه أي مرجعية سياسية وشارك من شارك من أعضاء الوفد بصفته الشخصية، واختير أعضاء الوفد العسكري من الجانب التركي باعتبارهم ضامني فصائل المعارضة بعد توقيع الفصائل على اتفاق انقرة نهاية عام 2016.
وقال رئيس الوفد الروسي السكندر لافرنتيف للوفد العسكري أن «عدة دول رشحت قوائم أسماء لحضور مؤتمر الحوار السوري – السوري والمزمع عقده في سوتشي منها مصر والسعودية وتركيا والإمارات وروسيا».
واطلع نائب وزير الخارجية التركي سادات اونيل خلال اجتماعه يوم الجمعة بالوفد العسكري على نقاط التركيز التركية بخصوص مؤتمر الحوار السوري الذي من المتوقع انعقاده في 30 كانون الثاني/يناير من العام المقبل حسب وزارة الخارجية الكازخية. وتختصر النقاط بالأشخاص المدعوين ودور المعارضة في هذا المؤتمر وعلاقة المؤتمر بمسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة والقرارات الدولية المتعلقة بالمسألة السورية وخصوصا القرار 2254.
وأحاط الوفد الروسي بتطورات «ملف الألغام» والذي تعتبره موسكو أحد أهم انجازاتها الميدانية، حيث «طهرَ خبراء الألغام الروس نحو 6533 هكتارا من الألغام في الأراضي السورية وطرقا برية حيوية بطول 1410 كم وأكثر من 17100 مبنى» حسب تصريح لوزير الدفاع الروسي خلال افتتاحه الأكاديمية العسكرية مع الرئيس بوتين في ضواحي العاصمة موسكو.
في سياق متصل، قدم رئيس اللجنة العسكرية في «الوفد العسكري للثورة» العميد فاتح حسون لرئيس الوفد الروسي السكندر لافرنتيف عدة ملفات متعلقة بالخروقات التي تقوم بها روسيا والنظام السوري وسلم حسون أربعة ملفات مفصلة ثلاثة منها مخصصة لمجازر قام بها الطيران الحربي متضمنة تسجيلات مرئية وصوتية ومكتوبة وشهادات ووثائق سرية وعادية داعمة وموثقة للملفات. وتناول الملف الأول مجزرة عائلة «آل عساف» التي وقعت في بلدة الغنطو في ريف حمص الشمالي في الـ 15 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي والتي ذهب ضحيتها 24 مدنيا بينهم 29 طفلا و13 امرأة اثر استهداف الطيران الحربي لملجأ تقطنه عائلة عساف.
وملف متعلق بمجزرة الأتارب في ريف حلب الغربي والتي قضى نتيجتها 80 مدنيا وأكثر من 100 جريح نتيجة القصف الجوي لسوق البلدة في الـ13 من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. فيما خصص الملف الثالث لمجزرة معرشورين شرق مدينة معرة النعمان في محافظة إدلب والتي نفذها الطيران الروسي قبل أيام من جولة أستانة والتي تزامنت مع تقدم النظام وحلفائه في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشرقي.
وقدم الوفد العسكري ملفا خاصا بحزب الاتحاد الديمقراطي والذي اعتبره الوفد «النسخة الروسية لحزب العمال الكردستاني» وبين الملف ما وصفه بـ«جرائم الإبادة الجماعية للسكان واغتصاب الأرض وفرض أمر واقع بقوة السلاح» واتهم الوفد الحزب بأعمال «التهجير العرقي وخطف واعتقال وتهجير الكرد المخالفين لرؤيته».
وأوضحت الوثيقة «سرقة القطن والقمح والغاز والاستيلاء على مقدرات المنطقة». واعتمد على شهادات جديدة أدلى بها العقيد طلال سلو القيادي المنشق عن «قوات سوريا الديمقراطية» مؤخراً. ووجه الوفد الملف الأخير إلى الأمم المتحدة عبر وسيطها الدولي إضافة إلى الجانب الروسي.
