رستم محمودصفحات الناس

المغفرة.. كنت بعثياً/ رستم محمود

كُنا وقتها في الصف التاسع، دخلت إحدى الموجّهات وسألت «إن كان مِن أحد يكتب الشعر أو قصص قصيرة» . في اليوم الثاني سلمتها قصة قصيرة من ثلاث صفحات. فكتابة القصص كانت تستهويني. كنت معجباً بقصص يوسف إدريس . طلبت مني الموجّهة أن أكتب اسمي الكامل وعنواني على الورقة، ففعلت. في العطلة الصيفية من العام التالي، علمت أن قصتي فازت بمرتبة متقدمة على مستوى البلاد، في المسابقة التي ينظمها «إتحاد شبيبة الثورة»، المنظمة الرديفة والتابعة لحزب البعث، وأنه يمكنني أن أشارك في مسابقة ثقافية على مستوى البلاد، في مدينة حلب.

كيافع يعتقد نفسه موهوباً، لم أهتم ولم أكن ملما بالتفاصيل «الخطيرة» المحيطة بمثل هكذا إنتظام، فالمؤسسة التي تنظم هذه المسابقة، كانت تابعة لحزب البعث، أي أنها مؤسسة أيديولوجية وظيفتها الأولى أداة لضبط اليافعين وشرعنة السلطة الحاكمة. شاركت في المسابقة من دون انتباه لكل ذلك، ربما لأن حيز تلك المنظمة الظاهر كان فضاء «مناسباً» لمراهق مثلي. كان فيها إهتمام بالمواهب وفرص لإثبات الذات، ومجال للتواصل مع صبايا من أعمارنا من مختلف مناطق البلاد، وإمكانية سفر وتعارف وتبادل للصداقات.

شاركت في ذلك العام في عدد من اجتماعات الشبيبة البعثية في المدرسة. وفي المعسكر الصيفي للصف العاشر، طُلب مني عرض كتاب عن حرب تشرين. كان كتاباً مليئاً بمديح حافظ الأسد وبـ»منجزاته». في العام الذي تلاه، شاركت في مسابقة ثقافية أخرى، وتم تنسيبنا تلقائياً كطلاب في حزب البعث. ولا أتذكر سوى طالب واحد من صفنا المدرسي، رفض تنسيبه إلى «البعث» وقتئذ. لم أنتبه حينها لتلك «الفظاعات» التي ارتكبتها.

حين أعيد التفكير في ذلك الإنجراف، الذي طال ملايين اليافعين السورين مثلي، أسترجع عدداً من الأسباب المركبة: مناخ المدرسة مثلاً. فمدرستي الأولى كانت تسمى «العروبة»، وكانت خليطاً ملوناً من سكان مدينة القامشلي، ولا يشكل الكرد فيها نسبة عالية من طلابها، وجميعهم ينتمون لأبناء عائلات الطبقة الوسطى فما فوق، أبناء موظفين وتجار ومزارعين، من شتى أطياف سكان تلك المدينة الملونة. لكن المدرسة الأخرى التي انتقلت إليها، فيما بعد، «مدرسة تشرين»، كان جميع طلابها كرداً تقريباً، منحدرين من بيئات أكثر تعرضاً للتعنيف، والتهميش السلطوي، الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي. كان ذلك واضحا حتى في شكل بناء المدرستين. كانت مدرسة «العروبة» مشجرة ومعتنى بها، أشبه ما تكون بفيلا وسيعة، بينما كان مجسم بناء مدرسة تشرين، أشبه ما يكون بسجن سوفياتي.

في المدرسة الجديدة، تعرفت على عالم آخر تماماً، فضاء آخر من عالم المُثل والأفكار، متمركز على وعي قومي كردي مضاد للوعي الذي كانت تنشره السلطة عادة في المدارس. كان جو المدرسة الجديدة يعتبر الانتظام في حزب البعث أو منظمة الشبيبة أشبه بالعار الذي يجب عدم الاقتراب منه. هناك في تلك المدرسة تعرّفت على أصدقاء أكثر حدة وتناقضاً، بالهضم اليسير الذي كنا نخضع له في مدرستنا الأولى. هؤلاء بالضبط هم الذين دفعوني مباشرة، لترك كل تلك الممارسات البعثية التي انجرفت إليها سابقاً.

الأمر الآخر، «الجذّاب»، في مثل تلك التنظيمات البعثية وقتئذ، تمثل بامتيازات المنتسبين إليها، ففي حين حُجر على المجتمع بأكمله أي شكل من أشكال تنظيم الحياة العامة ونشاطاتها، ولو بأمسية شعرية، فإن المنظمات التي كانت رديفة للبعث، كان يتوفر لها الإمكانات كافة، مبان وموظفين متفرغين ووسائل نقل وتغطيات إعلامية. ما أقصده، أنه كان يتم تصحير الحياة العامة للعوام، مقابل حصر كل أشكال الانتظام بمؤسسات بعينها، كانت تقدم لمراهقين مثلي «يظنون أنهم موهوبون» إغراء غير قليل، طالما أنها فضاء فيه بعض الحيوية المفتقدة في المجال العام.

أمر آخر كان يتعلق بي شخصياً. فقد كنت البكر في العائلة، ولم يكن لي من شقيق أكبر مني، ينبهني إلى خطيئة هذا الانجراف. كان أبي غير متعلم ولا يبالي بتفاصيل ما نفعل. أما أمي، فقد كانت مشغولة بعشرة أخوة أصغر مني.

