الحنين إلى سوريا التي اختفت/ سمير الزبن
(إلى أصدقائي الباقين في دمشق)
بعد ثلاث سنوات من الغياب، تبدو دمشق بعيدة جدا وكأنها تأتي من الحلم. أسأل نفسي، هل عشت هناك حقا؟ هل كانت المدينة مدينتي؟ وهل أنا أنا بعد الرحيل وهي ما زالت على حالها؟
في أوقات أخرى، تبدو دمشق كأنها ملتصقة بي، دمشق التفاصيل، المدينة التي ذرفت حياتي على طرقها، طفولتي، شبابي، نضجي، وعندما اقتربت من كهولتي، اضطررت للرحيل عنها. أسأل نفسي، هل رحلت عن المدينة حقا؟ هل استطيع نزعها من حياتي وكأني عشت في الفراغ؟ هل تستطيع دمشق الرحيل مني؟ هل ما أنا عليه بفضل المدينة، أم على الرغم عنها؟
أكذب إذا قلت إني أحببت دمشق. وأكون منافقا إذا قلت إني عشقت المدينة. لم اختبر مشاعري تجاهها سابقا، فأنا لم أغادر المدينة سوى لأيام عدة، لا تكفي لتأمل المسافة بيني وبينها. كما أنه من الصعب أن تختبر مشاعرك تجاه دمشق وأنت تعيش فيها، فهي مدينة مخادعة. لم يكن السؤال مطروحا؛ لم أجهد نفسي في الإجابة عنه، وجدت نفسي بحكم المصادفة في هذا المدينة، لذلك عشت فيها، لا علاقة للحب والكراهية بمكانة المدينة في نفسي.
ولدت في المدينة غريبا، لأبوين غريبين تقاذفتهما نكبة فلسطين ليجدوا أنفسهم مع خمسة أطفال في دمشق. لم يتعلم أبي درس النكبة، ويتوقف عن الإنجاب، استمر في الإنجاب، وأضاف إلى العائلة أربعة أولاد، كنت آخرهم في الترتيب. لم اشعر يوما أن دمشق مدينتي، ولطالما شعرت أن هناك جدار يفصلني عنها. كان حسد أصدقائي السوريين يهوّن عليّ غربتي، فأعرف أنهم غرباء في بلدهم أكثر مني. كانت ذروة الحسد، في الأيام الكابوسية لاستفتاءات الرئاسة، عندما يقاد الجميع كقطيع، لإعلان الإذعان للرجل الأول الذي امتهن إذلال البلد بكل الطرق التي يخترعها عقل مريض. أما في مسيرات التأييد للرجل «المعجزة» فكنا جزءا من القطيع. بعيدا عن السياسة كان أصدقائي السوريون يشفقون عليّ بوصفي الغريب الدائم في بلد يدّعي أنه يُبقيني غريبا من أجل مصلحتي الشخصية والوطنية، حفاظا على حقي بعودة يعرف أنها مستحيلة، لكنها تصلح كشعار لتوغل في سحق البلد وناسه.
«إذا خربت حياتك في هذه الزاوية من العالم.. أينما حللت فهي خراب»، طوال السنوات الثلاث المنصرمة كانت كلمات الشاعر، قسطنطين كافافي، تدق في رأسي طوال الوقت. نعم، لقد كانت حياتي خربة من قبل أن أولد، لم أعرف الطبيعي حتى أقيس عليه، كيف يعيش الإنسان العادي في وطنه في ظل شروط عادية؟ هذا ترف لم أعرفه. كنت واهما عندما اعتقدت أن الآخرين (السوريين) يعرفون ما هو الطبيعي. كان الطبيعي في ظل حكم البعث، أن يكون الاستثناء هو القاعدة، وكانت غربة السوريين في وطنهم أكثر قسوة من غربتي فيه. كان السوري الذي يجايلني، نحن الذين ولدنا بعد حكم البعث وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في آذار 1963، لم نعرف الطبيعي، عشنا حياتنا كلها في ظل الاستثنائي، لدرجة لم يعد أحد يذكر ما كانت عليه البلد قبل البعث وقبل الأسد الأب. لا تاريخ لسوريا قبلهما، يبدأ التاريخ وينتهي بهما. كان القمع يوحد الجميع في سوريا «مواطنين» وغرباء. لم ينل السوريون والفلسطينيون وحدهم حصتهم من القمع، فقد وسع النظام قمعه وشمل آلاف اللبنانيين والكثير من العراقيين والأردنيين وغيرهم أيضا.
في يوم مثلج من شهر شباط 2003 استدعاني «فرع فلسطين» الشهير بوحشيته. دخلت الفرع بعد أن سلمت هاتفي المحمول على بابه الخارجي ـ بالطبع كان بعض المعارف قد رتبوا الموضوع مع متنفذين في الفرع ـ لأجد نفسي متهماً بأني على صلة مع «جهات عدوة»، حيث أذهب إلى بيروت بين فترة وأخرى، لأركب من هناك طائرة بجواز سفر لبلد أخرى، أذهب إلى برلين لأسلم هناك شخصاً ما اسمه سعيد، معلومات سرية عن سوريا، لأعود إلى بيروت بالطريقة عينها، وأدخل إلى دمشق بأوراقي العادية. هالني الاتهام، لكني لم أشعر بالخوف، لا أدري لماذا! عندما طلبت من المساعد الذي يملأ الأوراق بإجاباتي معرفة من الذي اتهمني بهذه الاتهامات؟ قال لي أن المصدر مغفل، وبعد إلحاح مدّ يده بورقة مروسة بشعار الأمن العام اللبناني. قال لي المساعد ليطمئنني، إنه إجراء شكلي لطي الملف، ونحن نعرف أنه ادعاء كيدي. عند الانتهاء ذهبنا إلى ضابط برتبة رائد كما كانوا ينادونه. قلت ممازحا في لهجتي، وأنا أغلي من داخلي، ألا يوجد غير هذه التهمة لتلصق بي يا سيادة الرائد؟ ضحك يشكل استعراضي، وقال: «شغلة فاضية، جيبوا قهوة للأستاذ» بعد إجراءات روتينية ومرور العميد رئيس القسم ليشاهد طولي، أخلي سبيلي. أعادوا هويتي، وعند الباب الخارجي، أعادوا لي هاتفي المحمول. وعندما أصبحت خارج الفرع، فجأة سقط قلبي، وشعرت بالرعب. ما الذي كان سيحدث لو تم اعتقالي بتهمة «التجسس لمصلحة إسرائيل»؟! خلال أشهر، سيقتنع الكثير من الأصدقاء أني جاسوس وعميل، وخلال عامين أو ثلاثة سيقتنع أغلب أهلي بذلك. وسيكبر أولادي وهم يحملون عار أبيهم. نعم، أصابني الرعب، وسألت نفسي، كم من الأشخاص الذين لُفقت لهم التهم، يقبعون ظلما وراء جدران هذا الفرع وغيره من فروع الظلام، خسروا كل شيء، ليس أعمارهم فقط، بل سمعتهم أيضا؟!
نعم، لقد وحدّ الرعب الجميع في سوريا، لم ينج أحد من مساءلة المخابرات، ومئات آلاف المعتقلين في زمن الأسد الأب، ومجزرة بشعة في مدينة حماة في العام 1982. لقد نجح الأسد الأب بإخراس البلد وبتعميم الخوف على الجميع. أي وطن هذا الذي أولد فيه خائفا؟! ما معنى أن أكون سوريّا في زمن البعث والأسد، سوى أن أكون خائفا من كل شيء؟! أفكر أحيانا، كم من العائلات ستهدم، إضافة إلى تلك التي هدمتها وحشية الأسد الابن، إذا سقط النظام وفُتحت ملفات المخابرات للعموم؟! كم من الأبناء والآباء والزوجات والأزواج والأخوة، الذين أجبرهم النظام على كتابة تقارير ببعضهم البعض؟ ستدمر مكانة بعضهم عند بعض؟! ستبقى آثار النظام المدمرة فعّالة حتى بعد سقوط النظام، الخيال الإجرامي في أوسع حدوده.
هذه السوريا التي شوهتني وشوهت كل السوريين، وحولتنا إلى معطوبين ومخصيين. هناك الكثير الذي دمر في سوريا قبل سقوط البراميل المتفجرة التي أرسلها ألأسد الابن لتسقط على رؤوس السوريين في المدن والقرى السورية، متمما مهمة والده. هذه السوريا لا يضربني الحنين إليها على الإطلاق، ذكراها يشعرني بالخوف.
في ظل الليل الطويل الذي عاشته سوريا، كان علينا أن نخترع حياتنا في الهامش، حياة خصوصية، بين السر والعلن، نحن والأصدقاء الذين يشبهوننا خلقنا عالما ضيقا في ليل سوريا الطويل، عالم ساعدنا على تحمّل ثقل الحياة في ظل البعث، عالم حاولنا أن يكون له معنى في ظل اللامعنى الذي كانت تعيشه سوريا. مجموعة من الأصدقاء الذين يتم اختيارهم بعناية وخوف ليشكلوا عالما سفليا مضيئا في ظل العالم المظلم لسوريا البعث. هذا العالم هو، أصدقائي، أحبتي الذين عملنا معا على خلق حياة ما من العدم. عالم هامشي هش، مهدد بالهدم في كل لحظة من قبل نظام قمعي اعتباطي. هذا العالم هو ما أحنّ إليه في دمشق. لا احنّ إلى الحجارة والطرق، ولا أحن إلى التاريخ التافه للبلد ولا إلى عمارة البلد القبيحة. أحنّ إلى الأصدقاء الذين كانوا أجمل ما في تجربتي السورية. واليوم تكاد سوريا تفرغ منهم تماما، فهم ينقصون كل يوم، وتزداد سماء دمشق ظلمة.
المستقبل