من جهته، أكد رئيس الوفد العسكري الدكتور أحمد الطعمة على أهمية اللقاءات الثنائية التي حصلت يوم الخميس مع الدول الضامنة مشيراً إلى ضرورة التركيز على حصول تقدم جوهري بملف المعتقلين بشكل أساسي. وشدد على ملف المعتقلين وأكد على ضرورة تفعيل اتفاقية المعتقلين وأن يكون الجوهر الأساسي لهذه الجولة. وطالب الطعمة رئيس الوفد التركي الضغط على النظام والدول الضامنة الأخرى من خلال «الالتزام الكامل باتفاقية خفض التصعيد تحديدا في إدلب والغوطة» معتبرا الاتفاقية تتعلق بسلامة وأمن ملايين السوريين.
صمت «وفد الفصائل» ورغبتها شبه المعلنة لحضور مؤتمر سوتشي في ظل تقدم عسكري لقوات النظام وحلفائه في ريف حماة الشرقي ودخولهم إلى الأراضي الإدارية لمحافظة إدلب، لم يعد يخفي حالة التبعية والارتهان للفصائل إلى الدول الداعمة إقليمياً. حيث انتقلت الفصائل من شهادة الزور في أستانة-1 إلى حال مجمل القبح. وأصبحت تعول بكل وقاحة على ضغط روسي على النظام السوري ليوقف قصفه وعملياته العسكرية. وكأن القوات الروسية التي بلغ تعدادها قرابة الخمسين ألفا في سوريا (حسب وزير الدفاع الروسي) هي قوات حفظ سلام لدى الأمم المتحدة.
وغاب عن «الوفد العسكري» أي ذكر لإيران ودورها ودور ميليشياتها وكأن الوفد العسكري قد أصبحت مرجعيته لدى «منصة موسكو» التي تحفظت على المطالبة بخروج إيران وميليشياتها من الأراضي السورية.
الانهيارات السريعة والمتلاحقة منذ قبول المنصات في وفد «الهيئة العليا للمفاوضات» إلى ادخال منصة موسكو إلى جسم المعارضة وجعلها صاحبة قرار وشريك، ستدفع فصائل المعارضة نفسها إلى حضور مؤتمر سوتشي أو مؤتمر الحوار الوطني السوري – السوري والذي يرتبه النظام بمشاركة روسيا لبحث «سلة الدستور»، في مشهد يعيد عقارب الساعة قرابة السبع سنوات عندما عقد النظام مؤتمر الحوار الوطني في العاصمة دمشق وكلف فاروق الشرع برئاسته وغابت عنه أطراف المعارضة الوطنية يومها. لكنه اليوم سيعقد بمعارضة شرعت الاحتلال الروسي وقبلت بمساره في الحل السياسي من خلال القبول بنظرية ملء فراغ المشاركة أو سيحضر الأسوأ. وهو الحجة المنتظرة لحضور سوتشي: «ان لم نشارك فروسيا ستدعو حزب الاتحاد الديمقراطي وعلينا ان نقطع الطريق ونمنعه من المشاركة».
القدس العربي
مؤتمر سوتشي: عنوان جديد لتقسيم المعارضة السورية/ محمد أمين
يزدحم الشهر الأول من العام المقبل بكثير من الاجتماعات والمؤتمرات في مسعى للتوصل إلى حل سياسي للقضية السورية، تضع روسيا كل ثقلها من أجل أن يأتي متماهياً مع رؤيتها لترسيخ وجودها في سورية، وهو لا يتأتى إلّا من خلال إعادة إنتاج النظام الذي يأمل في أن يكون مؤتمر سوتشي المقرر عقده أواخر يناير/ كانون الثاني المقبل طوق نجاة له من مسار جنيف الذي أعلن المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا عقد جولة تاسعة منه في يناير/ كانون الثاني أيضاً.
ولم تحسم المعارضة السورية أمرها بعد حيال المشاركة في مؤتمر سوتشي، إذ أشارت مصادر إلى أنه محاولة لتشويه، بل تصفية القضية السورية برمتها، من خلال القفز فوق قرارات دولية تدعو إلى انتقال سياسي يفكّك النظام القائم، وينقل البلاد إلى ضفة التعددية السياسية، وهو ما يحاول النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون إفشاله بكل السبل، بما في ذلك ارتكاب المجازر وعدم إطلاق المعتقلين، واستمرار حصار مئات آلاف المدنيين، خصوصاً في الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق.
وأكد المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، في تصريحات صحافية، أمس السبت، أن المؤتمر المزمع عقده في سوتشي الروسية يومي 29 و30 يناير/ كانون الثاني المقبل، بمشاركة 1500 شخص، سينظر في إجراء إصلاحات دستورية وانتخابات في سورية بإشراف أممي، مشيراً إلى أن موسكو “تعمل على مشاركة ممثلي جميع الأطياف السورية” في هذا المؤتمر. ولفت لافرينتييف إلى اعتراض أنقرة على مشاركة أشخاص في المؤتمر ممن تتهمهم بصلتهم بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، مضيفاً أن دي ميستورا لم يتخذ قراره أيضاً بعد بشأن مشاركته في المؤتمر.
من جانبه، رجّح نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن يتم خلال مؤتمر سوتشي “تشكيل لجنة دستورية تحصل على تفويض عام من الشعب، ولذلك سيكون هناك بين 1500 و1700 مشارك”، مشيراً إلى أن “ممثلي الشعب بأسره يعتبرون مصدراً للتشريع حول المسائل كافة، بما في ذلك بدء إصلاح دستوري والتحضير لدستور جديد”. وأوضح المسؤول الروسي، أمس، أنه “سيتم تشكيل مجموعات عمل خاصة، ويمكنها الاجتماع لاحقاً في جنيف”.
وكانت موسكو قد سعت إلى عقد المؤتمر في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت، إلّا أنّ مساعيها باءت بالفشل، إثر رفض المعارضة المشاركة فيه، واعتراض تركيا على حضور حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. ومن الواضح أن موسكو استجابت للرغبة التركية في استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عن المؤتمر لضمان مشاركة أنقرة، ومن ثمّ مشاركة جانب مهم من المعارضة مرتبط بتركيا، خصوصاً الائتلاف الوطني السوري الذي يتخذ من إسطنبول مقراً دائماً له. كذبك لتركيا تأثير على فصائل عسكرية على الأرض تتبع للمعارضة السورية في شمال وشمال غربي سورية، تأمل موسكو في مشاركتها أيضاً في مؤتمر سوتشي لإعطائه زخماً سياسياً وإعلامياً كبيراً، وكي يكتسب المؤتمر رضا الشارع السوري المعارض الذي لا يزال يرى أنّ مؤتمر سوتشي سيكون بمثابة الرصاصة الأخيرة على القضية السورية برمتها.
وبدأت موسكو السير عكس العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف السويسرية، وهو ما يولّد مخاوف من محاولات روسية لتصفية القضية السورية وإعادة إنتاج النظام ورأسه بشار الأسد، لترسيخ نفوذها في سورية واستعادة دورها المؤثر في العالم من خلال فرض رؤيتها في شرقي المتوسط.
وأكد مصدر رفيع المستوى في الائتلاف الوطني السوري، في حديث مع “العربي الجديد”، أن مؤتمر سوتشي “انزلاق كبير، ومحاولة روسية لتشويه القضية السورية”، مضيفاً “لا بد من الحديث مع حلفائنا الأتراك لتوضيح موقفنا، ونقل هواجس الشارع السوري المعارض حيال هذا المؤتمر”. وأوضح المصدر أنه سيكون هناك اجتماع “تنسيقي” في منتصف الشهر المقبل بين الدول الثلاث الضامنة (تركيا وإيران وروسيا) من أجل التحضير للمؤتمر، مشيراً إلى أن الروس يحاولون اختزال القضية السورية بالانتخابات. وكشف أن “هناك مؤشرات على أن الروس أعدوا مشروع حلّ يتوافق مع مصالحهم، والمطلوب من المشاركين التوقيع عليه”، مشيراً إلى أنّ المعارضة السورية تنظر بعين الريبة والشك نحو مؤتمر سوتشي، متسائلاً: “كيف نعقد اجتماعاً في أرض قوة احتلال لا تزال تصرّ على إعادة إنتاج النظام، وإعفاء بشار الأسد من المسؤولية الجنائية حيال الجرائم التي ارتكبت في سورية طيلة أعوام؟”.
وكشف المصدر أنّ موسكو “تخطط لتشكيل هيئة تأسيسية مرتبطة بها لكتابة دستور دائم للبلاد تُجرى على أساسه انتخابات يشارك فيها الأسد”، مضيفاً: “طالما أن أجهزة النظام الأمنية موجودة فنتيجة أي انتخابات معروفة”. وقال المصدر إن موسكو “ستلجأ إلى مجلس الأمن لإكساب مخرجات سوتشي شرعية دولية، وهذا يعني إلغاء بيان جنيف 1 والقرار 2218″، مشيراً إلى أنّ “الروس سيمارسون ضغوطاً على أطراف في المعارضة للمشاركة في المؤتمر الذي تعد المشاركة فيه خيانة للثورة طالما أنه لا يتمخّض عن حلّ لا يقصي بشار الأسد عن السلطة في أقلّ تقدير”. وأوضح المصدر أن “هناك إجماعاً من الشخصيات الوطنية التي تملك تأثيراً في الشارع السوري على رفض المشاركة في المؤتمر مهما كانت الضغوط”، متسائلاً: “ما دام الروس يبحثون عن حلّ، لماذا يحاولون الالتفاف على قرارات الشرعية الدولية، وإجهاض مسار جنيف الذي يحاول تطبيقها”.
من جانبه، أشار الناطق باسم هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية يحيى العريضي، في تصريحات لـ “العربي الجديد”، إلى أنّ هناك ما سماه بـ”الخبث الروسي” من خلال “استجلاب هذا العدد الهائل المهلهل، الرغو، غائب الملامح، مهتزّ الثوابت، ما يجعل أي ورقة قوة بيد أي مجموعة أو هيئة، بلا تأثير فعلي”. واعتبر العريضي أنه “من هنا ستكون الدراسة المعمقة للقصة، وبلورة مواقف واستراتيجية ذات تأثير فعلي”، مضيفاً “المسألة ليست نعم أو لا”.
وكان من الواضح أنّ روسيا بذلت جهوداً من أجل استمالة قادة الفصائل العسكرية التي شاركت في جولة أستانة 8 التي انتهت الجمعة من دون تحقيق نتائج مباشرة حيال ملفي المعتقلين والمناطق المحاصرة، من أجل المشاركة في مؤتمر سوتشي. ولكن رئيس اللجنة العسكرية في وفد قوى الثورة العسكري العقيد فاتح حسون أكّد في تصريح لـ”العربي الجديد” أن موقف الفصائل أوضحه رئيس وفد قوى الثورة العسكري أحمد طعمة في أستانة. وكان طعمة قد قال الجمعة في مؤتمر صحافي إنه سيتم التشاور مع كل القوى المدنية والعسكرية قبل تحديد موقف حيال هذا المؤتمر. لكنه أضاف أنه “من حيث المبدأ، إذا كان المؤتمر سيؤدي إلى دفع مسار جنيف المبني على القرارات الدولية، فإننا نرحّب به. أمّا إذا كان له مسار مستقل يخرج عن هذه القرارات، فلن يكون محلّ ترحيب”، موضحاً أنه يستلزم معرفة بعض التفاصيل قبل اتخاذ القرار بشأن المشاركة في المؤتمر أو عدم المشاركة.
ومن المقرر أن تعقد جولة تاسعة من مسار جنيف في النصف الثاني من يناير/ كانون الثاني المقبل، أي قبل انعقاد مؤتمر سوتشي بأيام عدة، إذ من الواضح أن لدى المبعوث الأممي إلى سورية خشية من محاولة روسية تهميش بل تحييد الأمم المتحدة عن القضية السورية. ولم تعط موسكو حتى اللحظة المعارضة السورية ما يشجّعها على المشاركة في سوتشي، إذ لم تضغط على النظام لإطلاق سراح عشرات آلاف المعتقلين، أو فكّ الحصار عن المناطق المحاصرة والكف عن محاولات السيطرة على مناطق المعارضة في وسط، وفي شمال غربي سورية.
اقــرأ أيضاً
اختلاف الأجندات في أستانة8… وروسيا لجر المعارضة نحو سوتشي
العربي الجديد
مستقبل سوريا… يتقرّر بغياب السوريين/ إياد أبو شقرا
بعد ثماني جلسات تفاوضية في جنيف، ومثلها في العاصمة الكازاخية آستانة، اتفق «رعاة» السلام السوري المفقود على الاجتماع قريباً في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود.
اختلفت الآراء حول الحاجة أصلاً للتفاوض في آستانة بوجود مسار برعاية الأمم المتحدة في جنيف، بل في ظل الاتفاق – لفظياً على الأقل – على الالتزام بما أفضى إليه اجتماع جنيف الأول، أو «جنيف1»، واعتبار «مسار جنيف» هو باب التسوية في سوريا.
في ظل ازدواجية المواقف وتناقض المعايير، وتعمد تغيير الحقائق على الأرض، ونكوص بعض الأفرقاء الأساسيين عن التزاماتهم… تبدّلت معطيات كثيرة.
روسيا، بداية، تحركت من «فيتوهاتها» على المحاولات الدولية لوقف القمع الدموي للثورة الشعبية السلمية، إلى إعادة تفسير أو تأويل نصوص «جنيف1» تدعمها الصين دبلوماسياً، وإيران… على الأرض.
ومن ثم، شنت روسيا وإيران حملة شرسة، لتبرير دعمهما المتصاعد الآلة العسكرية لنظام دمشق، بحصول «الجيش السوري الحر» والفصائل السورية المعارضة على دعم خارجي أبرزه من تركيا.
أكثر من هذا، اتهم قادة روسيا وإيران أنقرة بالتواطؤ مع الإرهاب (السنّي – حسب تعريف موسكو وطهران) وإدخال العناصر المتطرفة إلى الداخل السوري عبر تركيا وتزويدها بالسلاح. ومعلوم أن أنقرة دأبت في مستهل الثورة على التهديد بأنها «لن تقف مكتوفة الأيدي» إزاء ما يفعله نظام بشار الأسد بشعبه.
من جهة أخرى، تعاملت الولايات المتحدة مع انطلاق الثورة السورية بتأييد ومباركة واضحين، كما فعلت مع الانتفاضات الأخرى التي شملها ما يُعرف بـ«الربيع العربي» عام 2011، وأطلق مسؤولوها، كما نتذكر، عبارات من نوع «الأسد فقد شرعيته» و«لا دور للأسد في مستقبل» سوريا. غير أنه كان هناك موقفان متحفظّان عن الثورة منذ تلك المرحلة المبكرة من عمرها أسهما في إعادة رسم الأولويات الأميركية والغربية عموماً تجاه الثورة، هما: الصمت الإسرائيلي الرسمي المريب تجاهها، ووقوف بعض المرجعيات الدينية المسيحية الشرق أوسطية ضدها صراحة. وفي الواقع، بينما حرصت الأجهزة الإسرائيلية الرسمية على التزام الصمت، كانت جهات استخباراتية وإعلامية تتحدث صراحة أن لا مصلحة عند إسرائيل بسقوط نظام ضمن لها أمن حدودها الشمالية منذ 1973، أما عن المرجعيات المسيحية، ومنها قيادات إكليريكية لبنانية وسورية، فقالت علناً في العواصم الغربية ما معناه إنه في حين لا يعد نظام الأسد مثالياً فإن أي بديل منه سيكون أسوأ.
في هذه الأثناء، بالتوازي مع ثورة سوريا وغيرها من انتفاضات «الربيع العربي» المتأرجحة بين السلاسة والحروب الأهلية المفضية إلى «دول فاشلة»، كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يصوغ استراتيجيته الراديكالية لمنطقة الشرق الأوسط. كان أوباما يعجّل الخطى نحو بناء «شرق أوسط جديد» مختلف كلياً عن الشرق الأوسط الذي تعاملت معه واشنطن طيلة حقبة «الحرب الباردة»، بل منذ 1979 تحديداً.
استراتيجية أوباما تضمنت استعادة إيران حليفاً للولايات المتحدة، ولكن هذه المرة بعكس التحالف القديم بين واشنطن والشاه عندما اعتبرت الإدارات الأميركية الشاه «حليفاً تابعاً»، مهمته تنفيذ رغباتها، و«حلقة» من حلقات أحلافها لتطويق الخطر السوفياتي واحتوائه. هذه المرة رأى أوباما في «الثورية» الإيرانية «حليفاً شريكاً» موازياً يعتمد عليه ضد اليمين العربي والسياسات «الانتحارية» للأصولية السنيّة، حسب وصفه. وبالتالي، صار الاتفاق النووي الذي توصلت إليه واشنطن أوباما مع طهران الملالي – بعد مفاوضات سرّية طويلة – من ركائز الاستراتيجية الجديدة لواشنطن في المنطقة. ومن أجل إنجاز هذا الاتفاق، وتثبيته وفرض مفاعيله كانت إدارة أوباما مستعدة إلى الذهاب بعيداً. وهكذا، كانت ثورة الشعب السوري، التي تعتبرها طهران خنجراً يغرز في ظهر مصالحها، الضحية الأولى للصفقة الأوبامية – الخامنئية.
وبمرور الأيام، واستمرار النزف والقمع في سوريا، وصولاً إلى استخدام النظام الأسلحة الكيماوية التي تصوّر كثيرون أن استخدامها يشكل «خطوطاً حمراء» غير مسموح بتجاوزها، أدّى تجاهل واشنطن «الخطوط الحمراء»، وسخرية أوباما علناً من قدرات الفصائل السورية المعارضة، إلى دخول الثورة مرحلة مختلفة تماماً. عند هذه النقطة أدرك النظام، ومعه موسكو وطهران، أن أولويات واشنطن باتت في مكان آخر، وأن يده باتت حرة مُطلقة ليفعل ما يريده.
في المقابل، أدّى تطوّران إلى إحداث تغيير جوهري ظاهر في موقف تركيا.
التطوّر الأول، كان بدء واشنطن دعم الجماعات الانفصالية الكردية في شمال سوريا عسكرياً وسياسياً، بذريعة أنها «القوة الوحيدة على الأرض» القادرة على إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش الإرهابي… الذي سمحت له المواقف الدولية الملتبسة بأن ينمو ويتمدّد ويدمّر ويهجّر.
والتطوّر الثاني، كان إسقاط تركيا مقاتلة قاذفة روسية كانت تدعم قوات النظام في المنطقة الحدودية بشمال غربي سوريا في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وبعدها، في ظل اندلاع خطر مواجهة غير متكافئة بين روسيا وتركيا، وإحجام واشنطن وحلف شمال الأطلسي (ناتو) عن دعم تركيا… الدولة العضو في الحلف، قرّرت أنقرة «التفاهم» مع موسكو. أضف إلى ذلك، أن الاندفاع الأميركي في مساندة الأكراد أوجد قواسم مصلحية مُشتركة بين أنقرة وطهران بررت للأتراك التضحية بالسوريين وثورتهم.
منذ ذلك الحين، وبعدما كانت روسيا وإيران تبرّران «احتلالهما» سوريا بمكافحة «الجماعات التكفيرية المدعومة من تركيا»، تفاهم الروس والإيرانيون والأتراك على مصالحهم المشتركة سورياً وإقليمياً، وكانت الثمرة فكرة آستانة التي دُعي إليها ما تبقّى من فصائل سوريا معارضة لأول مرة.
الواضح الآن، لدى النظرة إلى الحقائق على الأرض، أن الغاية تكبيل الفصائل المسلحة وفتح معارك داخلية بين معتدليها ومتطرفيها (جبهة النصرة وتوابعها). فمنذ 23 و24 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي 2017 استضافت العاصمة الكازاخية آستانة ثماني جلسات تفاوضية برعاية روسية، ومشاركة أممية وأميركية، شهدت سلسلة تنازلات سياسية واستقالات متواصلة من وفود التفاوض السورية المطوّقة، وفرض النظام والروس والإيرانيون ما يريدونه على الأرض.
السلام السوري انتهى.
والمتوجّهون إلى سوتشي لن يمثّلوا سوريا، بل رُعاتهم وداعميهم… وهنا المأساة الكبرى.