بالنسبة لي، بدأ كل شيء في أواسط الصف التاسع، وانتهى في بدايات الصف الحادي عشر. مقابل ذلك، كان ثمة ثلاث عتبات للخلاص والتعويض النفسي والوجداني عن ذات «العار» الدفين والأليم.

أصدقاء الثانوية في المدرسة الأخرى، التي انتقلت اليها، كان لهم أثر وجداني عميق. فالنزعة القومية الكردية التي كانت راسخة في نفوسهم شكلت «صدمة» بالنسبة لي. كان ذلك أقوى دافع للتفكر بوجود سردية أخرى لهويتنا. والتفكير بالمظلومية الجمعية التي تسكننا كجماعة إثنية قومية، وبالتالي ادت هذه الصدمة الى تعميق الحس بفداحة الاندراج في عالم من البهجة، المتوفرة في التنظيمات الرديفة لحزب البعث، تلك التي لها دور بالغ في تأسيس واستمرار أوجاع جماعة أخرى. لا أخفي أن مزيجاً من النبذ والود، من قبل أصدقاء البيئة المدرسية الثانوية الجديدة، هو ما دفعني لتحس ما كنت فيه من «فداحات». كان لشورش ميرو ـ صديق العمر ـ الاثر الوجداني الأعمق فعلاً في ذلك الاتجاه.

عتبة «الخلاص» الثانية كانت أثناء شهور وسنوات «ربيع دمشق» في بداية الألفية الجديدة. كان لحسن طالع جيلي، أن تترافق بداية حياتهم الجامعية مع التحولات في الحياة العامة، الذي كان يسود البلاد لعقود طويلة. ففي فترة قصيرة انتشرت عشرات المنتديات السياسية في عموم البلاد، ومنها منتدى الأتاسي، الذي كنت ناشطاً فيه لفترة طويلة. ولحسن حظي، أنه بقي المنتدى الأطول عمراً. في شهور انبعاث «ربيع دمشق»، وعبر الحيوية النادرة التي اصابت المجتمع السوري، تعرفت وتفاعلت مع اصدقاء وعوالم جديدة، مليئة بالرحابة ناضحة بالحياة.

مثلما أعادت أجواء وأسئلة «ربيع دمشق» الثقة النفسية بالذات، وحرصتني بقوة للتخلص من ذاكرة تلك الشهور من النشاط في تنظيم رديف لحزب البعث الفاشي، إلا أنها خلقت مسافة وحيزاً بيني وبين طيف واسع من الشبان القوميين الاكراد، وبالذات منهم المنتمون للتنظيمات الشبابية للأحزاب الكردية في دمشق. كانوا ـ بالنسبة لي ـ يعيشون شبه عزلة بعصبيتهم المناطقية، ليس في حيزهم الجغرافي والاجتماعي ونمط صداقاتهم وحسب، بل كذلك في الأسئلة والرموز والنقاشات التي كانوا يتداولونها في أوساطهم، كانت متمركزة محصورة بالشأن الكردي السوري، ومضادة للآخر على صعد عدة.

آخر مراحل «الشفاء» من شقاء «اللوثة البعثية، كانت مع بدء الكتابة في الصحافة العربية، وبالذات منها «ملحق النهار» الثقافي والتعرف على الشهيد سمير قصير، حين أخذت بذلك المزيج الساحر من المعرفة والحس العالي بالعدالة والواجب.. ومن ثم الكتابة في ملحق «نوافذ» المستقبل الثقافي، حين كانت الكتابة المتواصلة لسنوات عن تفاصيل ما فعله البعث بالقاع السوري، الذي أتيت منه، بمثابة رد للاعتبار الوجداني. ولا يخفي طبعاً بأن المشاركة في الثورة منذ لحظاتها الأولى، كانت التتويج الأعلى لنيل الإعتراف بـ»البراءة»، من الذات أولاً. لم يدم تفاعلي في مؤسسة رديفة لحزب البعث سوى سنتين في عمر اليفاعة الأولى، احتجت بعدها لسنوات للثم ذلك الجرح. فيما بعد، وطوال سنوات، كان ثمة في أوقات متقطعة ابتزازات واتهامات لا تستحق الرد والإهتمام، لأنها بجوهرها كانت جزءاً من ثقافة التخوين والعمالة و«التشبيح الرمزي» التي عصفت كلها بالمجتمع السوري، خلال سنوات الإستبداد الطويلة. الكل كان يستخدمها بحق الكل.

هل أخطأت، طبعاً ـ بالرغم من القليل الذي أظنني ارتكبته ـ والعدالة تستوجب الإعتذار؟ أعتذر لأني كنت بعثياً ولو ليوم واحد. البعث وتنظيماته تكوينات فاشية. وما استهلكته في المسابقات التي كانت تنظمها منظمة الشبيبة، كان يجب أن يصرف على عموم يافعي سوريا. ولو ثبت ما يزيد عما أقريت به سابقاً، فإني استحق المحاكمة. وأنا أقبل بذلك تماماً. لكن على المحاكمة نفسها، أن تطال جميع الذين يستسهلون مس المكانة الرمزية للآخرين، ويأخذهم الهوى، من دون أي برهان.

أيها السوريون الثائرون، الذين أعتقد نفسي واحداً منكم… منكم أطلب الغفران.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى