الدولة الأمّة ليست حتمية تاريخية/ وسام سعادة
النواح على «الدولة الأمّة» في معشر المثقفين العرب هو المكمّل المنطقي لأسلوبهم في اعتمادها وفي التبشير بها. فبدلاً من أن يدفعهم تحطّم صنمهم هذا من سوريا الى العراق الى فلسطين (حلّ الدولتين)، أو تحوّله الى شيء لا يعجب الكثيرين منهم في مصر، تراهم يصرّون عليه، وأقصى نقد ذاتي قد يقدمون عليه هو محاولة مسح الغبار عن الصنم وتلميعه، علّه يمارس سحره مجدّداً، أو ينجح في فكّ طلاسم السحر الأسود هنا وهناك.
بعد أفول حركة القومية العربية وفكرتها، واستئثار «الأمم المتحدة» بنسب «الأممية» عوضاً عن «الأممية البروليتارية»، كانت مقولة «الدولة الأمّة» ضالّة الكثيرين. فهذا انتشلها من كتاب لم يكمل قراءته لحنّة ارندت، وذاك انتقلت اليه بالتواتر عن «ارادة العيش سوية» في التصور السياسي عن الأمّة المنسوب الى التجربة الفرنسية عموماً، والى نظرية ارنست رينان في الأمّة على وجه الخصوص.
الاستدراك الأوّل في مبحث القومية وتاريخ الحركات والأفكار القومية اليوم هو ان التصورين الالماني والفرنسي للأمة ليسا متضادين الى الدرجة التي شاع تقديرها سابقاً، فلا التصور الألماني «عضوي» محض، ولا التصور الفرنسي «ارادوي» محض. التشديد الألماني على رابطة اللغة مأخوذ عن الفرنسيين، أما مفهوم «العرق» وخلفيته البيولوجية، فلم يكن هامشياً لا في التصور القومي الألماني ولا في التصور القومي الفرنسي. ليس هناك من دولة أمّة مشكّلة على قاعدة «تعاقد سياسي مصلحي» محض الا في تهويمات الليبراليين العرب. فاذا اجتمعت أقصى الارادوية تلك مع أقصى التسليم بالكيانات الوطنية دون أي مساءلة لعملية التشكيل الكولونيالي لها، بانت عبثية الطرح.
من التمارين الليبرالية العربية على عملية التعوّد على الكيانات الوطنية المشكّلة كولونيالياً، ونصبها كدول أمّم، أنّ الاستعمار كما الغيب، يُشكّل، ويُفصّل، وللأقوام المستجمعة أو المفرّقة أن ترضى بالمكتوب. في هذه التمارين، الاستعمار قد يوحّد شبه قارة بأكملها، أو يقسّم اثنية واحدة. في الحالتين، ينصح أصحاب التمرين الناس بالتسليم بالمكتوب. طبعاً، فكرة ان الاستعمار البريطاني مثلاً لعب دوراً «توحيدياً» للهند وان الحركة الاستقلالية الهندية كانت حكيمة فقبلته هي فكرة تنمّ عن جهل مهول بالتاريخ الهندي الحديث. دعك من التقسيم بين دولتين هندوسية واسلامية. الأهم من ذلك هو ملاحظة كيفية تقسيم كيانات ذات خواص هوياتية وترابية مراكمة على امتداد قرون: البنجاب والبنغال.
بمثل هذه التمارين، وجد، بدءاً من مطلع التسعينيات من القرن الماضي من يقول انّ «الدولة الأمة هي الحل» بمعنى ان على كل شعب عربي ان يرضى بالكيان الوطني المفروز له، و»يعيشه» كدولة تامة مستقلة بذاتها ولذاتها، لها ما للدول الأخرى وعليها ما على الدول الأخرى.
الحاصل انه، في مرحلة تسابق فيها المثقفون العرب لنفض أيديهم من الماركسية السوفياتية ونظرية تعاقب «أنماط الانتاج» الخمسة الرئيسية عبر التاريخ، انتشرت الليبرالية البديلة، انما على صورة الماركسية السوفياتية ومثالها، حيث تتعاقب «أنماط سيادة» تختم واحدة الأخرى عبر التاريخ، القبيلة فالمدينة فالمُلك فالامبراطورية فبلوغ سنّ الرّشد، بالسيادة الحديثة، أو الدولة الأمّة، المحكومة بهرم القوانين «تحت فلك الدستور» داخلها، وبمعاهدات القانون الدولي بينها وبين الدول الأخرى.
وكما كانت المشكلة مع الماركسية السوفياتية، في أنّ «تعاقبية» أنماط الانتاج تظلّ قاصرة عن مشاهدة ودراسة تساكن أنماط مختلفة في زمن واحد، أو يجري اختزال هذا التساكن في باب «الآفل والصاعد»، «الذاهب والآتي»، كذلك المشكلة مع «تعاقبية» أنماط السيادة. فمن يبشّر بتوالي أنماطها، من السيّد على قبيلته، الى المتسيّد في ملكه، إلى السيادة الممأسسة الحديثة، ليس بمقدوره الذهاب بعيداً في تقدير أسباب وطرائق تساكن أنماط مختلفة في اقليم واحد، بل انه حين يفصح عن كيفية استيعابه للتاريخ الحديث يأتيك العجب: هو مثلاً يتحدّث عن قيام الدولة الأمّة كما لو أنّ لها يوم ولادة محدّد، و»اجتماع سقيفة» خاص بها، ويجعل ذلك في معاهدة ويستفاليا عام 1648.
طبعاً بعد حرب الثلاثين عاما التي انتهت الى هذه المعاهدة سيضعف شأن «الامبراطورية المقدسة الرومانية الجرمانية» وسيزيد المنسوب «الترابي» للممالك الأوروبية على حساب المنسوب «الامبراطوريّ» غير المحصور، رمزياً، بتراب. لكن تأريخ قيام الدولة الأمة بمعاهدة ويستفاليا فيه تهويم كثير، خصوصاً عندما «يؤخذ على محمل الجد» أكثر من اللازم. ففي ويستفاليا حضرت مئة وخمسون امارة المانية متعددة الاحجام والمراتب. هل هذه «دول أمم»؟.
وبعد ويستفاليا استمرّ الاطاران الامبراطوريان بالنسبة الى الأقوام الناطقة بالألمانية. رمزياً، الامبراطورية المقدسة الرومانية الجرمانية التي ضعفتها المعاهدة استمرت لقرن ونصف القرن بعد ذلك الى ان الغتها امبراطورية اخرى، هي الامبراطورية النابليونية، لتجري احياءها بعد هزيمة فرنسا ومؤتمر فيينا في صيغة كونفدرالية جرمانية مهلهلة. وامبراطورية ال هابسبورغ التي كان رأسها هو نفسه رأس الامبراطورية المقدسة الرومانية الجرمانية استمرت الى نهاية الحرب العالمية الاولى. أليس عجيباً، في الأساس، ان يسقط مفهوم «الدولة الأمة» على معاهدة ويستفاليا، فيما لم تعرف ويستفاليا نفسها من دولة أمة تعيش في دوحها الا بعد قيام الوحدة الالمانية بعد المعاهدة بمئتي عام؟! الأجدى تدريب المثقفين العرب على تقنين الاستخدام المكثّف لاستعارة .. ويستفاليا!
منذ قرون عديدة تعيش البشرية مرحلة من التعايش بين أنماط مختلفة من السيادة السياسية، السيادة بالمعنى الحديث، أي الدولة الأمة، تطور أشكال مختلفة من التشابك والتماهي والتباعد والانفصال مع الدولة – القبيلة والدولة – المدينة ومع الدولة – الامبراطورية. هي «بَين بَين»، أكثر منها مرحلة تفرض نفسها في التاريخ على انقاض مراحل أخرى. فاذا نظرت مثلاً الى قائمة «الدول – الأمم»، بالمجاز القانوني، الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، لظهر ان العديد منها تستبقي البعد الامبراطوريّ كعنصر مستمر لتعرّفها على ذاتها، ولمعنى المواطنة فيها، وكإرث أو أفق للتعاطي مع سواها. ولظهر أنّ «دول – أمم» أخرى، الى «المدينة – الدولة» أقرب، الى «دولة السيطرة الاثنية لقوم على أقوام أخرى».
… . الحتمي هو استمرار التساكن بين أنماط مختلفة من السيادة في وقت واحد. عندما نقرّ بذلك يمكن اعادة تنظيم العلاقة مع واقع تهافت كياناتنا الوطنية المشرقية، أو مع الشكل الذي اتخذه التمسّك بالدولة الأمّة مصرياً، بشكل أفضل. المهم أن نوقف معزوفة .. «ويستفاليا».
٭ كاتب لبناني
القدس العربي