الحوار أو التفاوض: حل ممكن للسوري الحسن النية… ولسيئها أيضاً
جمال أحمد خاشقجي *
عندما تسفك دماء المتظاهرين في الشوارع، ويهانون ويعتقلون بالمئات، وعندما تقاد التظاهرات من الشباب، وتتعدد القوى السياسية وتتداخل بين محترفة معارضة وجديدة طارئة، وناس في الداخل وآخرين في الخارج، يصبح التنسيق والاتفاق صعباً على التفاصيل إلا على «الشعب يريد إسقاط النظام»، وعندما تصبح الفضائيات ساحة للمزايدة ورفع سقف المطالب، حينها يسيطر على الجميع شعار «لا حوار حتى إسقاط النظام».
كل هذا حصل ويحصل في سورية، وليتهم يتعظون بفشل أسلوب كل شيء أو لا شيْء الذي وقعت فيه الثورتان اليمنية والليبية.
الحوار أو التفاوض تكتيك جيد دائماً لكسر الجمود، وتدوير الزوايا، وأداة ضرورية للمناورة، ولا يكون عادة بين أصدقاء، بل بين أعداء يكيد كل طرف منهم العداء للآخر. يمكن أن تدخل طاولة الحوار حاملاً أسوأ النيات بينما تبدي أحسنها، والغريب أن الحوار والتفاوض ميزة ترفع من قيمة المعارض الذي كان النظام لا يتعامل معه إلا بالجلب إلى دائرة الاستخبارات، فإذا به يرتفع بفضل الثورة فيجلس مع رؤوس النظام الذي يخفضهم الحوار من عليائهم وهم القادمون من نظام قمعي شمولي لا يحسن غير سياسة «ما أريكم إلا ما أرى»، وإذا برئيس الاستخبارات أو نائب الرئيس يتواضع ويخاطب المحامي أو إمام المسجد الذي كان معتقلاً تحت رحمته قبل أيام قائلاً: «يجب أن نعمل معاً يا أستاذ من اجل مصلحة البلد».
حصل هذا في مصر عندما دعا نائب الرئيس عمر سليمان وفوداً من الأحزاب والقيادات الشبابية للحوار معه، في الأيام الأولى للثورة المصرية. لم يتم الاتفاق على شيء يذكر. الجميع كان يناور. النظام يريد أن يقسم المعارضة وإضعاف جذوة الغضب في ميدان التحرير، والأحزاب بخاصة «الإخوان المسلمين» يومها كانوا يريدون كسر «تابو» عمره نصف قرن جعلهم جماعة محظورة وهم من هم على الساحة السياسية.
ذلك اللقاء الشهير غطي في شكل واسع حتى من الفضائيات العربية، أحد نتائجه هو أنه أرسل رسالة الى المحتشدين في التحرير بأن هذا النظام يتهاوى بعدما شرع في قبول ما كان يحرّمه ويمنعه.
هذه هي الرسالة التي يحتاج إليها السوريون بعدما عجز عنها الليبيون واليمنيون ما أدى إلى تكلس حال الثورة عندهم وانسدادها إلا على العنف. النظام السوري لا يجيد الجلوس الى طاولات المفاوضات. يجيد الجلسات الاستعراضية الشكلية ذات البرنامج المحدد والهتافات المتفق عليها سلفاً، أما الحوار الحر، فهذا شيء جديد، ولعل ذلك يشرح تعطل لغة الحوار في اجتماع الأحد الماضي بين مثقفين وسياسيين واعضاء في مجلس الشعب في فندق بالعاصمة السورية. بدأ الاجتماع برفض من إدارة الفندق لعقده، ثم تلاسن وضرب بين أنصار النظام، ومن هم ليسوا تماماً من أنصار النظام وليسوا تماماً من المعارضة، فإذا كان اجتماع قريب من النظام يلتئم بصعوبة فكيف باجتماع تحضره المعارضة من الداخل والخارج بما في ذلك «الإخوان»؟ بالتأكيد سيرسل ذلك أكثر من رسالة الى سكان دمشق الذين ما زالوا يركنون إلى الدعة والسلامة في بلد جلّه منتفض.
هناك فوائد عدة لدفع النظام نحو الحوار، فإن كنت حسن النية، قد يؤدي الحوار إلى فتح آفاق أوسع للرئيس بشار الأسد من أجل تطبيق إصلاحاته، مثل انتخابات حرة أوائل العام المقبل، تحت رقابة دولية تطلق فيها حرية الأحزاب والتجمع والإعلام. ما سبق سيكون ثورة في سورية المغلقة لو تحقق، ويكفل نقلها إلى عالم آخر من دون كلفة الدم والتدخلات الأجنبية، ولكني أسمع سورياً فقد الثقة في رئيسه ونظامه يصرخ: «مستحيل أن يقبلوا بانتخابات حرة، ستقضي عليهم، لن يفوز منهم أحد». كلامه صحيح ولكن بذلك يتم التدافع السلمي حتى يقبلوا بقوة التاريخ.
هنا يأتي أيضاً توظيف التفاوض من سيء النية، ولكن بمقاصد حسنة. دفع النظام إلى التفاوض يفككه. ينثر الخلافات في صفه الموحد. هناك من سيعارض الحوار بقوة. هل يحتمل ماهر الأسد من يطالب بمحاسبته؟ هل يقبل الرئيس بنقل الكلام القاسي الذي سيقوله عارف دليلة أو المراقب العام لـ «الإخوان» على التلفزيون السوري؟ التفاوض يكشف الأنظمة الديكتاتورية ويفضحها.
التفاوض فرصة لفرض الشروط: لن نقبل بأي حوار إلا بعد وقف تام لإطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين، وأن يكون الحوار علنياً وبحضور الإعلام العربي والعالمي، وأن تشارك فيه الحكومة التركية كمراقب، وأن نحصل على ضمانات بسلامة المشاركين وأن يشارك الرئيس شخصياً وفلان وفلان. شروط عالية؟ أبداً، إنه زمن الشعوب.
مصادر أكدت لي أن النظام اتصل بقيادات من المعارضة السورية بما في ذلك «الإخوان»، ولكن كلاً على حدة ودعاهم إلى زيارة دمشق للحوار. هذا تكتيك قديم لتقسيم المعارضة. البديل أن تخاطب المعارضة النظام وهي متحدة وتدعوه الى التفاوض وفق شروطها.
بالتأكيد ستعجز المعارضة المتباينة أصلاً عن الوصول إلى إجماع حول الدخول في حوار مع النظام، أو تشكيل الوفد. هذا أمر طبيعي، سيخرج أحدهم من استوكهولم على قناة «الجزيرة» يحذّر المتاجرين بدماء الشهداء، وآخر من باريس على قناة «العربية» يصف الحوار بأنه خيانة لأنه يجري مع حكومة غير شرعية. هذا كله جزء من طبيعة الثورات ولا ينبغي أن يدعو للقلق.
الميزة الأهم لورقة الحوار هي الدعم الخارجي. الدول المستقرة من حول سورية كالأردن والسعودية وتركيا تفضل حلاً توافقياً، ومعها أوروبا والولايات المتحدة، وقد قيل إن الأخيرة قدمت ورقة عن حسنات الحوار تم تسريبها الى صحيفة «الغارديان» الأسبوع الماضي، وهو ما سيشجع هذه الدول على التورط. أقصد الاهتمام أكثر بالشأن السوري وهو ما يزيد الضغط على النظام.
* كاتب سعودي