الشرق الأوسط
موسكو تشترط «التخلي عن مطلب رحيل الأسد» لحضور مؤتمر سوتشي/ طه عبد الواحد
توقعت أن يسفر الحوار السوري عن تشكيل لجنة دستورية
أكدت الخارجية الروسية أن العمل يجري على قدم وساق حالياً لوضع قائمة المدعوين للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي نهاية يناير (كانون الثاني) 2018، وحددت سقف مشاركة المعارضة في المؤتمر بالتخلي عن فكرة «عدم بقاء (الرئيس بشار) الأسد في السلطة»، وأكدت عزمها توجيه دعوة إلى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وأنها ستدرس إمكانية مشاركة الأميركيين، لكن بصفة مراقب، إنْ رغبوا.
وأوضحت أن الدول الضامنة ستشارك كذلك بصفة مراقب، وأن من سيتكلم هم السوريون فقط. وقالت إن المؤتمر سيجمع ممثلين عن جميع فئات وأطياف الشعب السوري، ما يمنحه الشرعية لتشكيل لجنة دستورية، تقوم بوضع دستور تجري الانتخابات على أساسه، وعلى أساس تلك الانتخابات يجري تشكيل مؤسسات السلطة التنفيذية في البلاد، دون أن توضح مفهومها لمعنى «مؤسسات السلطة التنفيذية»، وما إذا كانت تطال «موقع الرئاسة» أم لا.
وقال ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي إن نحو 1700 شخص قد يشاركون في مؤتمر سوتشي. ورجح في تصريحات لوكالة «ريا نوفوستي» أن يشهد المؤتمر «تشكيل لجنة دستورية»، وأن هذه اللجنة «ستحصل على تفويض من الشعب، لأن بين 1500 و1700 شخص يمثلون كل الشعب السوري (سيشاركون في المؤتمر) وهؤلاء هم مصدر الشرعية في كل المسائل، بما في ذلك مسألة إطلاق الإصلاحات الدستورية، وإعداد الدستور». وألمح إلى رغبة روسيا ببقاء كل الجهود تحت المظلة الدولية، حين أشار إلى أن «لجنة عمل خاصة (في موضوع الدستور) سيجري تشكيلها، ومن ثم ستتمكن تلك اللجنة من عقد اجتماعاتها في جنيف». وأضاف موضحاً: «أي أنه سيجري إعداد دستور، لأن الانتخابات ستكون على أساس الدستور، وعلى أساس الانتخابات سيجري تشكيل مؤسسات جديدة للسلطة التنفيذية».
وأكد بوغدانوف أن العمل يجري حالياً على قدم وساق لوضع قائمة المدعوين للمشاركة في مؤتمر سوتشي. وقال: «سندعو جميع المشاركين، وأقصد السوريين الذين يشاركون في لقاءات آستانة وفي جنيف. ونرحب بكل من يعتبر نفسه ممثلاً للشعب السوري ويرغب في المشاركة». وأشار إلى أن العمل على وضع قائمة المدعوين يجري حالياً، مع أخذ وجهات نظر الدول الضامنة في الحسبان. وبالنسبة إلى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، أكد بوغدانوف «سنوجه إليه الدعوة». ونوه بأن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، أكدا للمبعوث الدولي، خلال محادثات معه في موسكو يوم الخميس 21 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أن الفعاليات إن كانت تلك التي تجري على «مسار آستانة» أو مؤتمر سوتشي، ترمي إلى مساعدة عملية التسوية السورية بموجب القرار 2254، وعلى أساس الإدراك أن السوريين يقررون مصيرهم بأنفسهم.
يذكر أن دي ميستورا شدد خلال محادثاته مع لافروف وشويغو، ومن ثم عقب مشاركته أول من أمس، في اليوم الثاني من «آستانة – 8»، على أنه لا بديل عن عملية جنيف للتسوية السورية، ورفض التعليق على فكرة مؤتمر سوتشي.
كان ألكسندر لافرينتيف، المبعوث الرئاسي الروسي الخاص إلى سوريا، قد حدد سقف وشروط مشاركة المعارضة في مؤتمر سوتشي، وأشار إلى أن الدول «الضامنة» تأمل أن تشارك في مؤتمر سوتشي «جميعُ قوى المعارضة المتمسكة بسيادة واستقلال سوريا ووحدة أراضيها، وتؤيد الحرب ضد (داعش)، ومع الطابع العلماني للدولة السورية»، وأكد: «إذا كان هؤلاء (المعارضة) عازمين على الأجواء الإيجابية، فإننا مستعدون لاستقبالهم، وتوفير فرصة لقدومهم». وشدد لافرينتيف بعد ذلك على أنه «في حال يريدون استخدام سوتشي ليكرروا مرة ثانية شعارهم حول عدم القبول ببقاء الأسد في المرحلة اللاحقة في السلطة، فأعتقد أنه لا مكان لهم هناك (في مؤتمر سوتشي)»، وبرر هذا الموقف بوصفه مَن يتمسكون برحيل الأسد بأنهم «أناس يؤيدون مواصلة العمل المسلح». وقال: «نريد أن يشارك في المؤتمر أولئك الذين يقفون حصراً مع الحوار السياسي. وأن يجلسوا بهدوء، ويُلقوا جانباً كل أفكارهم المسبقة التقليدية الخاطئة، وأن يجتمعوا ليتحدثوا حول كيفية المضي قدماً».
في المقابل، شدد لافرينتيف على ضرورة موافقة رأس النظام السوري على اللجنة الدستورية التي سيشكلها المشاركون في سوتشي، وقال إنه وبغض النظر عما سيتفق السوريون على تشكيله: لجنة لصياغة الدستور، أو تعديل الدستور الحالي، فإنه وبكل الأحوال «يجب أن يكون هذا مرتبطاً بالتشريعات السورية، وأن يتم إقراره بالتزام صارم بالدستور الحالي». وقال: «بموجب الدستور يجب أن يوافق الرئيس الحالي على تلك اللجنة»، واستدرك وقال إنه «من الممكن أن يتم إيجاد آليات أخرى، وربما تتم الاستفادة من الآلية المتوفرة، ويوافق الرئيس الحالي على اللجنة، وتباشر عملها إما بوضع دستور جديد وإما بتعديل الحالي. هذه أمور يقرها السوريون».
وشدد المبعوث الرئاسي الروسي على ضرورة أن يجري مؤتمر سوتشي برعاية الأمم المتحدة، وقال في حديث لوكالة «ريا نوفوستي»: «نأمل بالطبع أن يأتي المبعوث الدولي ويشارك في المؤتمر (…) ونرى أن المؤتمر يجب أن يجري برعاية الأمم المتحدة تحديداً، وبالطبع يجب أن تكون هذه المنظمة ممثَّلة بأوسع صورة ممكنة في سوشتي، وألا يقتصر الأمر على أعضاء في المنظمة، روسيا وتركيا وإيران». وعاد وأكد أن موسكو مهتمة برعاية الأمم المتحدة للمؤتمر، وحدد مهام مشاركتها بـ«التصحيح والتوجيه، تماماً كالدور الذي ستلعبه الدول المشاركة في أعمال المؤتمر». وقال إن «موسكو ستنظر في توجيه الدعوة إلى الأميركيين، لكن إن عبّر الجانب الأميركي عن رغبة في المشاركة، وحينها قد تتم دعوتهم لكن بصفة مراقب».
ولفت لافرينتيف إلى أن «جميع الفئات المشاركة في المؤتمر ستتمكن من الحديث، لكن ليس كل مشارك، لأن العدد كبير». وقال إنه «من المهم أن يعبر الجميع عن وجهات نظرهم، لا بخصوص السلطة الحالية فحسب، بل ورؤيتهم للدرب التي يجب المضي عليها قدماً، وكيف يرون تنظيم عملية انتخابات على جميع الأراضي السورية، تكون في الواقع نزيهة وشفافة، وكيف ينظرون إلى مشاركة مختلف القوى التي تؤيد الانتخابات في عملية المراقبة». وبالنسبة إلى رئاسة مؤتمر سوتشي، قال لافرينتيف إنه لا يوجد مرشحون بعد لهذا الدور، ونفى المعلومات التي تناقلتها وسائل إعلام روسية وعربية حول توجيه الدعوة إلى فاروق الشرع، النائب سابقاً للرئيس السوري، كي يترأس المؤتمر.
الشرق الأوسط